ذكرت في المقال السابق أن الآية: ((يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا)) ليس بدليل قوي على أن يعقوب هو عمران بسبب الاشكاليات الكبيرة التي في هذا الرأي، و قد تقول ماذا بقي؟ كيف تفسّر ذكر هارون هنا في هذا الموضع؟ و لماذا قالوا هارون من دون موسى مع أن موسى هو الأشهر؟ قد يُقال لأن هارون هو أخو موسى من الأم في حين أن هارون أخو مريم من الأب و هذا ليس بدليل كاف كما ذكرت سابقا.
ملخّص ما قيل في هارون الذي نسبت إليه مريم أربعة أقوال:
الأول: أنه كان رجلاً صالحاً من بني إسرائيل ينسب إليه من يعرف بالصلاح
الثاني: أن المقصود هو هارون أخو موسى و نسبت إليه بسبب تشابه في الصلاح و العبادة و كان القوم يلقبون عبّادهم بهارون.
الثالث: أنه هارون أخو موسى فنسبت إليه لأنها من ولده كما يقال يا أخا بني فلان، يا أخا العرب، يا أخا تميم
الرابع: أنه كان أخاها لأبيها وأمها و قيل كان أخاها لأمها
الخامس: أن قوم هارون كان فيهم فُسَّاق وزُنَاةٌ، فنسبوها إِليهم
السادس: أنه كان رجلاً فاسقاً معلناً بالفسق ونسبت إليه
السابع: أنها أخت هارون حقيقة و يشتركان في نفس الأب و هو عمران (و هو قول بعض المعاصرين الذين قلدوا صلاح الدين أبو عرفة)
لم تخرج أقوال المفسرين المتقدمين و المتأخرين عن هذه الأقوال فيما أعلم.
فإن سألتني أي الأقوال هي التي تراها الأقرب؟ فأجيب و أقول بأن القول الأول فهو المتبادر إلى الفهم من خلال الرواية المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه و سلم و أعني بذلك هذا الحديث: “عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : لَمَّا قَدِمْتُ نَجْرَانَ سَأَلُونِي فَقَالُوا : إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ : يَا أُخْتَ هَارُونَ ، وَمُوسَى قَبْلُ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا ؟ فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ”. بالطبع أنا متوقّف بخصوص هذا الحديث و ذلك سندا، أما متنا و إن قيل أن المعنى أن مريم كان لها أخت يُدعى هارون و أن أبويها سمّوها هارون فهذا في الحقيقة أستبعده. و سنعود إلى هذا الحديث لاحقا.
أما الثاني فلعله الأقرب
الثالث و هو أيضا قريب و جائز لغة لكن لم نجد مثل هذا في القرآن عندما يكون الخطاب مباشرا لهذا أستبعده.
أما القول الرابع فهو بعيد، ليس في أي تاريخ لا عند أهل الكتاب و لا عند المسلمين أن كان لمريم أخت تسمى هارون غير ما قاله المفسرون عندما تعرضوا لهذه الآية و لا يصح ذلك كدليل.
أما القول الخامس فإن كل الأقوام الكبيرة فيها الصالح و الطالح كما يُقال فلم اختاروا هارون من دون البقية؟ كان بإمكانهم اختيار آدم أو نوح أو إبراهيم أو موسى…الخ لابد أن هناك سرا آخر لاختيار هارون
و بالنسبة للقول السادس فهذا لا يمكن إثباته، على الأقل من المصادر التاريخية.
و أما القول الأخير فقد رددته في الفصل السابق فارجع إليه.
