Tuesday, February 28, 2023

القراءة التحيزية

 

كثير منا لا يكاد يسلم منها، كثير منا ضحايا التحيّز و التعصّب الفكري حتى عند قراءة الكتب و مشاهدة محاضرات و دروس التي تنشر على اليوتيوب، و هذا ليس بظاهر على عامة الناس فحسب بل حتى العلماء و أهل الفكر كذلك. و هذا شيء لا أنكره فشيء طبيعي أن يقرأ الإنسان أو يبحث عن الذي يوافق هواه لكني لا أرضاه لنفسي و لمن يستحق اسم الباحث في المسائل الكبيرة. فمثلا إنسان يبحث في مسألة هيئة السماوات و الأرض، لا يصلح فقط أن يقرأ لما يوافق هواه. يقرأ لمؤرخي يعتنقون فكرة دون أخرى و بالتالي يقرأ دراساتهم التي هي الأخرى متحيّزة و من ثم يصدر حكما عاما في المسألة فيقول أهل التاريخ أجمعوا على هذا أو قالوا هذا. لا إن كنت باحثا بحق، و تبحث في مسألة هيئة السماوات و الأرض، كما تقرأ لكتب تنصر على سبيل المثال النموذج الكروي، فاقرأ كذلك الكتب الأصلية التي تنصر النموذج المخالف للنموذج الذي تعتنقه و عليك أن تقرأ بشكل كافٍ. فمثلا إن قرأت ٤٠ كتابا يوافق هواك فلا يصلح أن تقرأ كتابا إلى ثلاثة كتب للفكرة التي تخالف هواك فإن هذا من التحيّز الواضح. لكن إن كنت باحثا بحق على الأقل تقرأ لعشرون كتابا يخالف ما أنت عليه و هذا ما لا يفعله أكثر الناس اليوم. اسأل نفسك و اسأل من حولك ستتأكد من ذلك. بل اسأل أهل العلم الذي تعرفهم و تستشهد باختياراتهم و تشيد بعلمهم و تعتنق أفكارهم و كأنها دين ستجدهم لا يفعلون ذلك. اسأل أي منظّر للنموذج الكروي اليوم، هل قرأ غير الكتب المختصرة المنتصرة للنموذج الكروية؟ هل قرأ أصلا كتب نيوتن و كتابات كوبرنيكوس فضلا أن يقرأ للمخالف؟ ستجد أن أكثر شبابنا اكتفوا ببعض قنوات اليوتيوب مثل باختصار و ما ينشره الغرب مثل قناة ديف و غيره ثم يقول لك أنا باحث في هذه المسألة بل قتلتها بحثا! يا رجل استريح، لم تقرأ شيئا، إنما تقع على ما يوافق هواك. فإن أصرّ أنّه قرأ للمخالف فاطلب منه ماذا قرأت؟ ستجد قراءاته متواضعة جدا لا تعدو كتابين و ستجده أنه فقط استمع لقنوات مثل ختلة أو على الفطرة و من ثم أصدر حكما عاما على الرأي المخالف! و لو أنّه كان باحثا بحق لقرأ ثلاثون كتابا على الأقل. في مكتبتي الإلكترونية ما يزيد عن ١٠٠ كتاب تخالف النظريات العلمية الحديثة و الذي يغلب على ظني أن هذا الذي يدّعي هذه الدعوات الكبيرة أنه باحث مستقل لا يعرف أسماءها فضلا عن قراءته لها! إن تكلّم عدنان إبراهيم عن التطوّر فرح و أصدر حكما عاما يوافق هواه و يوافق ما عليه الدكتور عدنان، و كذلك إن تكلّم في موضوع هيئة الأرض، ما أن ينشر أحدهم رأيا يوافق رأيه يفرح به و يطير به فرحا ليس لظهور الحق، إنما ظنا منه بأفول الفكر الذي يخالفه و انتصار الرأي لذي يوافق هواه…


مثال آخر عن القراءة المتحيّزة، في موضوع التنوير، أو بالأحرى القراءة المعاصرة، تجد أكثر الذين تأثروا بالدكتور محمد شحرور رحمه الله لا يقرؤون للفكر المخالف، فيظنّون أنّهم على الحق و ما خالفهم هو الباطل. اسأل من حولك، هل من قرأ لشحرور مثلا قرأ كتاب بيضة الديك؟ أو كتاب تهافت القراءة المعاصرة؟ ستجد الغالبية أنّهم لم يفعلوا ذلك و ما وجدوا من كتب قيل عنها تعارض أفكار الدكتور سيصدرون عليها حكما بأنها كتب متخلفة سلفية أو لا ترقى لمستوى كتابات شحرور. للأسف قد تجد بعض هؤلاء قريبا أن ختم كل كتب دار الساقي ولكنه لم يقرأ أكثر من ثلاثة كتب في نقد التنوير و القراءة المعاصرة و ثم ينصّب نفسه متحدثا و حكما على الآراء و الأفكار التي تخالف ما عليه أهل التنوير و الذي يزعجني أكثر من هذا تسميتهم بالباحث المستقل. لا يا رجل، لست باحثا مستقلا إنما أنت قارئ في تراث أهل التنوير لا أكثر. 


و هذا يحدث أيضا عند السلفية، حتى الآن أذكر عندما كنت صغيرا كيف كانوا ينهوني عن قراءة كتب الغزالي أو تفسير الفخر الرازي، و يصدرون عليها أحكاما و هم أصلا لم يقرؤوها و لا يعرفون ما فيها إلا شذرات قرؤوها في كتب تحذّر منهما أو دروس و محاضرات سمعها لبعض الشيوخ ثم يدّعي أنّه منصف، يا رجل لست منصفا فدع عنك هذا، إنّما أنت مقلّد لا أكثر من ذلك. 


و مثال آخر، من تأثر بمحاضرات أبو عرفة و أفكاره، ستجده يشق عليه أن يقرأ لما يخالف رأيه أو يسمع لمن يخالفه، و ستجده في عجلة يريد اصدار الأحكام قبل أن يسمع أو يقرأ الرأي المخالف. لا يشق عليه أن يسمع ٤٠ ساعة لأبي عرفة و يشق عليه أن يسمع أو يقرأ ثلاث ساعات في الرد عليه ثم يسمي نفسه باحثا مستقلا و أنّه متدبّر مستقل للقرآن، يا رجل! 


و هكذا ستجد كثيرا من الذين يحبون أن يُلقبّوا بالباحث و المفكّر ستجدهم كذلك، يدّعون دعاوي كبيرة غير أنّهم عند التطبيق لا يطبقونها البتة. ((كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ))