أخذا برأي الإخوة، أبدأ هذه السلسلة بالكتابة عن اسم الله الرحمن. بداية هذه المسألة كانت سنة ٢٠١٠ أو ٢٠١٢ تقريبا إن لم تخني الذاكرة، و نشرت مقالة في مدونتي القديمة عن معنى اسم الرحمن. الفكرة كانت باختصار أن اسم الله (الرحمن) اسم علم كما هو اسمه “الله”. يعني ليست من الأسماء من مثل (الرحيم، العزيز، الحكيم) و التي قد يتسمى بها غيره و الأسماء التي يفهم مباشرة نعوته سبحانه و تعالى. و أنه اسم رب المخلوقات التي لا نراها (الملائكة و الجن…الخ) و التي خارج نطاقنا الحسي. و ليس فقط اسم يخوّف به الله عباده كما قال أبو عرفة بارك الله فيه، و لا اسم فقط يجتمع فيه الأضداد كما قال شحرور رحمه الله. لمزيد من التفاصيل اقرأ كتاب النظرية الكبير أو المختصر (آن).
نعود لاسم الرحمن، لاحظ ورود اسم الرحمن في القرآن، أين تجده؟ وفي أي السور التي وردت؟ نجد أكثر ورود لهذا الاسم في السور التي أزعم أن لها علاقة بالجن والعالم الخفي (الغيبي) والتي تبدأ بالأحرف المقطعة، مثل سورة البقرة ومريم وطه والأنبياء والفرقان والشعراء والنمل ويس وفصّلت والزخرف وق والرحمن والحشر والملك والنبأ. مرة أخرى تفصيل هذه العلاقة يطول جدا و ليس من غرضي في هذه السلسلة.
تأملت اسم الرحمن في القرآن الكريم فوجدت أن هذا الاسم بخلاف ما يعتقده أكثر الناس من أنه أبلغ من الرحيم، أو أنه فقط اسمه يخوّف به الله عباده، صحيح هذا الاسم فيه معاني الهيبة والعظمة والعزة والكبرياء ومعاني الملك، وليس فقط الرحمة كما ظن بعض أهل التفسير، بل إني أظن أن ما قاله العلماء في معنى اسم الرحمن بأنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة قد تكون بعيدة عن حقيقة معنى هذا الاسم، أعني اسم "الرحمن"، فإن هذا المعنى أقصد ذو الرحمة الواسعة نجده في اسم الله "الرحيم" ولكن لا أدّعي أن معنى اسم الرحمن لا يشمل الرحمة، فبعض أسماء الله تلزم أسماء أخرى كذلك اسم الله تلزم أشياء كثيرة.
بعد تدبري للآيات التي فيها ذِكر اسم الرحمن وجدت أن هذا الاسم العظيم يأتي على أكثر من وجه، لكن أظهرها هذا الوجه؛ مناسبة مع الغيب (العالم الآخر أو كما يسميه بعض العلماء الملكوت) واليوم الآخر والوعيد. أمور لا تستطيع أن تجعلها تحت الاختبار الحسي.
سأضرب بعض الأمثلة لأوضح ما أقصد، ذُكِر اسم الرحمن في سورة البقرة في الآية 163 ((وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم)) لكن تأمل الآية التي قبلها، قال الله سبحانه وتعالى: ((خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون)) وبعدها مباشرة قال: ((وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم)) فهنا نجد اسم الرحمن لأن قبلها فيه ارتباط بيوم القيامة.
نجد في سورة مريم أن اسم الرحمن ذكر مرات كثيرة، مثال ذلك: ((قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً)) تأمل استعاذت مريم عليها السلام باسم الرحمن ولم تقل أعوذ بالله العزيز أو أعوذ بالجبار أو القوي الخ، وهذا واضح لأن في حالة الخوف والضعف الإنسان يستعيذ بأقوى شيء يعرفه، و إن أضفنا على ما سبق و قلنا: إن الاسم له علاقة بالغيب أو العالم الخفي، فلهذا استعاذت مريم من الروح الذي تمثّل لها بشراً سوياً، إذ عرفت أنه مخلوق خارق للعادة وليس كبقية الإنس.
أما إن أخذنا اسم الرحمن على المعنى المتعارف عند أهل التفسير والناس عامة، ربما من أراد أن يسيء إلى مريم سيقول: "نعم إن كان رحماناً فسيغفر لي وسيسامحني فرحمته وسعت كل شيء الخ" بخلاف إن ذُكِر أمامه الاسم العظيم الذي يعرفه الإنس و الجن. سأضرب لك مثالاً لأوضح لك ما أقصده، تخيل إن كان عندك إنسان حليم ورؤوف ورحيم، وآخر قوي جبار قادر فبأي منهما ستخوف وتحذر وتهدد وتتقي؟ إن جاءك سارق يريد أن يسرق منك، هل تهدده بإنسان رؤوف رحيم أم بالشرطة والمحكمة وغير ذلك؟ هذا واضح لمن تأمله والله أعلم.
في نفس السورة نجد اسم الرحمن في الآية: ((يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن)) قالها إبراهيم عليه السلام يُحذّر والده ويذكره بالله فاستخدم الاسم اللائق لمقام التخويف، لأن لهذا الاسم كما قلت له علاقة قوية مع ملك الله وعظمته ويوم القيامة والوعيد. ثم إن إبراهيم عليه السلام كان حريصاً أن يؤمن والده فلم يكن ليستخدم اسماً من أسماء الله فيها معنى الرحمة الواسعة العظيمة فإن المقام مقام تحذير وتخويف، وإن كان معنى اسم الرحمن كما هو متعارف عليه اليوم بين الناس فربما كان في قلبه يكون: "هو الرحمن لن يعذبني" كما يقول معظم النصارى اليوم خاصة عندما تدعوهم إلى الإسلام، والأمر الأهم أن هذا الخطاب كان من إبراهيم لآزر، وقد بيّنت في هذا الكتاب أن آزر من الجن، فناسب أن يُذكّره بالرحمن، ولعلّ هذا الاسم أعني اسم الرحمن هو الاسم العلم للإله عند الجن.
تأمل أيضاً في سورة مريم قال الله سبحانه وتعالى: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)) سجداً وبكياً، وكأنه مقام خشية وخوف كما أخبر الله عن خشية الملائكة في آية أخرى فناسب أن يذكر اسم الرحمن. ولاحظ ماذا قال بعدها: ((فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)) تأمل هذه الآيات تجدها مرتبطة ارتباطاً شديداً مع اليوم الآخر، ومن آمن باليوم الآخر فهو لا شك يخاف العذاب، واليوم الآخر من الغيب، ففي هذه الآيات تجد الأوجه الثلاثة التي ذكرت واضحة جلية والله أعلم.
وأيضاً هذه الآية من نفس السورة: ((جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا)) تأمل الغيب ووعده، وقال في نفس السورة: ((ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا)) وهذا مقام تهديد ووعيد، وفيه هيبة وعظمة وتخويف ما الله به عليم، وهو مرتبط باليوم الآخر فناسب ذكر الاسم الذي فيه صيغة آن اسم "الرحمن".
ضع مكان الرحمن اسم الرحيم في الآيات السابقة وستجد بأنه لا يليق أبداً بالمقام ولا اسم الرؤوف أو الودود، كلها لا تليق مثل اسم الرحمن.
لنكمل معاً، اقرأ هذه الآية: ((قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا)) مقام وعيد وتهديد واليوم الآخر، وكذلك الآية التالية ((أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا))، تأمل الغيب وتمعّن فيما بعدها: ((كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا))، الرحمن ويمد له من العذاب مداً؟ سبحان الله! وهكذا تأمل في سورة مريم ستجد فيها علامات ظاهرة لنظرية آن، لن نفهم هذه الآيات جيداً إن قلنا: إن معنى اسم الرحمن هو المعنى المشهور عند الناس من المبالغة في الرحمة، لن يستقيم أن تقول: الرحيم سيعذب فلاناً تعذيباً، ولكن لو قلت: العزيز أو الجبار أو غيرها من أسماء الجلال فنعم! لذلك فلا أشك أن اسم الرحمن فيه من معاني الملك والعظمة والهيبة والقوة ومناسبة مع الغيب والعالم الخفي والمخلوقات الخفية بخلاف ما يقال عن هذا الاسم من قبل العلماء رحمهم الله.
ومناسبة مع الغيب واليوم الآخر نجد قول الله سبحانه وتعالى: ((يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا)) تجد كيف معنى الملك واضح جداً في هذا الاسم، وتأمل كيف هو مرتبط باليوم الآخر، وأيضاً في هذه الآية ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)) تأمل كيف استخدم الرحمن ولم يستخدم اسم الودود أو الأسماء التي فيها معاني الرحمة والشفقة لأن الملك العظيم ذا الكبرياء والعظمة إن أحبك وودّك فأنت تفرح بذلك أكثر بكثير من إن أحبك إنسان هو بطبعه ودود ورحيم.
وهذا نجده في الحياة اليومية، بمعنى إن كان أمامك شخصان، أحدهما شديد العقاب والثاني رؤوف رحيم، من تفضل أن يرحمك؟ لا شك أن الغالبية سيفضلون أن يحبهم من يخافونه ويخشونه، لأن ذلك فيه طمأنينة بنسبة أعظم إن أحبك من هو حليم رفيق رحيم.
ثم تأمل العظمة في آخر آية في سورة مريم: ((وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا)) فإن أخذنا المعنى المتبادر لعل لقائل يقول: هذا هو الرحمن لماذا يهدد وأتى بالوعيد، وختم السورة بأنه أهلك القرون وغيرها، هذه الأمور تليق بأسماء العزة والجلال مثل العزيز والملك والجبار والعظيم؟ وسبحان الله تأمل في قوله (هل تحس) و(أو تسمع لهم) مما يدل على ما ذكرت.
قال الله سبحانه في سورة طه: ((طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى * تَنزِيلا مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى)) طبعاً اسم الرحمن موجود، لكن تأمل في الآيات ستجد الأوجه الثلاثة التي ذكرتها في بداية هذا الفصل موجودة، انظر علاقة الرحمن بإنزال القرآن مثله كمثل آية أخرى (( تنزيل من الرحمن الرحيم)) والآية التي بعدها تذكرة لمن يخشى أي يخشى الرحمن ويوم القيامة، وبعدها بدأ بذكر ملكه وعظمته وكبريائه فذكر بعد خلق السماوات والأرض أنه على العرش استوى، فلم يستخدم أي اسم آخر إلا الرحمن، لأن العرش أعظم المخلوقات، وكما قال علماء السلف بأن العرش فوق جميع المخلوقات وقد وصف الله العرش بالمجيد والعظيم الخ كلها أسماء فيها هيبة وعظمة فناسب أن يقول: ((الرحمن على العرش استوى)) لأن هذا الاسم فيه هيبة وعظمة وملك بخلاف ما يظنه معظم الناس من معاني الرحمن، ولم يستخدم اسم الملك أو المالك، ولكن الرحمن، لأن اسم الملك يندرج تحت اسم الرحمن والله أعلم، وجميع تلك الأمور من الغيب، من إنزاله القرآن ومن استوائه على العرش ومن حكمه يوم القيامة.
في سورة طه نجد آيات عظيمة، أعني هذه الآيات: ((يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا)) هذه الآية من تأملها وجدها أشبه آية بآية الكرسي من سورة البقرة، لكن الفرق هنا أنه مخصوص بذكر يوم القيامة، وفيه ذكر للجن أعني السامري، فناسب أن يذكر الرحمن، أما في آية الكرسي بشكل عام فناسب أن يكون الاسم: "الله"، هذا أولاً.
أما ثانياً: تأمل كيف قال الله سبحانه وتعالى: (وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً) ومثل هذا الخشوع عادة يكون في حضرة الملوك ذوي الهيبة والعظمة، أما الملك الودود والرحيم فبخلاف هذا، ولله المثل الأعلى ولكن تأمل في أخبار ملوك الدنيا تجد ما أقوله لك صواباً.
في سورة يس نجد هذه الآية: ((إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ)) تأمل بما أن الموضوع فيه غيب وخشية واتباع للذكر فناسب استخدم الرحمن فهذا مناسبة الثلاثة أوجه التي ذكرتها.
وأيضاً قال في سورة ق: ((مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ)) وكما قلت في البداية: هناك وجه آخر متعلق بالقرآن والذكر، فقال الله: من اتبع الذكر، وقال في نفس السورة: ((قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ)) تأمل قوله: ما أنزل الرحمن وكأن هناك مناسبة، وتأمل الوجه الثالث أقصد المناسبة بين اسم الرحمن ويوم القيامة تأمل في نفس السورة قول الله سبحانه: ((قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)) وكأن أخص اسم لله في يوم القيامة هو الرحمن لأنه الاسم الذي له علاقة بالعالم الخفي والغيب والمخلوقات الخفية، تأمل ما قال الله سبحانه وتعالى في سورة النبأ: ((يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لّا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا)) هذا يوم القيامة، وتأمل ذكر الروح والملائكة وكلهم لا يتكلمون من هيبة الله وعظمته وهذا يشبه آية سورة طه: ((وخشعت الأصوات للرحمن)). وفي مناسبة تكرار ذكر الرحمن في سورة مريم وورود ذكر الروح في سورة مريم ثم ورود الروح والرحمن في آية من الدلائل والعلامات على النظرية لقوم يتفكرون.
أذكر مرة تكلمت مع أحد الفضلاء وتلميذ له عن سر ذكر الرحمن في سورة تبارك: ((ما يمسكهن إلا الرحمن)) وفي سورة النحل: ((ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله)) فبعد أن لم أجد الإجابة عندهم قلت: لعل السر أن سورة النحل هي سورة النعم وفيها من تسخير الله مخلوقاته ونعمه الشيء الكثير والظاهر، يعني يراه الإنسان ويتنعّم بتلك النعم، وأما سورة الملك فكون اسم السورة "الملك" ففي ذلك الكفاية. اسم السورة سورة "الملك" فلذلك ناسب أن يذكر اسم الرحمن وليس هذا فحسب بل السورة لها علاقة بالغيب علاقة ظاهرة.
إن تأملت سورة الملك لوجدت أن اسم الرحمن تكرر فيها أربعة مرات، قال الله سبحانه: ((الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ))، ففي هذه الآية بيان الوجه الأول (ملك الله وعظمة الله وكبريائه)، وقال الله سبحانه أيضاً: ((أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ))، وقال أيضاً: ((أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ))، وقال أيضاً: ((قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ))، وهنا لطيفة، أن الإنسان في حياته عادة يتوكل على شخص قوي وعزيز يستطيع تنفيذ أمره ولا يمنعه مانع، تأمل الآية التي قبلها والسياق ولله المثل الأعلى ستجد مناسبة ذكر اسم الرحمن في هذا الموضع.
باختصار الذي أريد أن أقوله: هو أن اسم الرحمن هو اسم عَلَم، اسم العلم الذي يعرف به الله في العالم الغيبي والخفي، عند المخلوقات التي لا نراها ولا نفقه كلامها وهو اسم الملك العظيم الذي يهابه الكل، وهذا الاسم خاص بالله سبحانه وتعالى لا يشاركه فيه أحد، ولا يمكن أن يترجم مثله مثل اسم الله، والعجيب أن هذا الاسم هو الاسم الوحيد الذي هو آية بحد ذاته، أعني الآية الأولى من سورة الرحمن هي "الرحمن" بمعنى أن الرحمن آية بحد ذاته، وسبحان الله هذا الاسم هو الاسم الوحيد الذي عنون به سورة كاملة، هذه السورة التي فيها خطاب مباشر للثقلين، الإنس والجن