Wednesday, April 20, 2022

و لكم في الأرض مستقر

 (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) {البقرة ٣٦}


الذي أفهمه من هذه الآية أنّ مُستقرّ الإنسان الأرض وليس المريخ و الكواكب التي سموها بأسمائهم. ولاحظ أن في كلام الله العزيز الحكيم لم يقل فيه: ولكم في الأرض مقام إنما قال (و لكم في الأرض مستقر)، والمستقر في معاني اللغة تفيد الثبوت. و من فوائد الآية أنّ المتاع لن تكون في تلك الكواكب التي يسمونها. و شبيهة بهذه الآية نجدها في سورة الأعراف: (قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) {سورة الأعراف ٢٤} لاحظ مرة أخرى نجد (مستقرّ) بدلا من مقام، إذن الأرض ليست بمقام تقيم فيه بعض الوقت ثمّ تختار مكانا آخر، فيمكن أن يُقال: إنهم سيغزون الفضاء ويبنون مُجمعات ومستعمرات فضائية يوما ما. 


قال ملك يوم الدين: (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) {سورة المؤمنون ٧٩} يدلّ أنّ قصة الإنسان على هذه الأرض. 


كذلك في قوله سبحانه الأول و الآخر: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ) {سورة المؤمنون ١١٢} ملحظ جميل، وفائدة استفدتها و ذلك لأن هذا القول المعروف أنه سؤال يوم القيامة بعد البعث، فلو كان الناس سيصلون ويعيشون على كواكب في السماء أو أن الأرض ستُدمّر جرّاء اصطدام كوكب أو نيزك به لم يحسن به عز و جل أن يقول ذلك إذ هو العليم الحكيم و بما أنه لا دليل على أنّ الأرض تطلق على الأجرام السماوية في اللغة، فأقول قُطع دابر القوم المنهزمين نفسيا و الحمدلله رب العالمين. 


وقال مُعلّم الإنسان عزّ وجلّ: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا) {سورة فاطر ٣٩} أريدك أن تتنبّه لقوله عز و جل: (خلائف في الأرض) بمعنى أنه لم يجعلهم خلائف في مكان ثان. و أيضا قال الملك: (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) {سورة الملك ٢٤} ذرأ في الأرض، وليس مكان آخر، و هكذا ستجد في الآيات التي تشبه هذا لا توجد إشارة واحدة أن الأرض كروية تسبح في الفضاء أو الناس سيعيشون فوق النجوم و الكواكب. و هذا ذكّرني ببعض النصوص الجميلة من سفر إشعياء في رد على المتكبرين إذ نجد في الإصحاح الرابع عشر: ١٣ وَأَنْتَ قُلْتَ فِي قَلْبِكَ: أَصْعَدُ إِلَى السَّمَاوَاتِ. أَرْفَعُ كُرْسِيِّي فَوْقَ كَوَاكِبِ اللهِ، وَأَجْلِسُ عَلَى جَبَلِ الاجْتِمَاعِ فِي أَقَاصِي الشَّمَالِ. ١٤ أَصْعَدُ فَوْقَ مُرْتَفَعَاتِ السَّحَابِ. أَصِيرُ مِثْلَ الْعَلِيِّ. ١٥ لكِنَّكَ انْحَدَرْتَ إِلَى الْهَاوِيَةِ، إِلَى أَسَافِلِ الْجُبِّ.. رحم الله إمرئٍ عرف قدر نفسه.


غيب السماوات و الأرض

 (قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) {البقرة ٣٣}


هذه الآية دلتني على أنّ في الأرض غيبا، وفي هذا ردّ على أنّ الإنسان المعاصر والمجتمع العلمي أحاط بما في الأرض جميعا، أصلا الإحاطة بما الأرض أمر مستحيل! ما أعمق ما وصل إليه الإنسان تحت الأرض أو البحر؟ بالنسبة للأرض فالمعروف هو بئر كولا العميق في روسيا، وبلغ عمقه اثني عشر كيلومتر، رقم لا يكاد يذكر! هذا ما وصلت إليه أجهزة البشر وتقنياتهم التي يفتخرون بها. وما أعمق نقطة في البحر؟ المعروف لدينا مشروع نيكتون إذ وصلوا تقريبا عشرة كيلومترات تحت البحر فقط! في حين تجد بعض الناس يبني نظريات على أرقام سماوية هائلة! فمثلا قسموا طبقات الأرض إلى ثلاث طبقات، وفصلوها سبعا جميعا. الطبقة الأولى تعتبر القشرة، وهي مقارنة بالطبقات التي تحتها كقشرة البرتقالة بما تحت القشرة من الثمرة التي نأكلها، ويتراوح عمقها إلى مئة كيلومتر! تخيل أكثر ما وصلوا إليه تحت البر والبحر لا يصل ثلاثة عشر كيلومتر! ثمّ لو أردت أن تعرف المسافة التي تبعد بيننا وبين القمر أو الشمس فالأمر أعظم، وطبعا هذه المعلومات تدرس في المدارس. 


وإن سألتهم لماذا لا يوجد سجل لأيّ شخص قام بالتجول حول الأرض من الشمال إلى الجنوب أو العكس لا تجد عندهم إجابة. تُرّهات مثل صعوبة حالة الطقس والجو وفقدان التكنولوجيا لا تساعدنا و لا تعطينا إجابة شافية، هذه كلمات ألقيها في أقرب مزبلة إذ أنهم بزعمهم هم أعني المنتصرين لنظرية الأرض الكروية هبطوا على القمر قبل ما لا يقلّ عن خمسين سنة.


عندما عجزت بعض هذه المؤسسات العلمية عن إدراك القريب منها لفت أنظار أتباعها إلى الخيالات والترّهات، وللأسف قوم عندهم هدى من الله وكتاب عظيم لم يتساءلوا و يتبيّنوا. السؤال الذي يجب أن يُطرح على روّاد المجتمع العلمي: إن لم تكتشفوا أسرار الأرض وغيوبها بعد فلماذا تبحثون في السماء؟ 


هل تساءلت يوما -عزيزي القارئ- عن تلك الأرقام السماوية المهولة التي تحكيها لنا الدوريات العلمية: أهي مبنية على نظريات علمية أم على فرضيات؟ وهل تعرف -عزيزي القارئ- ما الفرق بين النظرية والفرضية والقانون وغيرها من المصطلحات العلمية المنتشرة؟ فإن تبيّن لك أنّ كثيرا منا لم يفقه الفرق بين النظرية والفرضية علميا بل لم يبحث عنها أصلا، عليك أن تسأل: ما الذي يجعلهم يؤمنون بأنّ الأرض كروية، ويجعلونها حقيقة غير قابلة للشكّ؟ وهل الدعاة و الوعّاظ توصلوا إلى مثل نتائج هذه المؤسسات مبنية على بحث واقتناع أم أنه التقليد والإيمان بما تُبثه هذه المؤسسات العلمية عبر القنوات الإعلامية؟ حقا جرّب بنفسك، حاول أن تسأل الناس من حولك لتعرف الوضع المُؤسف الذي نحن فيه.


في الأرض خليفة

 (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) {البقرة ٣٠}


هذه الآية تدلنا أنّ الإنسان خليفة في الأرض، وليس المقصد من الآية أن يكون خليفة في الكواكب التي في السماء، فلا أدري ما الذي يريد أن يحاوله الإنسان في سباقه لغزو الفضاء واستعماره الكواكب؟ لم يقل الله عزّ وجلّ: إني جاعل في السماوات والأرض خليفة، بل قال: في الأرض خليفة. 


محاولات الإنسان للعيش في الفضاء من التخيلات التي صارت أمنيات. الهدف منك أيها الإنسان أن تكون خليفة هنا في الأرض، وليس على المريخ أو الزهرة أو الكواكب الأخرى، أما من قال إنّ الأرض ربما يطلق على أي شيء غير هذا الذي نعيش عليه، أو كوكب في السماء أو ما شابه ذلك، فقد أبعد النُّجْعَة، وكلامه متهافت جدًّا يدلّ على قلّة فهم واستقراء يعزّ عليّ محاورته وقد كفاني المفسرون العالمون باللغة هذه المشقّة و ذلك لأنه ليس في القرآن و لا في التوراة و لا الأحاديث النبوية و لا في أقوال الصحابة أو أناجيل النصارى أو مرويات التابعين من قال أن الأرض عبارة عن كوكب.


هذه الآية جعلتني أشعر أنّ للأرض أهمية كبيرة، وذلك من ردّ الملائكة الذي يوحي وكأن في ردّها اهتمام خاصّ بالأرض. أعرف جميع الآراء التي قيلت، وكُتبت عن ردّ الملائكة، لكن لم أقرأ بعد ماذا لو أنّ الملائكة أرادت أن تكون خليفة الله على الأرض، أي تعيش على الأرض؟ محتمل، أليس كذلك؟ ربما! لكن لنفترض ذلك، إن استطعنا أن نفترض ذلك السؤال الذي ينبغي أن يُطرح: ما سبب اهتمام الملائكة بالأرض إن كانت هي ذرة في الفضاء تسبح في المجرة؟ المعروف أن الملائكة تعيش في السماوات العلى، ما الذي يجعلها مهتمة بها؟ ألا يشير هذا إلى أنّ للأرض مكانة حتى عند الملائكة، ولا أستطيع أن أتخيّل هذه المكانة للأرض الكروية الحقيرة الحجم مقارنة بالسماء، لكن إن قلنا إنّ الأرض حجمها يقابل ما فوقها من السماوات هنا يصير الأمر مفهوما، وحُقّ بعد هذا لجميع المخلوقات أن تتمنى الخلافة عليها.


ألم نجعل الأرض كفاتا

 (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا) {سورة المرسلات ٢٥}


هل سألت نفسك يوما ما معنى كفاتا؟ المراد من الآية واضح، لكن لا بأس أن نتوقف قليلا و نقرأ ما قال الناس في معنى كفاتا؟ في اللغة كما قال ابن جرير الطبري: "(كِفاتاً) يقول: وعاء تقول: هذا كفت هذا وكفيته، إذا كان وعاءه." وقال الزمخشري: الكفات من كفت الشيء إذا ضمه وجمعه وهو اسم ما يكفت، كقولهم الضمام والجماع لما يضم ويجمع، يقال هذا الباب جماع الأبواب. وقال ابن عاشور: "وكِفَات اسم للشيء الذي يُكْفَت فيه، أي يُجمع ويُضَمّ فيه، فهو اسم جاء على صيغة الفِعال من كَفَت، إذا جَمَع، ومنه سُمي الوعاء كفاتاً، كما سمي ما يعي الشيء وِعَاء، وما يَضُم الشيء الضِمام". 