فإن سألتني هل عندك أقوال جديدة لم تسبق إليها؟ أقول نعم عندي قولان:
الأول: أنهم ربما قالوا لها ذلك من باب التقريع و الاستحقار، و ذلك لأن قومها من بني إسرائيل، و متعارف عند بعض بني إسرائيل أنهم قالوا عن هارون قولا عظيما و ذلك في كونه المسؤول عن اخراج العجل لبني إسرائيل عندما تركهم موسى و بقي معهم هارون، و هذا الذي يبدو ظاهرا لعامة الناس عندما يقرؤون التوراة و الحقيقة خلاف ذلك. فصار عندهم خبرا متعارفا و متداولا، تماما كما تدالوا بينهم خبر أن الله استراح في اليوم السابع أو أن المسيح ابن الله و إن كانت الكتب المتقدمة ليس فيها نصوص تثبت ذلك إنما سوء الفهم و تحريف المعنى. فإن قلنا أن اليهود أو الأفضل لنقل بني إسرائيل كان متعارفا عندهم أن هارون أخرج لهم العجل إذن قد نفهم لم قالوا عن مريم يا أخت هارون. فإنه استقر في عقولهم أن هارون كان نبيا صالحا عابدا، إلا أنه ضلّ و أتى بفرية و هي إخراج العجل لبني إسرائيل. و كان معروفا عند القوم أن مريم كانت عابدة طاهرة ثم فجأة ظنوا أنّها زنت فكأنها وقعت تماما كما وقع لهارون في مخيلتهم فلهذا قالوا يا أخت هارون ثم قالوا ما كان أبوك إلى آخر الآية.
و هذه الطريقة حتى اليوم العامة يستخدمونها أحيانا بمسبة أو باستحقار فمثلا يقولون: “أيها الحيوان، أليس عندك كذا و كذا” أو عندما يجدون من عرف بالصلاح أتى بفاحشة مثلا تجد بعض أهل الخليج قد يقولون: “يا ابن الذين، أبوك إمام مسجد”.بل عن نفسي أحيانا عندما ألعب مع أخي يقول لي: “يا اليهودي، كيف فزت و أنت ما عندك كذا و كذا” و عندما يستخدم يا اليهودي يقصد الحيلة و المكر الذي بهما أغلبه و هكذا لأنه مستقر في عقله أن اليهود قوم ماكرون. فمحتمل أن يكون هذا مقصدهم من قولهم لمريم يا أخت هارون، يعني أنت من جاءت بفعلة هارون، ما كان أبوك…الخ هذه هي إحدى الأقوال الجديدة و الذي قد يكون أقرب إلى الصواب من أقوال السابقين.
فإن قلت بأن هذا الذي هو قلت قول جديد، هل لديك غيره؟ أقول نعم لدي قول جديد آخر لم أجد من قاله و قد يكون هو الأصح و هذا الرأي استلهمته بعد أن قرأت في التوراة. من يقرأ التوراة يجد أن هارون تم تعيينه الكاهن الأول لبني إسرائيل. و الكاهن من كوهين العبرية و قد وردت الكلمة في التوراة عدة مرات و كان دور الكاهن يقوم بخدمة الناس ويسعى في حاجتهم و يقوم بخدمة المعبد و المذبح و تنظّيم القرابين و خصصت هذه المهمة لهارون و ذريته من دون الناس. و من واجباتهم تقديم الذبائح سواء اليومية و الأسبوعية و الشهرية و كذلك كان يخدم الناس في طرق التكفير عن ذنوبهم، كما أنه لدينا أنه من فطر نهار رمضان فكفارته كذا و كذا و من قتل نفسا بغير عمد فكفارته كذا و كذا. و أيضا من واجباتهم خدمة المسكن أو المعبد و التابوت و النفخ في الأبواق للبدء بطقوس العبادة و يعلموا الناس التوراة و يبينوا الأحكام الواردة فيها.
و المثير في الأمر أن الكاهن لا يُسمح لهم العمل للتكسّب، و دلك لأن الله أعطى الكاهن الصلاحية ليأخذ قدر حاجته من النذور و القرابين فقط من دون الناس أجمعين، و قد فُرض على بني إسرائيل أن يخصصوا شيئا يسيرا من ما يُقدمون للكاهن و بنيه الذين يقومون بالخدمات الدينية مقابل خدماتهم و أنهم محرومين من العمل. هذه التفاصيل مذكورة في سفر اللاويين من التوراة من أراد فليراجعها، لكن سأذكر أهم النقاط:
- أن يكون من ذرية هارون
- أن يكون ذكرا
- أن يكون سالما من العيوب
- أن لا يكون ابن زنى
- أن يكون الكاهن الأكبر المشرف على خيمة الإجتماع أو المسكن هو الابن البكر و يظل في وظيفته حتى الموت.