مفهوم كون الأرض وعاء للأموات لكن كيف تكون الأرض الكروية وعاء للأحياء؟ إن فهمت أن الأرض مسطّحة وأطرافها أعلى من الخلق فهذا يوضح لنا أنّ الأرض كالوعاء وهي تجمعنا وتضمنا وتكفتنا من الخروج أحياء و أمواتا، و في الآية ما قد يُفهم المتدبّر لكتاب الله مثل الذي ذكرت، و هذا الفهم يستقيم تماما مع قوله عزّ وجلّ: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ)


و البحر يمده من بعده

 (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) {سورة لقمان ٢٧}


بعيدا عن اللطائف و الدقائق اللغوية، دعنا نسأل: لماذا قال البحر من بعده وليس من حوله؟ وكيف يكون البحر أبعد في النموذج الكروي للأرض؟ يُصعب تخيّل ذلك، لكن إن اعتبرنا أنّ الأرض مسطّحة، وأنّ هناك بحرا كونيا محيطا بها فلا غرابة أبدًا أن يُقال: (يمد البحر من بعده سبعة أبحر). وسبحان الله لما جاءني هذا الخاطر قبل سنوات عديدة كنت أحسب أني الوحيد الذي فكّر بوجود بحر محيط بالمعمورة، لكن كالعادة وجدت من السلف من سبقني و الحمدلله.


مثلا نجد في تفسير ابن كثير -رحمه الله- نقله لرواية مقطوعة منسوبة إلى ابن عباس وهي كالتالي: "عن ابنِ عبَّاسٍ قال: خلق اللهُ مِن وراءِ هذهِ الأرضِ بَحرًا مُحيطًا ثمَّ خلَق من وراءِ ذلكَ جبلًا يُقالُ لهُ ق، السَّماءُ الدُّنيا مَرفوفةٌ عليهِ، ثمَّ خلَق مِن وراءِ ذلكَ الجبلِ أرضًا مثلَ تلك الأرضِ سَبعَ مرَّاتٍ، ثمَّ خلَق من وراءِ ذلكَ بحرًا محيطًا بِها، ثمَّ خلق من وراءِ ذلكَ جبلًا يُقالُ لهُ ق، السَّماءُ الثانيةُ مرفوفةٌ عَليهِ، حتَّى عدَّ سبعَ أرضينَ وسبعَةَ أبحُرٍ وسَبعةَ أجْبُلٍ وسبعَ سَمواتٍ، قال : وذلكَ قولُه وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ".  


وقال ابن كثير في موضع آخر ردًّا على فكرة وجود الأبحر: "ولا أن ثم سبعة أبحر موجودة محيطة بالعالم كما يقوله من تلقاه من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب، بل كما قال تعالى في الآية الأخرى: (قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّى لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً) {الكهف ١٠٩} فليس المراد بقوله (بِمِثْلِهِ) آخر فقط، بل بمثله، ثم بمثله، ثم بمثله، ثم هلم جرا، لأنه لا حصر لآيات الله وكلماته. صحيح أن ابن كثير ردّ الفكرة، لكني ممتن له رحمه الله، و ذلك لأن في رده دليل على وجود الإسرائيليات، وكما قال الإسرائيليات صعب الجزم بها تصديقا أو تكذيبا والرواية المقطوعة المنسوبة إلى ابن عباس يمكن بناء منظور و نموذج عن هذا الوجود الذي نحن فيه، ولا أقول إنّ هذا النموذج هو الذي ارتضيته لنفسي، لكنه منظور جدير بالدراسة والبحث، وهذا النموذج كالتالي: 


إن اعتبرنا أنّ السماوات سبع، والأراضون سبع كذلك، وأرضنا هي الأرض الصغرى، وهي في وسط العالم وأسفلها وأعمقها، ومحيط بأرضنا بحر محيط ومحيط بالبحر المحيط جبل قاف (أستخدم جبل قاف فقط للتسهيل، المقصد أن هناك جبل محيط). وإن أخذنا أنّ السماوات السبع كالقبة على الأرض، فتكون أطراف قبة السماء الأولى تلتقي بجبل قاف المحيط، وبعد الجبل، الأرض الثانية ومحيط بها بحر محيط ومحيط بالبحر المحيط جبل قاف المحيط بالبحر، وفوق هذه الأرض قبة السماء الثانية وتلتقي أطرافها بجبل قاف المحيط، وهكذا حتى السابعة. وإن جعلت الأرض كلّ واحدة منها في طبقة صار عندك نموذج فيه السماوات سبع طبقات طباق، ومن الأرض سبع طبقات كذلك، وبهذا يمكنك التوفيق بين هذا النموذج أو المنظور وآيات القرآن والأحاديث والروايات المنسوبة للصحابة، لكن هل هذا هو المنظور الوحيد التي تستوعبه الثلاثة أشياء المذكورة (أقصد القرآن والأحاديث المرفوعة والروايات الموقوفة)؟ لا بل هناك عدّة فرضيات أخرى نثرت أطرافا منها في كتاب (وما أدراك ما الأرض)

ليقولن الله

 (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) {سورة العنكبوت ٦١}


هذه الآية تدلّ أنّ الناس في عهد الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- كانوا يعرفون من خلق السماوات، ويعرفون معنى السماوات. وإلا لو لم تكن السماوات معروفة لاستغربوا ذلك واستنكروا، فإن كان ذلك كذلك، أحبّ أن أسألك رفيقي القارئ: هل كان في زمنهم التقنية المتقدّمة ليعرفوا كم تبعد الشمس والقمر والكواكب السبعة المعروفة، وينظروا إلى ما بعد المجرات؟ أم أنّ نظرهم كان محدودا؟ فإن كان محدودا فكيف عرفوا السماوات؟ ألا يدل ما سبق على أنهم كانوا يرونها ويعرفونها جيدا، 


و في سورة النمل آية تثبت ذلك: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ) {سورة النمل  ٦٠} أمر السماوات كان معلوما عند البشر، وهذا ما أثبته القرآن مرارا: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) {سورة لقمان ٢٥} وقال عزّ وجلّ: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) {سورة الزمر ٣٨} (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) {سورة الزخرف ٩} و قال سبحانه: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) {سورة الجاثية ١٣} و هذه المُسخرات كانت معروفة و مُعترف بها وإلا لما قيل ذلك تمننا عليهم، أليس كذلك؟ 


السير في الأرض

 


إنّ المتأمّل في القرآن يجد أنّ الكتاب العزيز يدعو الإنسان إلى المسير في الأرض للعبرة، فمثلًا قال عزّ وجلّ: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) {آل عمران ١٣٧} وقال العزيز الجبار: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) {سورة الأنعام ١١} كذلك في سورة يوسف: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ) {سورة يوسف ١٠٩} كذلك في قوله عز من قائل: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) {سورة الحج ٤٦} و قال الخالق القدير: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) {سورة العنكبوت  ٢٠} و قال الهادي إلى صراط مستقيم: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) {سورة النحل ٣٦} وقال الجبّار المتكبر: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ) {سورة النمل ٦٩} و قال الغفور الحليم: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )  {سورة الروم ٩} و قال الذي لا إله إلا هو: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) {سورة الروم ٤٢} و قال العليم الحكيم: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) {سورة فاطر ٤٤} و قال الحي القيوم: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ) {سورة غافر ٢١} و قال الغني الكريم:: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) {سورة غافر ٨٢} و قال الملك الحق: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) {سورة محمد ١٠}


كما رأينا، دائما نجد (سيروا في الأرض) ولن تجد في القرآن من الفاتحة إلى الناس "طيروا في السماء" أو شيء من هذا القبيل الذي يدلّ على الحركة الفيزيائية البشرية في السماوات العلى! أتفهم أن هذه الآيات المقصود منها الأسباب الشرعية  مثل الاعتبار والتكليف وما إلى ذلك، لكن يمكن لمتدبّر القرآن من طرف خفي أن يفهم منها أمورا، منها كون الأرض حظّ الإنسان من المسير، أما حظّه من السماوات أو السماء فالنظر والتفكّر مثل قوله: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) {سورة يونس ١٠١} وقول الغفور الرحيم: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) {سورة آل عمران ١٩١} فكما قرأنا من الآيات، الإنسان يسير في الأرض، ويمشي في مناكبها، لكن عندما يتعلّق الأمر بالسماوات فالنظر والتفكّر يعني أنه لا توجد مخلوقات مُكلفة مثلنا، أو نعتبر منها في السماء، أو ليست هناك رسالات بشرية في السماء، ولم ينزل عليهم شيء من السماء!


المضحك في الأمر أنّ بعض المعاصرين استدلّ بهذه الآية على الإعجاز العلمي في القرآن إذ قال أن سيروا في الأرض دليل على وجود الغلاف الجوي، وذلك أنّ الإنسان يعيش على سطح الأرض وليس في داخلها، لكن المقصود بحرف (في) في الآيات التي فيها سيروا في الأرض المراد منها الغلاف الجوي، وبما أنّ الغلاف الجوي يتحرك مع الأرض فهو يعتبر جزء من الأرض. لا يعرف الإنسان المُتدبّر لكتاب الله هل يبكي على مثل هذا التأويل أم يضحك؟ للأسف الشيخ الشعراوي الذي أحبّه كثيرًا قال قولا شبيها، وبالطبع قد ردّ على الشعراوي وغيره بعض العلماء المعاصرين كالدكتور عدنان إبراهيم بارك الله فيه في إحدى خطبه وكثيرون غيره. 


حقا ماذا عسانا أن نفعل بتفسير كالذي ذكرت؟ أقول لمن اعتنق المعنى السابق، ماذا تقولون في قول الله عزّ وجلّ في سورة الفرقان: (وَعِبَادُ الرَّحْمَن الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) و ما تقولون في قوله سبحانه وتعالى في سورة الكهف: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)؟ وماذا ستقولون في قول الله عزّ وجلّ في سورة الإسراء: (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) هل المقصود على البحر أو داخل البحر غوصا؟ وماذا تقولون في قصة صلب فرعون للسحرة الذين آمنوا؟ (قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى) تأمل قال (في) جذوع النخل، هل صلبوا داخل النخلة أو عليها أو على الهواء حول جذع النخلة؟ سبحان الله، هذه نتيجة من يحاول أن يُطوّع آيات القرآن لتتوافق مع مخرجات العلم الحديث و لا حول و لا قوة إلا بالله.


ربّ قائل مُتعصّب لفكرة الأرض المسطّحة أن يقول إن الآيات التي فيها (سيروا في الأرض) و التي فيها (في) بدلا من (على) إشارة إلى أنّ الأرض أطرافها مرتفعة، وأنّ المعمور منها أدنى من أطرافها وأنّ المخلوقات التي تدبّ عليها في حقيقتها تسير فيها لأنها غير قادرة على الخروج منها، وذلك لأنّ أطرافها مرتفعة بسبب الدحو. 


قد تستغرب هذا لكن صدقني هذا منطقي أكثر بكثير من الذي يقوله المتأثرين بالنظريات الكونية. برأيي، الذي ينبغي أن يُقال هو أنّ المسير شيء والمشي شيء آخر، وهنا لطيفة بلاغية أنقلها عن الدكتور فاضل السامرائي بارك الله فيه: "السير غير المشي في اللغة، و يُقال سار القوم إذا امتدّ بهم السير من جهة إلى جهة معينة في الخصوص. والسير في القرآن الكريم قد يكون لغرض، وفي جهة وهو إما للعظة والاعتبار أو للتجارة أو غير ذلك، كما في قوله تعالى: (فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله) سورة القصص. فالسير هنا ممتد من مدين إلى مصر وهو ليس مشياً. وقد يكون معنى السير، السير لفترة طويلة للعبرة والاتعاظ كما في قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض ثم انظروا) وقد ورد هذا المعنى للسير في ١١ آية قرآنية :(أفلم يسيروا في الأرض) (قل سيروا في الأرض فانظروا) والسير هنا هو الامتداد، وكما قلنا يكون في القرآن الكريم إما لمسافة طويلة بغرض التجارة، وإما لغرض العبرة والاتعاظ. أما المشي فهو مجرد الانتقال، وليس بالضرورة التوجّه إلى هدف محدّد كما في قوله تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا).

Monday, April 18, 2022

القرآن خطاب إلى الجن و الإنس

 

اعتاد الناس أن يقولوا: إن هذا القرآن الذي بين أيدينا هو رسالة الله إلى العالمين، ورحمة للناس أجمعين، غير أنّ الناس ينصرف تفكيرهم إلى الإنس من دون الجن فيظنّون أن هذا القرآن فقط رسالة للإنس من دون الخلق أجمعين، وإن كانوا لا يُصرّحون بهذا الظن، ألا ترى أن المنشغلين بتدبر هذا الكتاب العزيز، منذ قديم الزمان وحتى اليوم يُوجّهون معاني آيات القرآن الكريم إلى المعاني التي تخص البشر ولسانهم فقط؟ فإنك لا تجدهم ولا حتى مرة يقولون عن شخصية مذكورة في القرآن: إنّه قد يكون من الجن غير إبليس، لا يسألون ما يكون، لكن مباشرة يقفزون لتحديد من يكون، بمعنى هويّة الشخصية من دون تحقيق وتمحيص في ماهيتها.


ولكن المتدبّر لآيات القرآن سيجد أن القرآن يُخاطب الجن في كثير من الآيات، بل يقدّم الجن على الإنس في عدد منها. اقرأ هذه الآيات لتتأكد من ذلك: في سورة الأنعام: (وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ)، وأيضاً في سورة الأنعام: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ)، وفي سورة الرحمن: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ). 


وهناك آيات أخرى فيها ذكر للجن مثل التي نجد في سورة الأعراف: (قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ)، وفي آية أخرى من سورة الأعراف: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)، وفي سورة الإسراء: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)، وفي سورة فصلت: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ)، وفي سورة الأحقاف: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ)، وفي سورة الذاريات: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).


وبما أن الخطاب موجّه إلى الجن حتى لو في آية وحيدة فقط فهذا يعني أن الجن باستطاعتهم فهم هذا القرآن العربي المبين، وهذا ليس بحاجة إلى بيان، إذ يكفي أدلة الآيات من سورة الأحقاف والجن. ففي سورة الأحقاف قالت الجن: (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ)، إذن هم يفهمون القرآن جيّداً، وأيضاً في سورة الجن ما يدل على ذلك: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (٢)). 


فإن كان كذلك وهو كذلك، فعلينا أن نؤمن بذلك، ولا نستحيي من قول ذلك علانية، فإن كثيراً من الناس اليوم يتجنّب الآيات التي فيها ذكر الجن لأنه يخشى كلام الناس واتهام الناس له بالتخلّف أو ما إلى ذلك، خاصة أولئك القوم الذين يُؤمنون بمخرجات المجتمعات العلمية المُعاصرة، فإنّهم لا يكادون يصبرون على نقاش فيه ذكر للجن، فتجد الواحد منهم يتكلّم متكبّراً وكأنه أحاط بكل شيء علماً، أن هذه الأمور من الخرافات، وبالتأكيد المسلم الضعيف الإيمان، لأنه لا يستطيع مقاومة هذا الضغط النفسي، قد يقوم بتحريف ظاهر معاني آيات القرآن التي فيها ذكر الجن والشياطين وما إلى ذلك، ويُقدّم تفسيراً جديداً لكي يتوافق مع النظريات العلمية الحديثة أو لِنَقُل ليتناسب مع العصر الحديث والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم


عن نفسي وبعد تدبّري في اسم الله الرحمن، رحت أبحث عن الجن في القرآن، فوجدت العَجَب العُجاب والذي سلّطت الضوء على شيء منه في كتاب (نظرية آن)، وستقرأ بعض آيات القرآن كأنك تقرؤها لأول مرة وستتعرف على شخصيات من الجن لم يقل بها أحد من الناس من قبل.


يا أخت هارون

 

ذكرت في المقال السابق أن الآية: ((يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا)) ليس بدليل قوي على أن يعقوب هو عمران بسبب الاشكاليات الكبيرة التي في هذا الرأي، و قد تقول ماذا بقي؟ كيف تفسّر ذكر هارون هنا في هذا الموضع؟ و لماذا قالوا هارون من دون موسى مع أن موسى هو الأشهر؟ قد يُقال لأن هارون هو أخو موسى من الأم في حين أن هارون أخو مريم من الأب و هذا ليس بدليل كاف كما ذكرت سابقا. 


ملخّص ما قيل في هارون الذي نسبت إليه مريم أربعة أقوال: 


الأول: أنه كان رجلاً صالحاً من بني إسرائيل ينسب إليه من يعرف بالصلاح

الثاني: أن المقصود هو هارون أخو موسى و نسبت إليه بسبب تشابه في الصلاح و العبادة و كان القوم يلقبون عبّادهم بهارون.

الثالث: أنه هارون أخو موسى فنسبت إليه لأنها من ولده كما يقال يا أخا بني فلان، يا أخا العرب، يا أخا تميم

الرابع: أنه كان أخاها لأبيها وأمها و قيل كان أخاها لأمها

الخامس: أن قوم هارون كان فيهم فُسَّاق وزُنَاةٌ، فنسبوها إِليهم

السادس: أنه كان رجلاً فاسقاً معلناً بالفسق ونسبت إليه

السابع: أنها أخت هارون حقيقة و يشتركان في نفس الأب و هو عمران (و هو قول بعض المعاصرين الذين قلدوا صلاح الدين أبو عرفة)


لم تخرج أقوال المفسرين المتقدمين و المتأخرين عن هذه الأقوال فيما أعلم. 


فإن سألتني أي الأقوال هي التي تراها الأقرب؟ فأجيب و أقول بأن القول الأول فهو المتبادر إلى الفهم من خلال الرواية المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه و سلم و أعني بذلك هذا الحديث: عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : لَمَّا قَدِمْتُ نَجْرَانَ سَأَلُونِي فَقَالُوا : إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ : يَا أُخْتَ هَارُونَ ، وَمُوسَى قَبْلُ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا ؟  فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ:  إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ. بالطبع أنا متوقّف بخصوص هذا الحديث و ذلك سندا، أما متنا و إن قيل أن المعنى أن مريم كان لها أخت يُدعى هارون و أن أبويها سمّوها هارون فهذا في الحقيقة أستبعده. و سنعود إلى هذا الحديث لاحقا.


أما الثاني فلعله الأقرب


الثالث و هو أيضا قريب و جائز لغة لكن لم نجد مثل هذا في القرآن عندما يكون الخطاب مباشرا لهذا أستبعده.


أما القول الرابع فهو بعيد، ليس في أي تاريخ لا عند أهل الكتاب و لا عند المسلمين أن كان لمريم أخت تسمى هارون غير ما قاله المفسرون عندما تعرضوا لهذه الآية و لا يصح ذلك كدليل. 


أما القول الخامس فإن كل الأقوام الكبيرة فيها الصالح و الطالح كما يُقال فلم اختاروا هارون من دون البقية؟ كان بإمكانهم اختيار آدم أو نوح أو إبراهيم أو موسى…الخ لابد أن هناك سرا آخر لاختيار هارون


و بالنسبة للقول السادس فهذا لا يمكن إثباته، على الأقل من المصادر التاريخية.


و أما القول الأخير فقد رددته في الفصل السابق فارجع إليه. 


فإن سألتني هل عندك أقوال جديدة لم تسبق إليها؟ أقول نعم عندي قولان: 


الأول: أنهم ربما قالوا لها ذلك من باب التقريع و الاستحقار، و ذلك لأن قومها من بني إسرائيل، و متعارف عند بعض بني إسرائيل أنهم قالوا عن هارون قولا عظيما و ذلك في كونه المسؤول عن اخراج العجل لبني إسرائيل عندما تركهم موسى و بقي معهم هارون، و هذا الذي يبدو ظاهرا لعامة الناس عندما يقرؤون التوراة و الحقيقة خلاف ذلك. فصار عندهم خبرا متعارفا و متداولا، تماما كما تدالوا بينهم خبر أن الله استراح في اليوم السابع أو أن المسيح ابن الله و إن كانت الكتب المتقدمة ليس فيها نصوص تثبت ذلك إنما سوء الفهم و تحريف المعنى. فإن قلنا أن اليهود أو الأفضل لنقل بني إسرائيل كان متعارفا عندهم أن هارون أخرج لهم العجل إذن قد نفهم لم قالوا عن مريم يا أخت هارون. فإنه استقر في عقولهم أن هارون كان نبيا صالحا عابدا، إلا أنه ضلّ و أتى بفرية و هي إخراج العجل لبني إسرائيل. و كان معروفا عند القوم أن مريم كانت عابدة طاهرة ثم فجأة ظنوا أنّها زنت فكأنها وقعت تماما كما وقع لهارون في مخيلتهم فلهذا قالوا يا أخت هارون ثم قالوا ما كان أبوك إلى آخر الآية. 


و هذه الطريقة حتى اليوم العامة يستخدمونها أحيانا بمسبة أو باستحقار فمثلا يقولون: أيها الحيوان، أليس عندك كذا و كذا أو عندما يجدون من عرف بالصلاح أتى بفاحشة مثلا تجد بعض أهل الخليج قد يقولون: يا ابن الذين، أبوك إمام مسجد.بل عن نفسي أحيانا عندما ألعب مع أخي يقول لي: يا اليهودي، كيف فزت و أنت ما عندك كذا و كذا و عندما يستخدم يا اليهودي يقصد الحيلة و المكر الذي بهما أغلبه و هكذا لأنه مستقر في عقله أن اليهود قوم ماكرون. فمحتمل أن يكون هذا مقصدهم من قولهم لمريم يا أخت هارون، يعني أنت من جاءت بفعلة هارون، ما كان أبوك…الخ هذه هي إحدى الأقوال الجديدة و الذي قد يكون أقرب إلى الصواب من أقوال السابقين. 


فإن قلت بأن هذا الذي هو قلت قول جديد، هل لديك غيره؟ أقول نعم لدي قول جديد آخر لم أجد من قاله و قد يكون هو الأصح و هذا الرأي استلهمته بعد أن قرأت في التوراة. من يقرأ التوراة يجد أن هارون تم تعيينه الكاهن الأول لبني إسرائيل. و الكاهن من كوهين العبرية و قد وردت الكلمة في التوراة عدة مرات و كان دور الكاهن يقوم بخدمة الناس ويسعى في حاجتهم و يقوم بخدمة المعبد و المذبح و تنظّيم القرابين و خصصت هذه المهمة لهارون و ذريته من دون الناس. و من واجباتهم تقديم الذبائح سواء اليومية و الأسبوعية و الشهرية و كذلك كان يخدم الناس في طرق التكفير عن ذنوبهم، كما أنه لدينا أنه من فطر نهار رمضان فكفارته كذا و كذا و من قتل نفسا بغير عمد فكفارته كذا و كذا. و أيضا من واجباتهم خدمة المسكن أو المعبد و التابوت و النفخ في الأبواق للبدء بطقوس العبادة و يعلموا الناس التوراة و يبينوا الأحكام الواردة فيها. 


و المثير في الأمر أن الكاهن لا يُسمح لهم العمل للتكسّب، و دلك لأن الله أعطى الكاهن الصلاحية ليأخذ قدر حاجته من النذور و القرابين فقط من دون الناس أجمعين، و قد فُرض على بني إسرائيل أن يخصصوا شيئا يسيرا من ما يُقدمون للكاهن و بنيه الذين يقومون بالخدمات الدينية مقابل خدماتهم و أنهم محرومين من العمل. هذه التفاصيل مذكورة في سفر اللاويين من التوراة من أراد فليراجعها، لكن سأذكر أهم النقاط:


  1. أن يكون من ذرية هارون
  2. أن يكون ذكرا
  3. أن يكون سالما من العيوب
  4. أن لا يكون ابن زنى
  5. أن يكون الكاهن الأكبر المشرف على خيمة الإجتماع أو المسكن هو الابن البكر و يظل في وظيفته حتى الموت.


و هُم رُتَب فهناك الكاهن الأعظم أو الأكبر و الذي لا يسمح لغيره أن يبقى في المحراب أو قدس الأقداس، كان هو هارون أخو موسى، و هناك الكهنة العاديون و تختلف اختصاصاتهم فمنهم القضاة و منهم الكتبة و منهم الذين يقومون بترتيل التوراة و انشاد الترانيم و التسابيح و منهم الوعّاظ و بعضهم يساعدون الكاهن الأكبر في خدمة الهيكل و بعضهم يحرسون و هكذا. و هكذا من كان يريد من بني إسرائيل أن يناجي الله عليه أن يقدم قرابين أو صدقات يتحكّم بها الكاهن و هذا الأخير يذكرني بهذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ ۚ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ))


المهم لن أطيل عليكم فهناك سِفر كامل فيه الحديث عن الكاهن و دوره في بني إسرائيل يمكنكم الرجوع إليه و هو سفر اللاويين. و مهم أن تدرك أن معنى الكاهن تغير مع مرور الزمن، فالكاهن في التوراة يختلف معناه عن الكاهن اليوم كما نعرفه نحن، ما يهمنا مما تقدم التالي:


أن هارون كان كبير الكهنة و أولهم في التيه، و أن الكاهن عليه أن يكون من ذرية هارون و هذان كافينا ليُقال عن مريم يا أخت هارون هذا إن كانت مريم كاهنة بالمعنى التوراتي و هذا الذي أرجحه. فالذي يقرأ القرآن يفهم أن مريم كانت عابدة مختلية و كان لها محراب تكون فيه، و كان كلما دخل عليها زكريا وجد عندها رزقا. و الذي يظهر لي أن امرأة عمران نذرت أن ما في بطنها سيكون خادما في المعبد ككهنة بني إسرائيل، و لكن الذي حدث أنها أنجبت أنثى بدلا من الذكر فهذه كانت الصعوبة الأولى: ((إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) و نجد في تفسير الطبري معنى النذر: ((إني جعلت لك يا رب نَذْرًا أنّ لك الذي في بطني محرّرًا لعبادتك. يعني بذلك: حبستُه على خدمتك وخدمة قُدْسك في الكنيسة، عتيقةً من خدمة كلّ شيء سواك، مفرّغة لك خاصة.)) و قال قتادة: كانت امرأة عمران حَرّرت لله ما في بطنها، وكانوا إنما يحرّرُون الذكور، وكان المحرَّر إذا حُرِّر جعل في الكنيسة لا يبرَحها، يقوم عليها ويكنُسها. مما يثبت ما ذكرته.


و تأمل في التكملة، (( فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ )) وضعت أنثى و المشكلة أن المطلوب الذكر، لكن الله قبلها و قبل نذرها. 


و بما أن لزكريا علاقة بالموضوع بحثت في المصادر عن زكريا فإذا بي أجد أنه و زوجته من الكهّان (بالمعنى التوراتي) ما يعطيني دلالة إضافية أن ما قلته صحيح، نجد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا: ((5 كَانَ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ مَلِكِ الْيَهُودِيَّةِ كَاهِنٌ اسْمُهُ زَكَرِيَّا مِنْ فِرْقَةِ أَبِيَّا، وَامْرَأَتُهُ مِنْ بَنَاتِ هارُونَ وَاسْمُهَا أَلِيصَابَاتُ. 6 وَكَانَا كِلاَهُمَا بَارَّيْنِ أَمَامَ اللهِ، سَالِكَيْنِ فِي جَمِيعِ وَصَايَا الرَّبِّ وَأَحْكَامِهِ بِلاَ لَوْمٍ. 7 وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَلَدٌ، إِذْ كَانَتْ أَلِيصَابَاتُ عَاقِرًا. وَكَانَا كِلاَهُمَا مُتَقَدِّمَيْنِ فِي أَيَّامِهِمَا. 8 فَبَيْنَمَا هُوَ يَكْهَنُ فِي نَوْبَةِ فِرْقَتِهِ أَمَامَ اللهِ، 9 حَسَبَ عَادَةِ الْكَهَنُوتِ، أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ أَنْ يَدْخُلَ إِلَى هَيْكَلِ الرَّبِّ وَيُبَخِّرَ. 10 وَكَانَ كُلُّ جُمْهُورِ الشَّعْبِ يُصَلُّونَ خَارِجًا وَقْتَ الْبَخُورِ. 11 فَظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ وَاقِفًا عَنْ يَمِينِ مَذْبَحِ الْبَخُورِ.)) ثم تكملة القصة و تبشير زكريا بابنه يحيى. و أبيا المذكور هو من الكهّان أيضا من ذرية هارون و كذلك زوجته من ذرية هارون، و كان يخدم في المعبد، و بهذا نفهم لم كفّلها زكريا و أين المقصود بمحراب مريم. 


فتبين لنا مما سبق أن مريم لها علاقة قوية جدا بهارون من ناحية النسب و من ناحية العمل و الخدمة، و علمنا سبب (و ليس الذكر كالأنثى) و علمنا أيضا (كلما دخل عليها زكريا المحراب) و بما أنها صارت تعمل عمل هارون إذن صح أن يُقال يا أخت هارون. و ليس هذا فحسب فإن من ألقاب مريم عند الكنيسة عصا هارون أو تبرعم عصا هارون. في الحقيقة لا أعرف تفاصيل هذا اللقب و ما مصدره الأصلي لكنه يبدو أنه لقب قديم إذ يتناقلونه الناس على أنه من الألقاب المشهورة لمريم أم المسيح و بحثت في تراث النصارى عن تبرعم عصا هارون فوجدت قصة شجرة مار أفرام السرياني، ثم رحت أبحث عن هذا الراهب فإذا به راهب نصراني عاش في القرن الرابع الميلادي و كان من الشعراء و كان من مفسري الكتاب. و قصة الشجرة كالتالي و لا أعلم المصدر الأصلي إلا أن القصة منتشرة انتشارا كبيرا بين النصارى في مصر و هي كالتالي:


اشتهرت هذه الشجرة (شجرة مار أفرام السرياني فى التاريخ القبطي بأنها شجرة مار آفرام السريانى أو شجرة الطاعة أو شجرة البركة أو شجرة المحبة ، وتقع هذه الشجرة شرق كنيسة العذراء المغارة ، وهى شجرة ضخمة جداً وهى من النوع الذى لا ينمو فى الأجواء المصرية ويذكر الرهبان أن القديس العظيم مار آفرام السريانى أتى إلى الدير فى القرن الرابع من الشام وفى يده عصاه تعينه فى الطريق كعادة رهبان الشام فظنه رهبان مصر أنه يتشبه بشيوخ الرهبان، فأشار عليه أبوه أن يغرس عصاه فى الأرض ، وهناك قول آخر أن مار آفرام سمع تذمر الرهبان فغرس عصاه فى الأرض وسار من غيرها ، فأراد الرب أن يظهر تقواه وبره للجميع ودرجة قداسته ، ويقول بعض السريان أن مار آفرام السريانى ترك عصاه أمام الكنيسة وعندما خرج رآها قد نبتت و أورقت فتركها ورحل. فصارت شجرة كبيرة , ولا تزال تعرف حتى اليوم (بشجرة مار أفرام السرياني) وهي في ساحة دير السريان بوادي النطرون. فقد نما العكاز الجاف الذى أتى به من الشام وصار شجرة ضخمة تعطى ثمراً ويستظل تحتها الرهبان وتأوى إليها طيور السماء، وهذه الشجرة من نوع التمر الهندى ويشرب الكثيرين من زوار الدير من زهرها ويأخذون ثمارها كبركة إلى الآن. ما يهمني في القصة أن هذا الراهب تحوّلت عصاه و أثمرت و أن الشجرة تقع شرق كنيسة العذراء، لا أدري لم شدّني هذا فبحثت عن الراهب في المصادر الغربية فوجدت تراجم كثيرة له و له أشعار و تراتيل و كتاب منسوب إليه اسمه: تراتيل الميلاد فقرأت فيه فوجدت نصا ترجمتها كالتالي: عصا هارون نبت، تم شرح رمزه اليوم، رحم العذراء التي ولدت.  فإن صحت هذه النسبة إلى الراهب و الراهب عاش في القرن الرابع الميلادي، فهذا يدل أن العلاقة الرمزية بين هارون و مريم قديمة بل حتى قبل زمن نزول القرآن.


ثم إن بحثت عن سبب تشبيه مريم بعصا هارون فعرفت أنهم يشيرون إلى حادثة وقعت في التوراة. إن قرأتم التوراة في سفر العدد في الإصحاح السابع عشر ستعرف الرابط بين عصا هارون و أم المسيح بأنفسكم، و أنقل لكم اختصارا للوقت: ((1 وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا: 2 «كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخُذْ مِنْهُمْ عَصًا عَصًا لِكُلِّ بَيْتِ أَبٍ مِنْ جَمِيعِ رُؤَسَائِهِمْ حَسَبَ بُيُوتِ آبَائِهِمِ. اثْنَتَيْ عَشَرَةَ عَصًا. وَاسْمُ كُلِّ وَاحِدٍ تَكْتُبُهُ عَلَى عَصَاهُ. 3 وَاسْمُ هَارُونَ تَكْتُبُهُ عَلَى عَصَا لاَوِي، لأَنَّ لِرَأْسِ بَيْتِ آبَائِهِمْ عَصًا وَاحِدَةً. 4 وَضَعْهَا فِي خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ أَمَامَ الشَّهَادَةِ حَيْثُ أَجْتَمِعُ بِكُمْ. 5 فَالرَّجُلُ الَّذِي أَخْتَارُهُ تُفْرِخُ عَصَاهُ، فَأُسَكِّنُ عَنِّي تَذَمُّرَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي يَتَذَمَّرُونَهَا عَلَيْكُمَا». 6 فَكَلَّمَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَعْطَاهُ جَمِيعُ رُؤَسَائِهِمْ عَصًا عَصًا لِكُلِّ رَئِيسٍ حَسَبَ بُيُوتِ آبَائِهِمِ. اثْنَتَيْ عَشَرَةَ عَصًا. وَعَصَا هَارُونَ بَيْنَ عِصِيِّهِمْ. 7 فَوَضَعَ مُوسَى الْعِصِيَّ أَمَامَ الرَّبِّ فِي خَيْمَةِ الشَّهَادَةِ. 8 وَفِي الْغَدِ دَخَلَ مُوسَى إِلَى خَيْمَةِ الشَّهَادَةِ، وَإِذَا عَصَا هَارُونَ لِبَيْتِ لاَوِي قَدْ أَفْرَخَتْ. أَخْرَجَتْ فُرُوخًا وَأَزْهَرَتْ زَهْرًا وَأَنْضَجَتْ لَوْزًا. 9 فَأَخْرَجَ مُوسَى جَمِيعَ الْعِصِيِّ مِنْ أَمَامِ الرَّبِّ إِلَى جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَظَرُوا وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ عَصَاهُ. 10 وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «رُدَّ عَصَا هَارُونَ إِلَى أَمَامِ الشَّهَادَةِ لأَجْلِ الْحِفْظِ، عَلاَمَةً لِبَنِي التَّمَرُّدِ، فَتَكُفَّ تَذَمُّرَاتُهُمْ عَنِّي لِكَيْ لاَ يَمُوتُوا». 11 فَفَعَلَ مُوسَى كَمَا أَمَرَهُ الرَّبُّ. كَذلِكَ فَعَلَ. 12 فَكَلَّمَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُوسَى قَائِلِينَ: «إِنَّنَا فَنِينَا وَهَلَكْنَا. قَدْ هَلَكْنَا جَمِيعًا. 13 كُلُّ مَنِ اقْتَرَبَ إِلَى مَسْكَنِ الرَّبِّ يَمُوتُ. أَمَا فَنِيْنَا تَمَامًا؟».))


ما الذي حدث؟ تم وضع عصا هارون في خيمة الاجتماع، و تبرعمت العصا و خرج منها ما خرج و من بينها اللوز، و أن العصا وضعت في خيمة الاجتماع حفظا لبني إسرائيل من الموت، ألا يذكركم هذا بخلوة مريم عليها السلام في المحراب و الرزق الذي كان يجده زكريا عندها و أجابته قائلة: ((قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب)) و أليس مريم هي أم المسيح، الذي جاء كرسول لبني إسرائيل ليذكّرهم بعبادة الله و يعظهم كي لا يكفروا فيهلكوا؟ 


فإن قلت إن هذا لا يكفي سأقول لك إن هناك أمرا آخر فإني لم أنتهي بعد، و هذا الأمر هو أنه معروف لدى النصارى منذ بداية الأناجيل أنهم يستخدمون التيبولوجيا في كلامهم و التيبولوجيا ربط الشخصيات المعاصرة (لهم) للتسهيل لنقل شخصيات العهد الجديد بالتوراة و الكتب التي تسبق كتب العهد الجديد أو الأناجيل و ذلك لتواجد نمط أو سمات أو معطيات مشتركة لتحديد الأنماط و النماذج. باختصار هو ربط شخصية من التوراة أو حدث من التوراة مع شخصية من العهد الجديد أو حدث بسبب وجود أمر مشترك أو نمط. 


طبعا النصارى اليوم يفعلون ذلك لكي يجعلوا كل ما في التوراة أو العهد القديم عبارة عن أمور و رموز لدعم فكرتهم عن المسيح و دعم معتقداتهم في المسيح. فعلى سبيل المثال، كثيرون هم الذين يلقبون المسيح عند النصارى بحمل الله و يقصدون به الذبح العظيم الذي فدى الله به ابن إبراهيم في حادثة الذبح. ((وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)) فيقولون و تعالى الله عن ذلك أن عيسى هو الذبح العظيم الذي فدى الله به البشرية، و يعنون بذلك أن المسيح صلب لرفع ذنوب و تعالى الله عن ذلك علوا عظيما، المقصد من كلامي أن النصارى حتى في الأناجيل الأربعة يستخدمون التيبولوجيا و هذا معروف عند أي عالم عندهم. بل حتى هذا استخدمه المسلمون من قبل و تجد ذلك جليا في بعض مواعظ ابن الجوزي رحمه الله و قلّده من بعده أيضا عائض القرني في بعض كتاباته ونجد مثل هذا في بعض الروايات و في عناوينها. 


من عادة أهل الخليج إن وجدوا إنسانا يُدعى عمران نادوه أبو مريم ويكنون عبدالعزيز أبو سعود و هكذا و إن لم يكن هناك تشابه غير الإسم، فما بالك بالأمور المشتركة بين هارون و مريم، فاسمها موافق لاسم أخت موسى و هارون، و عملها مثل عمل هارون، و وجودها في المحراب كوجود هارون في المحراب و الكثير مما ذكرت سابقا. و لما كان من شروط الكاهن أن لا يكون ابن زنى عرفت كيف افتتن الناس عندما رأوا مريم حاملة ابنها المسيح بما وقع في نفوسهم من البهتان العظيم.


فإن كان هذا صحيحا فهنا نفهم تماما لِمَ قالوا عن مريم (يا أخت هارون) و بين مريم و هارون نمط و تشابه عظيم في جوانب كثيرة كما ذكرت. فما ظنّته النصارى في القرآن أنه خطأ و شبهة، يبين عظمة القرآن إذ و كأن الآية تثبت أن منزل القرآن يعرف بأي منطق كان يتكلمون أيامها.


فإن كان كذلك نفهم تماما لم لم يعوّل عليها النصرى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم بل لِمَ لم يستعملها اليهود ضد الرسول صلى الله عليه و سلم و هم يعرفون من هو هارون و يعرفون من هي مريم (إذ قالوا عليها بهتانا عظيما كما هو معروف لدينا في القرآن) فكانت هذه الآية إن كانت حقا شبهة لم يتركوها تمر مرور الكرام. فإن قلت بأنهم قد فعلوا ذلك و الدليل حديث المغيرة، كما قلت لك حديث المغيرة فيها إشكاليات كثيرة و أكبر دليل أن فيها إشكاليات من ناحية السند اختلاف المفسرين في المقصود بهارون، فإنهم لو كان عندهم دليل من حديث صحيح عن الرسول صلى الله عليه و سلم ما اختلفوا كل هذا الاختلاف العظيم. و إن كان هناك حقا شبهة كالتي صوّرتها رواية المغيرة لوجدنا روايات كثيرة عن هذه المسألة و كون مريم أخت هارون. 


و من يتتبع القرآن يعرف أن الله سبحانه و تعالى يعلم ما هو مكتوب عندهم و ما قاموا بتغير معاني كلامه في الكتب السابقة و يعلم ما كان متعارفا بينهم و ما كانوا يقولون و لكن بالرغم من ذلك أخبرنا ما قالوا (يا أخت هارون)، فإن القرآن يخبرنا بكل عزة و قوة. و هنا أحب أن أسجّل ملاحظة و هو أن الله يخبرنا أنهم قالوا و ليس الله هو الذي قال عن مريم يا أخت هارون، و لو أنك تتبعت آيات القرآن التي فيها ذكر مريم من دون خطاب الناس لها لوجدتها (و ابنة عمران) أو (يا مريم) و لكن عندما تكلّم الناس قالوا ذلك عنها.


و بما أن المفسرين كانوا مختلفين إلى هذه الدرجة فلعلهم غفلوا عن موضوع التيبولوجيا النصراني و كون هارون الكاهن الكبير (بالمعنى التوراتي) فلهذا صعب عليهم فهم (يا أخت هارون) لكن من يقرأ التوراة و هو يبحث الحقيقة فإنه سيجده بإذن الله و كيف لا و قد قال الله عن التوراة: ((إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ)) ومن يقرأ التاريخ النصراني و بالأخص السرياني منه لعلم أن مثل هذا كان شائعا عندهم. 


و بهذا الفهم إن عدنا إلى حديث المغيرة الذي في صحيح مسلم و الذي فيه: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ) فإن قلت بأن الحديث صحيح سندا تنزلا مع غير المحققين من أهل الحديث، فأظن أن المعنى من الحديث ما ذكرت آنفا، أنهم يسمون بأنبيائهم و الصالحين قبلهم ليس بمعنى أن مريم كان لها أخ عاصرته أو شيء من هذا القبيل، لكن بسبب التشابه و النمط و التيبولوجيا يفعلون ذلك و هذا صحيح، و دقق في كلمة (قبلهم) و هذا الذي يحدث في التيبولوجيا فإنهم لا يستخدمونها للمعاصرين بل لمن كانوا قبلهم، فبهذا نفهم لِماذا لمَمْ يُدخلوا زكريا في مناداتهم بالرغم من أنه كفّلها و هو من الأنبياء و الصالحين. 


و بهذا أكون قد عرضت حلا للاشكالية التي امتدت لأكثر من ألف سنة و أسأل الله أن أكون محقا فيها. و حري بي الآن أن أعود إلى مسألة يعقوب و إسرائيل. و قد ذكرت سابقا بعض الأدلة على أن يعقوب هو إسرائيل، و ليس في القرآن آية تقول (إسرائيل يعقوب) كالذي نجد (اسمه المسيح عيسى بن مريم) و لكن هناك دلالات أخرى ذكرتها. 

إسرائيل و عمران و يعقوب

هذا مقال من الكتاب للرد على من قال أن إسرائيل هو عمران.


دعنا ننظر ما هي النتيجة إن اعتمدنا القرآن و التوراة و الروايات المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه و سلم و كيف ستتغير النظرة، أعني نظرة أن يعقوب هو ليس إسرائيل و إسرائيل هو نفسه عمران.


أولا كون إسرائيل هو يعقوب عليه السلام عند علماء أهل التاريخ من أهل الكتاب الذين نقل لنا أقوالهم فإنه ليس هناك مجال للشك أنهما نفس الشخص، و أما في التوراة فليس هناك خلاف أبدا أن يعقوب هو إسرائيل و معروف عند أهل الكتاب عامة من اليهود و النصارى من غير مخالف أن إسرائيل هو يعقوب، لم أجد في أبحاثي مخالفا واحدا لهذا و أقصد بذلك في كتبهم المقدسة و في كتب التفاسير المعتبرة لديهم، كلهم متفقون على أن يعقوب هو إسرائيل. 


ليس هذا فحسب بل إن جُعل اسم يعقوب إسرائيل مرّتان في التوراة و ليس مرّة واحدة مما لا يعطي مجالا للشك أن يعقوب هو إسرائيل في التوراة فهذه واحدة. المرة الأولى في سفر التكوين الإصحاح الثاني و الثلاثون: ((24 فَبَقِيَ يَعْقُوبُ وَحْدَهُ، وَصَارَعَهُ إِنْسَانٌ حَتَّى طُلُوعِ الْفَجْرِ. 25 وَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، ضَرَبَ حُقَّ فَخْذِهِ، فَانْخَلَعَ حُقُّ فَخْذِ يَعْقُوبَ فِي مُصَارَعَتِهِ مَعَهُ. 26 وَقَالَ: «أَطْلِقْنِي، لأَنَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ». فَقَالَ: «لاَ أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي». 27 فَقَالَ لَهُ: «مَا اسْمُكَ؟» فَقَالَ: «يَعْقُوبُ». 28 فَقَالَ: «لاَ يُدْعَى اسْمُكَ فِي مَا بَعْدُ يَعْقُوبَ بَلْ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّكَ جَاهَدْتَ مَعَ اللهِ وَالنَّاسِ وَقَدَرْتَ».)). و المرة الثانية في سفر التكوين الإصحاح الخامس و الثلاثون: ((10 وَقَالَ لَهُ اللهُ: «اسْمُكَ يَعْقُوبُ. لاَ يُدْعَى اسْمُكَ فِيمَا بَعْدُ يَعْقُوبَ، بَلْ يَكُونُ اسْمُكَ إِسْرَائِيلَ». فَدَعَا اسْمَهُ «إِسْرَائِيلَ». 11 وَقَالَ لَهُ اللهُ: «أَنَا اللهُ الْقَدِيرُ. أَثْمِرْ وَاكْثُرْ. أُمَّةٌ وَجَمَاعَةُ أُمَمٍ تَكُونُ مِنْكَ، وَمُلُوكٌ سَيَخْرُجُونَ مِنْ صُلْبِكَ.)).


أما التاريخ الإسلامي و الروايات المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه و سلم فليس هناك مُخالف أن يعقوب هو إسرائيل بل هناك اتفاق عام على أن يعقوب هو إسرائيل. فصار عندنا أن المؤرخين يقولون أن يعقوب هو إسرائيل، اليهود يقولون ذلك، النصارى يقولون ذلك، المسلمون كانوا يقولون ذلك فإذن كون يعقوب هو إسرائيل كان أمرا معروفا لدى الناس. المحصّل لدينا أن اليهود و النصارى و المسلمين عندهم اجماع أن إسرائيل هو يعقوب و أقصد بالمسلمين السلف و لا أقصد المعاصرين اليوم فإن اليوم هناك من يقول أن إسرائيل ليس هو يعقوب كما كنت أقول أيضا. 


هنا يَرِد السؤال، إن كان يعقوب هو نفسه إسرائيل، فلماذا نجد مرة في القرآن إسرائيل و مرة يعقوب؟ هل يريد الله أن يضلنا أو يصعّب علينا أم ماذا؟ أولا الله هو العزيز الحكيم، يفعل ما يشاء، ((لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)) الأمر الآخر عندما تجد اسما آخر لنفس الشخص لابد أن هناك حكمة غابت عنا، بل حتى لو نفس الإسم و كان هناك اختلاف في الرسم فلابد أن هناك أمرا ما و ذلك ما وضحته في الفصل الذي ذكرت فيه إبراهم و إبراهيم. فلابد أن هناك حكمة في تسمية يعقوب مرة بيعقوب و مرة إسرائيل و إن كان الاختلاف في الإسم اختلافا عظيما. 


كما أننا نجد أحيانا عيسى و في أحيان أخرى المسيح. كما نجد أحيانا إلياس و في آية أخرى إل ياسين و محمد و أحمد. و لكن لقائل أن يقول إن المسيح بينه الله أن عيسى و ذلك في قوله: ((إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)) و إلياس و إل ياسين الإسم قريب جدا فلا اشكالية و كذلك أحمد و محمد فالمعنى و الإسم قريب، لكن أين اسم يعقوب من اسم إسرائيل؟ الفرق كبير جدا و هذا قول في الحقيقة قوي و لابد من أن نلتفت إليه و لا أزعم أني وجدت الإجابة و الحكمة فالله أعلم.


لكن الغريب أن يعقوب بالذات تجد اسمه أحيانا يعقوب و أحيانا إسرائيل في التوراة مع أن في التوراة أن يعقوب هو إسرائيل صراحة في عدة مواضع، لكن بالرغم من ذلك فإنك تجد نصوصا فيها ذكر اسم يعقوب و أخرى فيها ذكره أي يعقوب باسم إسرائيل و هذا لا تجده مع أي نبي آخر في التوراة فقلت في نفسي لابد أن هناك سرا لم نكتشفه بعد. 


يجدر بي أن أذكر أن بعض حاخامات و أحبار اليهود تعرضوا لهذه المسألة و انتبهوا إليها و لم يتركوها من دون تحليل، عن نفسي أفضل ما قرأت كان ملاحظة أحد مفسري التوراة و هو الرابي سامسون رافائيل هيرش إذ قال بما في معناه أنه كلما تجد اسم يعقوب في التوراة فإنه يكون في وضع دنيوي، بمعنى أنه إما حزين، أو خائف، حالة ضعف أو اعتماد على الآخرين بمعنى مختصر في حالة هبوط، و أينما تجد إسرائيل كاسم ليعقوب فيكون في وضع قيادي و مستقل، أب يُنظر إليه بنظرة احترام و تكبير و فوق الحالات الدنيوية. 


وجدت رأي الرجل مثيرا فحاولت أن أطبّق كلامه على جلّ النصوص التي فيها ذكر إسرائيل و يكون المقصود فيه يعقوب فوجدت أنه نوعا ما صحيح، ثم حاولت أن أطبّق ذلك في القرآن فوجدت أنه لا يبعد أن يكون محتملا. فمثلا في سورة يوسف جاء اسم يعقوب و ليس إسرائيل للنظرة الدونية التي كانت لأبنائه تجاهه: ((إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)) و قولهم أيضا: ((قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)) و قولهم أيضا: ((قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ)) لكن عندما نجد ذكر بني إسرائيل في القرآن فكل القوم يُنسبون إليه، و عندما يكون القوم كله يُنسبون إليه فتكون نظرة علوية له، و كذلك في قوله: ((كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ۗ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)) و الإنسان عندما يحرّم على نفسه شيء من العلو والله أعلم. و لقائل أن يقول أن اسم يعقوب هو الإسم الدنيوي و الذي يخص الأمور الدنيوية في حين أن إسم إسرائيل يخص الأمور الروحية و المعنوية. 


فإن قلت ما سبب أننا لم نجد اسم إسرائيل في الآيات التي فيها ذكر الأنبياء، يعني مثلا في سورة الأنعام أو سورة مريم أو سورة الأنبياء لأن فيها سرد لأخبار الأنبياء، فلماذا لا نجد اسمه بينهم و لكننا نجد يعقوب؟ ألا يدل هذا على أن إسرائيل ليس بيعقوب و ليس بنبي، أقول هذا الكلام ليس بالضرورة أن يكون صحيحا و ذلك لسبب يسير. هل وجدت في الآيات نفسها التي فيها ذكر الأنبياء اسم المسيح؟ لن تجد ذلك! بل ستجد عيسى من دون المسيح، فهل ستقول أن المسيح غير عيسى؟ بالتأكيد لا 


لكنك قد تقول: يا أخي إن الله قد بيّن لنا في كتابه أن المسيح هو عيسى بن مريم بدليل قوله: ((إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)) إذن الآية تثبت أن المسيح هو عيسى بن مريم، أما عن سبب ذكره باسمه عيسى بدلا من المسيح في جميع الآيات التي فيها ذكر الأنبياء لابد أن هناك سببا، و لكن الآية المذكورة تنهي الخلاف فلا تقارن إسرائيل بالمسيح. حسن، لا بأس، كلامك مقبول، لكن ما تقول في أحمد و محمد؟ أليس المقصود بأحمد في آية بشارة عيسى هو نفسه محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم؟ فإن قلت نعم هو فإذن سأقول لك لِمَ لا نجد في آية واحدة فيها كلام من الله أن محمد اسمه أحمد كما نجد في اسم المسيح عيسى بن مريم؟


فإن فهمت هذا الذي ذكرته، فهمتَ أن النمط الذي ظَنَنْتَهُ أنه هو الحاكم و الغير مُتغيّر ليس بصحيح، و بعد هذا الذي قلت يمكن لإنسان أن يقول إن ذكر إسرائيل بعد إبراهيم في سورة مريم: ((أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)) إشارة إلى أن إسرائيل نبي أيضا والله أعلم. 


و دعونا ننظر إلى المسألة الأخرى، إن كان يعقوب هو إسرائيل و هو نفسه عمران فما هي الإشكاليات التي ستواجهنا؟


الإشكالية الأولى و الأكبر هو الفارق الزمني بين يعقوب و مريم أم المسيح. فإن كتب التاريخ و الروايات الإسلامية و غير الإسلامية تثبت أن هناك فارقا زمنا كبيرا بين يعقوب و زمن المسيح، فكيف يعيش إنسان كل هذه المدة من دون الإشارة إلى أن عمره كان طويلا؟ فإن قيل إن نوحا دعا قومه ٩٥٠ سنة نقول لهم إن القرآن أخبرنا هذا صراحة و قال كم لبث في قومه لكننا لم نجد أي شيء من هذا القبيل ليعقوب و إسرائيل أو عمران. فإن كان يعقوب مُعمّرا و عاش أكثر من نوح فلم لا نجد في أي مصدر من المصادر ما يشير إلى هذا الأمر؟ بل كل المصادر توحي بخلاف ذلك: فنجد مثلا في سورة يوسف: ((قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)) فكان شيخا كبيرا زمن يوسف، فما بالك بعدها بزمن موسى ثم من بعده ثم زمن داوود و سليمان و غيرهم من الأنبياء حتى زمن المسيح، كل هذه المدة التي عاشها و ليس هناك ذكر له على أنه عاش طويلا أو من يذكره لا في كتب المسلمين و غير المسلمين؟ 


و قول أن اسمه عمران يدل على طول عمره نقول له ما الدليل على أن مجرد اسمه يصلح أن يكون دليلا أنه يعيش آلاف السنين؟ إن مثل هذا بحاجة إلى وحي و لا يصلح أن نعتمد على أمر كهذا بمجرد الرأي و الظنّ. فإن قالوا إن معنى اسم يعقوب الذي يعقب بنيه و يتأخر موته عنهم، نقول لهم ما تقولون في هذه الآية: ((أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) فإنه من ظاهر الآية يدل أنه لم يعقب بنيه أو عاش بعدهم، و ما بال بنيه إن كان هو أبو موسى و سليمان و داوود ما ذكروا ذلك نعبد إله آبائك إبراهيم و إسماعيل و إسحق، و هل هناك شرف يقارب كون موسى ابنه الذي أنزل عليه التوراة و الفرقان فلم هذا الشرف العظيم لا يكاد أحد يعرفه؟ 


فكّر فيها، كونه كان أبو يوسف و اخوته، و أبو موسى و هارون و أبو مريم و صار جدا للمسيح، هذا الشرف العظيم ما بال الناس لم يُحَدّثوا عنه و يذكروا خبر إنسان عاش هذه الأجيال و كان أبو يوسف و موسى هارون و عيسى؟ و خاصة أن الأمم تحب أن تتناقل الغرائب و تذكر القصص العجيبة، هل غفلوا عن يعقوب الذي عاش كل هذه السنين؟ بل لا نجد أنه عمّر لا حتى في الإسرائيليات و لا في الأحاديث الموضوعة و لا الأساطير لكي يُقال لابد أن تلك الأمور كانت مبنية على حدث حقيقي، فكون عدم وجود دليل على أنه عاش آلاف السنين ثم نقول إنه عاش كل هذا لأن اسمه يعقوب نقول لهم، هذا لا يصلح كدليل، لأن أمرا عظيما كهذا الأمر لا يُعرف و يُؤخذ من معاني الأسماء هكذا. 