و هُم رُتَب فهناك الكاهن الأعظم أو الأكبر و الذي لا يسمح لغيره أن يبقى في المحراب أو قدس الأقداس، كان هو هارون أخو موسى، و هناك الكهنة العاديون و تختلف اختصاصاتهم فمنهم القضاة و منهم الكتبة و منهم الذين يقومون بترتيل التوراة و انشاد الترانيم و التسابيح و منهم الوعّاظ و بعضهم يساعدون الكاهن الأكبر في خدمة الهيكل و بعضهم يحرسون و هكذا. و هكذا من كان يريد من بني إسرائيل أن يناجي الله عليه أن يقدم قرابين أو صدقات يتحكّم بها الكاهن و هذا الأخير يذكرني بهذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ ۚ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ))
المهم لن أطيل عليكم فهناك سِفر كامل فيه الحديث عن الكاهن و دوره في بني إسرائيل يمكنكم الرجوع إليه و هو سفر اللاويين. و مهم أن تدرك أن معنى الكاهن تغير مع مرور الزمن، فالكاهن في التوراة يختلف معناه عن الكاهن اليوم كما نعرفه نحن، ما يهمنا مما تقدم التالي:
أن هارون كان كبير الكهنة و أولهم في التيه، و أن الكاهن عليه أن يكون من ذرية هارون و هذان كافينا ليُقال عن مريم “يا أخت هارون” هذا إن كانت مريم كاهنة بالمعنى التوراتي و هذا الذي أرجحه. فالذي يقرأ القرآن يفهم أن مريم كانت عابدة مختلية و كان لها محراب تكون فيه، و كان كلما دخل عليها زكريا وجد عندها رزقا. و الذي يظهر لي أن امرأة عمران نذرت أن ما في بطنها سيكون خادما في المعبد ككهنة بني إسرائيل، و لكن الذي حدث أنها أنجبت أنثى بدلا من الذكر فهذه كانت الصعوبة الأولى: ((إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) و نجد في تفسير الطبري معنى النذر: ((إني جعلت لك يا رب نَذْرًا أنّ لك الذي في بطني محرّرًا لعبادتك. يعني بذلك: حبستُه على خدمتك وخدمة قُدْسك في الكنيسة، عتيقةً من خدمة كلّ شيء سواك، مفرّغة لك خاصة.)) و قال قتادة: “كانت امرأة عمران حَرّرت لله ما في بطنها، وكانوا إنما يحرّرُون الذكور، وكان المحرَّر إذا حُرِّر جعل في الكنيسة لا يبرَحها، يقوم عليها ويكنُسها.” مما يثبت ما ذكرته.
و تأمل في التكملة، (( فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ )) وضعت أنثى و المشكلة أن المطلوب الذكر، لكن الله قبلها و قبل نذرها.
و بما أن لزكريا علاقة بالموضوع بحثت في المصادر عن زكريا فإذا بي أجد أنه و زوجته من الكهّان (بالمعنى التوراتي) ما يعطيني دلالة إضافية أن ما قلته صحيح، نجد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا: ((5 كَانَ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ مَلِكِ الْيَهُودِيَّةِ كَاهِنٌ اسْمُهُ زَكَرِيَّا مِنْ فِرْقَةِ أَبِيَّا، وَامْرَأَتُهُ مِنْ بَنَاتِ هارُونَ وَاسْمُهَا أَلِيصَابَاتُ. 6 وَكَانَا كِلاَهُمَا بَارَّيْنِ أَمَامَ اللهِ، سَالِكَيْنِ فِي جَمِيعِ وَصَايَا الرَّبِّ وَأَحْكَامِهِ بِلاَ لَوْمٍ. 7 وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَلَدٌ، إِذْ كَانَتْ أَلِيصَابَاتُ عَاقِرًا. وَكَانَا كِلاَهُمَا مُتَقَدِّمَيْنِ فِي أَيَّامِهِمَا. 8 فَبَيْنَمَا هُوَ يَكْهَنُ فِي نَوْبَةِ فِرْقَتِهِ أَمَامَ اللهِ، 9 حَسَبَ عَادَةِ الْكَهَنُوتِ، أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ أَنْ يَدْخُلَ إِلَى هَيْكَلِ الرَّبِّ وَيُبَخِّرَ. 10 وَكَانَ كُلُّ جُمْهُورِ الشَّعْبِ يُصَلُّونَ خَارِجًا وَقْتَ الْبَخُورِ. 11 فَظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ وَاقِفًا عَنْ يَمِينِ مَذْبَحِ الْبَخُورِ.)) ثم تكملة القصة و تبشير زكريا بابنه يحيى. و أبيا المذكور هو من الكهّان أيضا من ذرية هارون و كذلك زوجته من ذرية هارون، و كان يخدم في المعبد، و بهذا نفهم لم كفّلها زكريا و أين المقصود بمحراب مريم.
فتبين لنا مما سبق أن مريم لها علاقة قوية جدا بهارون من ناحية النسب و من ناحية العمل و الخدمة، و علمنا سبب (و ليس الذكر كالأنثى) و علمنا أيضا (كلما دخل عليها زكريا المحراب) و بما أنها صارت تعمل عمل هارون إذن صح أن يُقال يا أخت هارون. و ليس هذا فحسب فإن من ألقاب مريم عند الكنيسة عصا هارون أو تبرعم عصا هارون. في الحقيقة لا أعرف تفاصيل هذا اللقب و ما مصدره الأصلي لكنه يبدو أنه لقب قديم إذ يتناقلونه الناس على أنه من الألقاب المشهورة لمريم أم المسيح و بحثت في تراث النصارى عن تبرعم عصا هارون فوجدت قصة شجرة مار أفرام السرياني، ثم رحت أبحث عن هذا الراهب فإذا به راهب نصراني عاش في القرن الرابع الميلادي و كان من الشعراء و كان من مفسري الكتاب. و قصة الشجرة كالتالي و لا أعلم المصدر الأصلي إلا أن القصة منتشرة انتشارا كبيرا بين النصارى في مصر و هي كالتالي:
“اشتهرت هذه الشجرة (شجرة مار أفرام السرياني فى التاريخ القبطي بأنها شجرة مار آفرام السريانى أو شجرة الطاعة أو شجرة البركة أو شجرة المحبة ، وتقع هذه الشجرة شرق كنيسة العذراء المغارة ، وهى شجرة ضخمة جداً وهى من النوع الذى لا ينمو فى الأجواء المصرية ويذكر الرهبان أن القديس العظيم مار آفرام السريانى أتى إلى الدير فى القرن الرابع من الشام وفى يده عصاه تعينه فى الطريق كعادة رهبان الشام فظنه رهبان مصر أنه يتشبه بشيوخ الرهبان، فأشار عليه أبوه أن يغرس عصاه فى الأرض ، وهناك قول آخر أن مار آفرام سمع تذمر الرهبان فغرس عصاه فى الأرض وسار من غيرها ، فأراد الرب أن يظهر تقواه وبره للجميع ودرجة قداسته ، ويقول بعض السريان أن مار آفرام السريانى ترك عصاه أمام الكنيسة وعندما خرج رآها قد نبتت و أورقت فتركها ورحل. فصارت شجرة كبيرة , ولا تزال تعرف حتى اليوم (بشجرة مار أفرام السرياني) وهي في ساحة دير السريان بوادي النطرون. فقد نما العكاز الجاف الذى أتى به من الشام وصار شجرة ضخمة تعطى ثمراً ويستظل تحتها الرهبان وتأوى إليها طيور السماء، وهذه الشجرة من نوع التمر الهندى ويشرب الكثيرين من زوار الدير من زهرها ويأخذون ثمارها كبركة إلى الآن”. ما يهمني في القصة أن هذا الراهب تحوّلت عصاه و أثمرت و أن الشجرة تقع شرق كنيسة العذراء، لا أدري لم شدّني هذا فبحثت عن الراهب في المصادر الغربية فوجدت تراجم كثيرة له و له أشعار و تراتيل و كتاب منسوب إليه اسمه: “تراتيل الميلاد” فقرأت فيه فوجدت نصا ترجمتها كالتالي: “عصا هارون نبت، تم شرح رمزه اليوم، رحم العذراء التي ولدت.” فإن صحت هذه النسبة إلى الراهب و الراهب عاش في القرن الرابع الميلادي، فهذا يدل أن العلاقة الرمزية بين هارون و مريم قديمة بل حتى قبل زمن نزول القرآن.
ثم إن بحثت عن سبب تشبيه مريم بعصا هارون فعرفت أنهم يشيرون إلى حادثة وقعت في التوراة. إن قرأتم التوراة في سفر العدد في الإصحاح السابع عشر ستعرف الرابط بين عصا هارون و أم المسيح بأنفسكم، و أنقل لكم اختصارا للوقت: ((1 وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا: 2 «كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخُذْ مِنْهُمْ عَصًا عَصًا لِكُلِّ بَيْتِ أَبٍ مِنْ جَمِيعِ رُؤَسَائِهِمْ حَسَبَ بُيُوتِ آبَائِهِمِ. اثْنَتَيْ عَشَرَةَ عَصًا. وَاسْمُ كُلِّ وَاحِدٍ تَكْتُبُهُ عَلَى عَصَاهُ. 3 وَاسْمُ هَارُونَ تَكْتُبُهُ عَلَى عَصَا لاَوِي، لأَنَّ لِرَأْسِ بَيْتِ آبَائِهِمْ عَصًا وَاحِدَةً. 4 وَضَعْهَا فِي خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ أَمَامَ الشَّهَادَةِ حَيْثُ أَجْتَمِعُ بِكُمْ. 5 فَالرَّجُلُ الَّذِي أَخْتَارُهُ تُفْرِخُ عَصَاهُ، فَأُسَكِّنُ عَنِّي تَذَمُّرَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي يَتَذَمَّرُونَهَا عَلَيْكُمَا». 6 فَكَلَّمَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَعْطَاهُ جَمِيعُ رُؤَسَائِهِمْ عَصًا عَصًا لِكُلِّ رَئِيسٍ حَسَبَ بُيُوتِ آبَائِهِمِ. اثْنَتَيْ عَشَرَةَ عَصًا. وَعَصَا هَارُونَ بَيْنَ عِصِيِّهِمْ. 7 فَوَضَعَ مُوسَى الْعِصِيَّ أَمَامَ الرَّبِّ فِي خَيْمَةِ الشَّهَادَةِ. 8 وَفِي الْغَدِ دَخَلَ مُوسَى إِلَى خَيْمَةِ الشَّهَادَةِ، وَإِذَا عَصَا هَارُونَ لِبَيْتِ لاَوِي قَدْ أَفْرَخَتْ. أَخْرَجَتْ فُرُوخًا وَأَزْهَرَتْ زَهْرًا وَأَنْضَجَتْ لَوْزًا. 9 فَأَخْرَجَ مُوسَى جَمِيعَ الْعِصِيِّ مِنْ أَمَامِ الرَّبِّ إِلَى جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَظَرُوا وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ عَصَاهُ. 10 وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «رُدَّ عَصَا هَارُونَ إِلَى أَمَامِ الشَّهَادَةِ لأَجْلِ الْحِفْظِ، عَلاَمَةً لِبَنِي التَّمَرُّدِ، فَتَكُفَّ تَذَمُّرَاتُهُمْ عَنِّي لِكَيْ لاَ يَمُوتُوا». 11 فَفَعَلَ مُوسَى كَمَا أَمَرَهُ الرَّبُّ. كَذلِكَ فَعَلَ. 12 فَكَلَّمَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُوسَى قَائِلِينَ: «إِنَّنَا فَنِينَا وَهَلَكْنَا. قَدْ هَلَكْنَا جَمِيعًا. 13 كُلُّ مَنِ اقْتَرَبَ إِلَى مَسْكَنِ الرَّبِّ يَمُوتُ. أَمَا فَنِيْنَا تَمَامًا؟».))
ما الذي حدث؟ تم وضع عصا هارون في خيمة الاجتماع، و تبرعمت العصا و خرج منها ما خرج و من بينها اللوز، و أن العصا وضعت في خيمة الاجتماع حفظا لبني إسرائيل من الموت، ألا يذكركم هذا بخلوة مريم عليها السلام في المحراب و الرزق الذي كان يجده زكريا عندها و أجابته قائلة: ((قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب)) و أليس مريم هي أم المسيح، الذي جاء كرسول لبني إسرائيل ليذكّرهم بعبادة الله و يعظهم كي لا يكفروا فيهلكوا؟
فإن قلت إن هذا لا يكفي سأقول لك إن هناك أمرا آخر فإني لم أنتهي بعد، و هذا الأمر هو أنه معروف لدى النصارى منذ بداية الأناجيل أنهم يستخدمون التيبولوجيا في كلامهم و التيبولوجيا ربط الشخصيات المعاصرة (لهم) للتسهيل لنقل شخصيات العهد الجديد بالتوراة و الكتب التي تسبق كتب العهد الجديد أو الأناجيل و ذلك لتواجد نمط أو سمات أو معطيات مشتركة لتحديد الأنماط و النماذج. باختصار هو ربط شخصية من التوراة أو حدث من التوراة مع شخصية من العهد الجديد أو حدث بسبب وجود أمر مشترك أو نمط.
طبعا النصارى اليوم يفعلون ذلك لكي يجعلوا كل ما في التوراة أو العهد القديم عبارة عن أمور و رموز لدعم فكرتهم عن المسيح و دعم معتقداتهم في المسيح. فعلى سبيل المثال، كثيرون هم الذين يلقبون المسيح عند النصارى بحمل الله و يقصدون به الذبح العظيم الذي فدى الله به ابن إبراهيم في حادثة الذبح. ((وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)) فيقولون و تعالى الله عن ذلك أن عيسى هو الذبح العظيم الذي فدى الله به البشرية، و يعنون بذلك أن المسيح صلب لرفع ذنوب و تعالى الله عن ذلك علوا عظيما، المقصد من كلامي أن النصارى حتى في الأناجيل الأربعة يستخدمون التيبولوجيا و هذا معروف عند أي عالم عندهم. بل حتى هذا استخدمه المسلمون من قبل و تجد ذلك جليا في بعض مواعظ ابن الجوزي رحمه الله و قلّده من بعده أيضا عائض القرني في بعض كتاباته ونجد مثل هذا في بعض الروايات و في عناوينها.
من عادة أهل الخليج إن وجدوا إنسانا يُدعى عمران نادوه “أبو مريم” ويكنون عبدالعزيز “أبو سعود” و هكذا و إن لم يكن هناك تشابه غير الإسم، فما بالك بالأمور المشتركة بين هارون و مريم، فاسمها موافق لاسم أخت موسى و هارون، و عملها مثل عمل هارون، و وجودها في المحراب كوجود هارون في المحراب و الكثير مما ذكرت سابقا. و لما كان من شروط الكاهن أن لا يكون ابن زنى عرفت كيف افتتن الناس عندما رأوا مريم حاملة ابنها المسيح بما وقع في نفوسهم من البهتان العظيم.
فإن كان هذا صحيحا فهنا نفهم تماما لِمَ قالوا عن مريم (يا أخت هارون) و بين مريم و هارون نمط و تشابه عظيم في جوانب كثيرة كما ذكرت. فما ظنّته النصارى في القرآن أنه خطأ و شبهة، يبين عظمة القرآن إذ و كأن الآية تثبت أن منزل القرآن يعرف بأي منطق كان يتكلمون أيامها.
فإن كان كذلك نفهم تماما لم لم يعوّل عليها النصرى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم بل لِمَ لم يستعملها اليهود ضد الرسول صلى الله عليه و سلم و هم يعرفون من هو هارون و يعرفون من هي مريم (إذ قالوا عليها بهتانا عظيما كما هو معروف لدينا في القرآن) فكانت هذه الآية إن كانت حقا شبهة لم يتركوها تمر مرور الكرام. فإن قلت بأنهم قد فعلوا ذلك و الدليل حديث المغيرة، كما قلت لك حديث المغيرة فيها إشكاليات كثيرة و أكبر دليل أن فيها إشكاليات من ناحية السند اختلاف المفسرين في المقصود بهارون، فإنهم لو كان عندهم دليل من حديث صحيح عن الرسول صلى الله عليه و سلم ما اختلفوا كل هذا الاختلاف العظيم. و إن كان هناك حقا شبهة كالتي صوّرتها رواية المغيرة لوجدنا روايات كثيرة عن هذه المسألة و كون مريم أخت هارون.
و من يتتبع القرآن يعرف أن الله سبحانه و تعالى يعلم ما هو مكتوب عندهم و ما قاموا بتغير معاني كلامه في الكتب السابقة و يعلم ما كان متعارفا بينهم و ما كانوا يقولون و لكن بالرغم من ذلك أخبرنا ما قالوا (يا أخت هارون)، فإن القرآن يخبرنا بكل عزة و قوة. و هنا أحب أن أسجّل ملاحظة و هو أن الله يخبرنا أنهم قالوا و ليس الله هو الذي قال عن مريم يا أخت هارون، و لو أنك تتبعت آيات القرآن التي فيها ذكر مريم من دون خطاب الناس لها لوجدتها (و ابنة عمران) أو (يا مريم) و لكن عندما تكلّم الناس قالوا ذلك عنها.
و بما أن المفسرين كانوا مختلفين إلى هذه الدرجة فلعلهم غفلوا عن موضوع التيبولوجيا النصراني و كون هارون الكاهن الكبير (بالمعنى التوراتي) فلهذا صعب عليهم فهم (يا أخت هارون) لكن من يقرأ التوراة و هو يبحث الحقيقة فإنه سيجده بإذن الله و كيف لا و قد قال الله عن التوراة: ((إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ)) ومن يقرأ التاريخ النصراني و بالأخص السرياني منه لعلم أن مثل هذا كان شائعا عندهم.
و بهذا الفهم إن عدنا إلى حديث المغيرة الذي في صحيح مسلم و الذي فيه: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ) فإن قلت بأن الحديث صحيح سندا تنزلا مع غير المحققين من أهل الحديث، فأظن أن المعنى من الحديث ما ذكرت آنفا، أنهم يسمون بأنبيائهم و الصالحين قبلهم ليس بمعنى أن مريم كان لها أخ عاصرته أو شيء من هذا القبيل، لكن بسبب التشابه و النمط و التيبولوجيا يفعلون ذلك و هذا صحيح، و دقق في كلمة (قبلهم) و هذا الذي يحدث في التيبولوجيا فإنهم لا يستخدمونها للمعاصرين بل لمن كانوا قبلهم، فبهذا نفهم لِماذا لمَمْ يُدخلوا زكريا في مناداتهم بالرغم من أنه كفّلها و هو من الأنبياء و الصالحين.
و بهذا أكون قد عرضت حلا للاشكالية التي امتدت لأكثر من ألف سنة و أسأل الله أن أكون محقا فيها. و حري بي الآن أن أعود إلى مسألة يعقوب و إسرائيل. و قد ذكرت سابقا بعض الأدلة على أن يعقوب هو إسرائيل، و ليس في القرآن آية تقول (إسرائيل يعقوب) كالذي نجد (اسمه المسيح عيسى بن مريم) و لكن هناك دلالات أخرى ذكرتها.
No comments:
Post a Comment