ثم أيضا من قال أن اسم أبو موسى و هارون هو عمران؟ من أين لكم بهذا؟ فإن قالوا إن المؤرخين يقولون ذلك، فأقول لهم لِمَ تأخذون كلام المؤرخين تارة و تتجاهلون أقوالهم تارة أخرى؟ ألم تتجاهلوا ما في التوراة من أن إسرائيل هو يعقوب؟ فإن قيل نجد في الروايات المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه و سلم أن اسم موسى هو موسى بن عمران، اختصارا أقول أن الروايات التي يقصدونها لا تصح سندا. لا يوجد حديث واحد صحيح فيه موسى بن عمران. فمن أين أتى الناس أن اسم أبو موسى هو عمران؟ في الحقيقة ليس عندهم دليل إلا استنادا على تاريخ اليهود و أهل الكتاب. و في تاريخهم أن أبو موسى اسمه عمرام و ليس عمران، بل حتى في التوراة اسم أبو موسى هو عمرام بالميم و ليس بالنون. فخلط المؤرخين المسلمين وارد بالحرف و احتمال أن الاسم يتغير عند الكتابة العربية أيضا وارد.


و من قال أن عِمران من العمارة و العُمران بضم العين؟ كل الكلمات التي تدل على العمر تأتي بضم العين و لم تأت مرة واحدة بكسر العين، فكيف صار عِمران من العُمران؟ و من قال أن يعقوب بمعنى الذي يعقب و يخلف بنيه؟ لم لا يكون الذي يعقب إسحاق؟ (و من وراء إسحاق يعقوب) ليس هناك دليل لغوي قوي حقيقي يمكن الاعتماد عليه، فمن قال أن عِمران بكسر الميم من العمارة و العمران فعليه أن يأتي بالدليل من القرآن ثم من اللغة و لن يجد ذلك. 


فإن قيل أن عائشة كانت تقول أن هارون أخت مريم هو نفسه أخو موسى بدليل رواية ابن جرير: حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، عن سعيد بن أبي صدقة ، عن محمد بن سيرين قال نبئت أن كعبا قال : إن قوله : ( يا أخت هارون ) : ليس بهارون أخي موسى . قال: فقالت له عائشة: كذبت ، قال: يا أم المؤمنين ، إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله ، فهو أعلم وأخبر ، وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة . قال : فسكتت) الرواية فيها عدة اشكاليات سندا و متنا. لكن تنزّلا نقول أن الرواية صحيحة، فَلِمَ سكتت في نهاية الأمر؟ كلنا يعلم من هي أم المؤمنين عائشة بنت الصديق، زوجة الرسول الكريم، كيف تسكت على باطل إن كان باطلا؟ و إن لم يكن للتاريخ أي دلالة فما بالها سكتت بعد أن ذكر لها كعب الفارق الزمني، ألا يدل أنها تعطي التاريخ اعتبارا؟ فإن كانت تعطي التاريخ اعتبارا فمن باب أولى أن تعطي التاريخ الذي يتفق عليه المسلمون و غير المسلمون اعتبارا أقوى، و عندي أن الاعتبار الأقوى من التاريخ هو التوراة. و التاريخ الإسلامي و غير الإسلامي و التوراة تثبت أن يعقوب ليس هو أبو مريم أم المسيح فحتى أولئك الذين يرون أن هذه الرواية صحيحة فإنها لا تدعهم بل بالعكس تثبت خلاف ما يقولون من أن عمران هو يعقوب هو نفسه أبو يوسف و موسى و هارون و مريم أم المسيح.


و في حديث المغيرة الذي نقلته سابقا، هل يعقل أن الرسول صلى الله عليه و سلم غفل عن هذه النقطة؟ ألم يكن من الممكن أن يقول للمغيرة أما قلت لهم أن يعقوب كان معمّرا بدلا من أن يقول: ((إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ))؟ و إن قلنا إن الحديث ضعيف و أراد الناس ردّ الشبهة ألم يكن في بال أحد منهم أن يعقوب عاش طويلا و كان أبو يوسف و موسى و هارون و مريم أم المسيح؟ هذا يعني أن الذي ألّف الحديث على فرض أنه تأليف لم يسمع أي شيء بهذا و إلا فإنه كان سيأتي به مباشرة على ضوء تحاور العلماء من شتى الأديان حول المسائل الدينية زمن تدوين السنة النبوية. عن نفسي في قلبي شيء تجاه هذا الحديث لكن ليس هذا موضع ذكره لكن يكفي أن القرآن أخبرنا أنهم قالوا: (يا أخت هارون) فإن كانت المسألة تسمية بالصالحين عندهم فإن موسى عند أهل الكتاب و المسلمين بالاجماع أفضل من هارون، و عندهم إبراهيم و إسحاق و يعقوب فكون القرآن سجّل مقولتهم (يا أخت هارون) فلابد أن هناك أمرا آخر غير ما ذهب إليه الرواة أو المفسرون و سأحاول التفصيل في هذا في فصل: يا أخت هارون.


و في الحديث الذي أخرجه البخاري و مسلم (سُئِلَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَن أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قالَ: أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ قالوا: ليسَ عن هذا نَسْأَلُكَ، قالَ: فأكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ، ابنُ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ قالوا: ليسَ عن هذا نَسْأَلُكَ، قالَ: فَعَنْ معادِنِ العَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ النَّاسُ معادِنُ، خِيَارُهُمْ في الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإسْلَامِ، إذَا فَقُهُوا) فإن كان يعقوب هو أبو موسى كذلك ألم يكن موسى أكرم من يوسف، أليس هو ابن نبي الله يعقوب، ابن نبي الله إسحق ابن نبي الله إبراهيم؟ بل كلّمه الله تكليما و أوحى إلى أمه ما يوحى و وهب له أخاه هارون نبيا و آتاه الألواح و التوراة و الفرقان؟ و في سورة الدخان نجد: ((وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ))، فهذا الحديث و أمثاله يدل على أن أبو موسى ليس هو أبو يوسف عليهم السلام جميعا. 


على كل إن رجعنا إلى التوراة لعلمنا أن أبو موسى مات و هو عمره ١٣٧ و أما يعقوب عليه السلام مات و هو عمره ١٤٧. بل إن أبو موسى مذكور من هو أبوه و جده فنجد في التوراة أن اسم أبوه هو قهات و اسم جده لاوي في حين أن أبو يعقوب هو إسحق و جدّه إبراهيم عليهم السلام. و كثيرا ما كنت أسأل نفسي و غيري لِمَ نجد في التوراة ذكر هذه التفاصيل التي قد تبدو أنها لا تقدّم و لا تؤخر؟ اليوم أقول لو لم يكن منها فائدة إلا أن نعرف الفارق بين أبو موسى و يعقوب لكفى. 


عندما تقرأ التوراة تجد فيه ذكرا للأنساب، فإن كان يعقوب و عمران نفس النسب ما سبب التحريف والاغفال؟ فإن قلنا أن اليهود حرّفوا فمن صالحهم أن يقولوا أن إسرائيل يعقوب عاش طويلا و كان أبو يوسف و موسى و هارون فَلِمَ لم يفعلوا ذلك؟ هذا يدل أن هذه الجزئية في الأنساب ليست محرّفة و إن كانت غير محرّفة كانت كافية لترد فرضية أن يعقوب هو نفسه أبو يوسف و هو نفسه أبو مريم و ذلك لأن في التوراة حتى على التفكير الإسلامي التقليدي أنّها محرّفة لا يقولون بتحريفها كلها، يقولون فيها تحريف و فيها حق، فإن ثبت أن جزئية غير محرّفة إذن هي حق، يعني حتى لو أخذنا بفرضياتهم التي يكررونها في كثير من المحافل لا يجدون مخرجا من هذا الذي ذكرت.


و لو قلنا يعقوب عليه السلام قد عمّر طويلا إلى أن عاش زمن مريم أم المسيح فأين هو؟ هل انتهى دوره كونه نبي من الصالحين و صار فقط يتزوج أم ماذا؟ نجد في سورة غافر: ((وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ)) أين ذهب يعقوب أو عمران، و ما باله ليس له مشورة عند موسى و هارون و داوود و سليمان؟ كل تلك المدة ليس له ذكر في أي أمر! أيُعقل هذا و هو نبي من الصالحين و خاصة أن له خبرة طويلة إذ عاش زمن إبراهيم حتى زمن أم المسيح؟ تخيّل تقول أن إبراهيم عاش من زمنه حتى زمن المسيح ثم لا يكون له ذكر و لا أي دور؟ سبحان الله. إنه من المتعارف لدى الناس أن يوسف عاش في مصر و كذلك أبويه و بما أنه عاش حتى زمن أم مريم فأين هو عندما كان فرعون يسوم بني إسرائيل سوء العذاب؟ ألم يبعث لهم بنصيحة و تذكرة واحدة؟ لا تنسى أنه كان نبيا و كان أبو يوسف و ليوسف المكانة التي كانت له في مصر؟


ثم هناك أمر آخر، نجد أن الله يمتن على إبراهيم أن وهب له اسحق و يعقوب نبيا، ماذا عن يعقوب إذن؟ إن كان هو أبو يوسف النبي و أبو موسى النبي و أبو هارون النبي و أبو مريم أم المسيح كلمة الله؟ لماذا لا نجد في القرآن آية على هذا الامتنان العظيم؟ و أيضا نجد في القرآن أن يعقوب حزن حزنا شديدا لفراق ابنه يوسف و كيف فقد بصره و ماذا عن أبنائه موسى و هارون و غيرهما الذي عاش بعدهما و كثير من الذين ماتوا في حياته الطويلة التي عاشها؟ أسئلة لابد أن تطرح إن أخذنا بهذه الفرضية.


فإن قيل لِمَ قال في سورة مريم: ((أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)) و في سورة آل عمران قال: ((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)) لِمَ لا نجد عمران في آية سورة مريم و لا نجد إسرائيل في سورة آل عمران؟ للإجابة عن هذا السؤال أقول، في سورة آل عمران الحديث عن آل عمران و هم إمرأة عمران و مريم و عيسى. و قبل الآية المذكورة، أقصد آية الاصطفاء لم يأت ذكر أي نبي، فكأن هذه البداية لآل عمران، هذه واحدة.


الثانية، تأمل في آية سورة آل عمران قال: (آل إبراهيم) و هذا يشمل بنيه و بني يعقوب كذلك بدلالة الآل، و إن أردت أن تعرف من هم آل إبراهيم فاقرأ هذه الآية: ((أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ۗ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) أو اقرأ هذه الآية ((قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136))) آل إبراهيم يدخل فيه امرأته و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط. فإنه لما قال آل إبراهيم دخل فيه الذكور و الإناث و من ذكرت فلم يكن هناك داعٍ لذكر يعقوب أو إسرائيل.


أما الثالثة ففي آية سورة مريم: ((أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)) كثير من الباحثين يصل إلى إسم إسرائيل ثم يتوقف، لكن لو أنك تمعنت جيدا لوجدت بعدها (وممن هدينا و اجتبينا) مما يفتح الباب مفتوحا أن هناك غيرهم و أنه غير مقصور فقط على المذكورين. 


و هذه الآية من سورة مريم تشبه إلى حد بعيد الآيات المذكورة في سورة الأنعام، اقرأها: (( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ ۖ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا ۚ وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ۖ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (87))) تأمل كلمتين (واجتبيناهم و هديناهم) و قارنها بالتي هي موجودة في سورة مريم و التي قلت أنها لا تفيد الحصر فقط، لأننا نجد في سورة الأنعام عيسى و نجد لوط الذي ليس من ذرية إبراهيم كما هو معروف و تأمل قوله: (و من آبائهم و ذريّاتهم و إخوانهم) فهذه كلها تشير أن الآية من سورة مريم يجب أن تقرأها كلها و لا تتوقف عند قوله (و من ذرية إبراهيم و إسرائيل) ثم تتوقف بل أكملها لتجد (و ممن هدينا و اجتبينا).


ثم إن الذي يقرأ القرآن يجد أن هناك أمرا مشتركا بين إسرائيل و يعقوب، و هو أن يعقوب جاء من بعد إبراهيم و عاش قبل أن ينزل الله التوراة، أي قبل وجود اليهودية و النصرانية. دعونا نتأمل الآيات التالية: ((أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ۗ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) فهنا يدل على أن الأنبياء المذكورين كانوا قبل اليهودية و النصرانية، و لنقرأ آية سورة آل عمران: ((كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ۗ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)) الذي يدل أيضا على أن إسرائيل كان في زمن قبل أن ينزل الله التوراة، و إلا فإن كانت التوراة قد نزلت لم يكن ليحرم على نفسه.


و أيضا في آية سورة مريم: ((أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)) السياق يدل على أنه هناك فارق زمني بمعنى آدم قبل الذين حملوا مع نوح، و الذين حملوا مع نوح قبل إبراهيم و إبراهيم قبل إسرائيل. إذن الآيتان التي فيها ذكر إسرائيل تدل على أنه كان قبل نزول التوراة و بعد إبراهيم. 


فإن كان يعقوب هو عمران أبو مريم أم المسيح فلابد أنه يعرف التوراة جيدا، فهل يعني أنه بقي إسرائيل أو يعقوب محرما على نفسه حتى بعد نزول التوراة؟ و هل كان من يستشهدون بتحريم إسرائيل على نفسه الطعام غافلين أنه أبو موسى و عاصر نزول التوراة و بعده؟ كل هذا يدل أن هناك خللا إن قلنا أن يعقوب أو إسرائيل عمّرا طويلا إلى زمن أم المسيح. 


ليس هذا فحسب بل حتى في هذه الآية ((قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)) فيها ما فيها من الأدلة التي تدل أن يعقوب ليس أبو موسى، فإن كان يعقوب أبو موسى و ينسب إليه بني إسرائيل كما هو معروف لدى الناس فلم لم يقل موسى لا أملك إلا نفسي و أخي و أبي مثلا، و ما بال بني إسرائيل الذين يُنسبون إلى يعقوب، ما بالهم لم يلتفتوا إليه بل لم يذكروا له سيرة طوال مسيرتهم مع موسى؟ و عندما ذهب موسى لميقات ربّه ألم يكن ليعقوب دور عندما قاموا بعبادة العجل؟ لا يكون ذلك إلا أن يكون يعقوب ليس له وجود في عالمهم يومها.


إن بحثنا في القرآن عن أخبار يعقوب عليه السلام، وجدنا الخبر في التوراة كذلك، فمثلا بشارة إبراهيم بإسحق و يعقوب نجدها في التوراة، و كذلك قصة يعقوب في سورة يوسف موجودة كذلك، بل حتى آخر حياته، أعني هذه الآية ((أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) هذه موجودة أيضا في التوراة، إذ قال يعقوب لبنيه و وصّاهم و بارك لهم، و هذه معروفة عند أهل الكتاب في لوحاتهم و متاحفهم يرسمون هذا الحدث من شهرته. و ليس في التوراة أو التاريخ حدث آخر جمع فيه يعقوب بنيه بعد موسى و هارون فتأمل.


من الأسباب التي جعلت الكثيرين يشككون في أن يعقوب هو إسرائيل، بعض النصوص المشهورة في التوراة، مثل هذا الذي نجده في سفر التكوين: “26 جَمِيعُ النُّفُوسِ لِيَعْقُوبَ الَّتِي أَتَتْ إِلَى مِصْرَ، الْخَارِجَةِ مِنْ صُلْبِهِ، مَا عَدَا نِسَاءَ بَنِي يَعْقُوبَ، جَمِيعُ النُّفُوسِ سِتٌّ وَسِتُّونَ نَفْسًا. 27 وَابْنَا يُوسُفَ اللَّذَانِ وُلِدَا لَهُ فِي مِصْرَ نَفْسَانِ. جَمِيعُ نُفُوسِ بَيْتِ يَعْقُوبَ الَّتِي جَاءَتْ إِلَى مِصْرَ سَبْعُونَ. فقالوا يعقوب و بنيه لم يتجاوزوا السبعين في حين عند خروجهم من مصر تقول التوراة في سفر الخروج: “37 فَارْتَحَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ رَعَمْسِيسَ إِلَى سُكُّوتَ، نَحْوَ سِتِّ مِئَةِ أَلْفِ مَاشٍ مِنَ الرِّجَالِ عَدَا الأَوْلاَدِ. 38 وَصَعِدَ مَعَهُمْ لَفِيفٌ كَثِيرٌ أَيْضًا مَعَ غَنَمٍ وَبَقَرٍ، مَوَاشٍ وَافِرَةٍ جِدًّا. فهل يمكن أن يتكاثروا من ٧٠ إلى ٦٠٠ ألف؟ أليست هذه معجزة؟ و هذا في الحقيقة مُشْكِل! لكن الذي يفهم لغة التوراة لن يواجه مشكلة، و ذلك لأنه يعرف أن الكلمة العبرية المستخدمة للألف و أعني هذه אֶ֧לֶף تستخدم للألف و تستخدم للعائلة و تستخدم للقائد أو الرئيس أو كما يُقال باللغة الإنجليزية Chief و يمكنك التأكد من ذلك في مراجعة سفر يوشع الإصحاح الثاني و العشرين و الذي فيه: “14 وَعَشْرَةَ رُؤَسَاءَ مَعَهُ، رَئِيسًا وَاحِدًا مِنْ كُلِّ بَيْتِ أَبٍ مِنْ جَمِيعِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ، كُلُّ وَاحِدٍ رَئِيسُ بَيْتِ آبَائِهِمْ فِي أُلُوفِ إِسْرَائِيلَ. و للأسف و لأن الترجمة العربية سيئة للغاية، أحيلك إلى الترجمة الإنجليزية و التي هي أصح من العربية ستقرأ التالي:


“With him they sent ten of the chief men, one from each of the tribes of Israel, each the head of a family division among the Israelite clans.


لهذا أقول للذي يعتمد على النسخة العربية المترجمة و كذلك كثير من الترجمات الإنجليزية للتوراة سيضيع معها و سيشكل عليه الكثير من النصوص، لكن لو كان خبيرا في اللغة العبرية الخاصة بالتوراة و عرف استعمالات الكلمة لم يجد صعوبة في فهم هذه النصوص، و أقول لهم ليس الأمر كما ظننتم من خطأ التوراة، و ليس الأمر أن بني إسرائيل تكاثروا كالأرانب على زعم بعض الكاتبين في هذا الموضوع، أقول لهم، لم تفهموا لغة التوراة. 


قلت في فصل سابق أعني الفصل: هل يعقوب هو إسرائيل؟ أن إسرائيل لم يذكر أبدا في سورة يوسف و هذا حق، و لكن على الأقل في هذه السورة نجد آل يعقوب للإشارة أنه سيكون لعقبه شأن: ((وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) لاحظ أتم على أبويك من قبل يعني أتم النعمة، مما يدل أن اتمام النعمة على آل يعقوب باقية بعد. 


و في سورة يوسف هناك أمر نفهم منه أن بني يعقوب انتقلوا إلى مصر مما يفسّر سبب وجود بني إسرائيل في مصر تحت حكم فرعون، تعالوا نتأمل الآيات من سورة يوسف: ((اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ۖ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ۖ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)) ففي هذه الآيات نفهم أن صار هناك تنقّل على مستوى كبير، كانوا في البدو ثم في مصر، هنا نفهم وجود بني إسرائيل في مصر. ثم بعد ذلك عندما خرجوا من مصر و كانوا مع موسى كم أمة كانوا؟ اثنى عشر، بعدد أبناء يعقوب، تأمل هذه الآية من سورة الأعراف: ((وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ ۚ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)). و من اللطائف أن سورة يوسف فيها ١١١ آية و سورة الإسراء كذلك فيها ١١١ آية و التي كانت معروفة أيضا باسم سورة بني إسرائيل. 


فكما ذكرت، في التوراة هناك صراحة أن يعقوب هو إسرائيل في كثير من المواضع يصعب على الحصر، فإن قلت إذن كيف تحل إشكال الآية التي في سورة مريم و التي فيها ذكر (أخت هارون)، أعني هذه الآية: ((يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا))؟ الحل الذي أقترحه ستجده في المقال القادم.