هذا مقال من الكتاب للرد على من قال أن إسرائيل هو عمران.
دعنا ننظر ما هي النتيجة إن اعتمدنا القرآن و التوراة و الروايات المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه و سلم و كيف ستتغير النظرة، أعني نظرة أن يعقوب هو ليس إسرائيل و إسرائيل هو نفسه عمران.
أولا كون إسرائيل هو يعقوب عليه السلام عند علماء أهل التاريخ من أهل الكتاب الذين نقل لنا أقوالهم فإنه ليس هناك مجال للشك أنهما نفس الشخص، و أما في التوراة فليس هناك خلاف أبدا أن يعقوب هو إسرائيل و معروف عند أهل الكتاب عامة من اليهود و النصارى من غير مخالف أن إسرائيل هو يعقوب، لم أجد في أبحاثي مخالفا واحدا لهذا و أقصد بذلك في كتبهم المقدسة و في كتب التفاسير المعتبرة لديهم، كلهم متفقون على أن يعقوب هو إسرائيل.
ليس هذا فحسب بل إن جُعل اسم يعقوب إسرائيل مرّتان في التوراة و ليس مرّة واحدة مما لا يعطي مجالا للشك أن يعقوب هو إسرائيل في التوراة فهذه واحدة. المرة الأولى في سفر التكوين الإصحاح الثاني و الثلاثون: ((24 فَبَقِيَ يَعْقُوبُ وَحْدَهُ، وَصَارَعَهُ إِنْسَانٌ حَتَّى طُلُوعِ الْفَجْرِ. 25 وَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، ضَرَبَ حُقَّ فَخْذِهِ، فَانْخَلَعَ حُقُّ فَخْذِ يَعْقُوبَ فِي مُصَارَعَتِهِ مَعَهُ. 26 وَقَالَ: «أَطْلِقْنِي، لأَنَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ». فَقَالَ: «لاَ أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي». 27 فَقَالَ لَهُ: «مَا اسْمُكَ؟» فَقَالَ: «يَعْقُوبُ». 28 فَقَالَ: «لاَ يُدْعَى اسْمُكَ فِي مَا بَعْدُ يَعْقُوبَ بَلْ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّكَ جَاهَدْتَ مَعَ اللهِ وَالنَّاسِ وَقَدَرْتَ».)). و المرة الثانية في سفر التكوين الإصحاح الخامس و الثلاثون: ((10 وَقَالَ لَهُ اللهُ: «اسْمُكَ يَعْقُوبُ. لاَ يُدْعَى اسْمُكَ فِيمَا بَعْدُ يَعْقُوبَ، بَلْ يَكُونُ اسْمُكَ إِسْرَائِيلَ». فَدَعَا اسْمَهُ «إِسْرَائِيلَ». 11 وَقَالَ لَهُ اللهُ: «أَنَا اللهُ الْقَدِيرُ. أَثْمِرْ وَاكْثُرْ. أُمَّةٌ وَجَمَاعَةُ أُمَمٍ تَكُونُ مِنْكَ، وَمُلُوكٌ سَيَخْرُجُونَ مِنْ صُلْبِكَ.)).
أما التاريخ الإسلامي و الروايات المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه و سلم فليس هناك مُخالف أن يعقوب هو إسرائيل بل هناك اتفاق عام على أن يعقوب هو إسرائيل. فصار عندنا أن المؤرخين يقولون أن يعقوب هو إسرائيل، اليهود يقولون ذلك، النصارى يقولون ذلك، المسلمون كانوا يقولون ذلك فإذن كون يعقوب هو إسرائيل كان أمرا معروفا لدى الناس. المحصّل لدينا أن اليهود و النصارى و المسلمين عندهم اجماع أن إسرائيل هو يعقوب و أقصد بالمسلمين السلف و لا أقصد المعاصرين اليوم فإن اليوم هناك من يقول أن إسرائيل ليس هو يعقوب كما كنت أقول أيضا.
هنا يَرِد السؤال، إن كان يعقوب هو نفسه إسرائيل، فلماذا نجد مرة في القرآن إسرائيل و مرة يعقوب؟ هل يريد الله أن يضلنا أو يصعّب علينا أم ماذا؟ أولا الله هو العزيز الحكيم، يفعل ما يشاء، ((لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)) الأمر الآخر عندما تجد اسما آخر لنفس الشخص لابد أن هناك حكمة غابت عنا، بل حتى لو نفس الإسم و كان هناك اختلاف في الرسم فلابد أن هناك أمرا ما و ذلك ما وضحته في الفصل الذي ذكرت فيه “إبراهم و إبراهيم”. فلابد أن هناك حكمة في تسمية يعقوب مرة بيعقوب و مرة إسرائيل و إن كان الاختلاف في الإسم اختلافا عظيما.
كما أننا نجد أحيانا عيسى و في أحيان أخرى المسيح. كما نجد أحيانا إلياس و في آية أخرى إل ياسين و محمد و أحمد. و لكن لقائل أن يقول إن المسيح بينه الله أن عيسى و ذلك في قوله: ((إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)) و إلياس و إل ياسين الإسم قريب جدا فلا اشكالية و كذلك أحمد و محمد فالمعنى و الإسم قريب، لكن أين اسم يعقوب من اسم إسرائيل؟ الفرق كبير جدا و هذا قول في الحقيقة قوي و لابد من أن نلتفت إليه و لا أزعم أني وجدت الإجابة و الحكمة فالله أعلم.
لكن الغريب أن يعقوب بالذات تجد اسمه أحيانا يعقوب و أحيانا إسرائيل في التوراة مع أن في التوراة أن يعقوب هو إسرائيل صراحة في عدة مواضع، لكن بالرغم من ذلك فإنك تجد نصوصا فيها ذكر اسم يعقوب و أخرى فيها ذكره أي يعقوب باسم إسرائيل و هذا لا تجده مع أي نبي آخر في التوراة فقلت في نفسي لابد أن هناك سرا لم نكتشفه بعد.
يجدر بي أن أذكر أن بعض حاخامات و أحبار اليهود تعرضوا لهذه المسألة و انتبهوا إليها و لم يتركوها من دون تحليل، عن نفسي أفضل ما قرأت كان ملاحظة أحد مفسري التوراة و هو الرابي سامسون رافائيل هيرش إذ قال بما في معناه أنه كلما تجد اسم يعقوب في التوراة فإنه يكون في وضع دنيوي، بمعنى أنه إما حزين، أو خائف، حالة ضعف أو اعتماد على الآخرين بمعنى مختصر في حالة هبوط، و أينما تجد إسرائيل كاسم ليعقوب فيكون في وضع قيادي و مستقل، أب يُنظر إليه بنظرة احترام و تكبير و فوق الحالات الدنيوية.
وجدت رأي الرجل مثيرا فحاولت أن أطبّق كلامه على جلّ النصوص التي فيها ذكر إسرائيل و يكون المقصود فيه يعقوب فوجدت أنه نوعا ما صحيح، ثم حاولت أن أطبّق ذلك في القرآن فوجدت أنه لا يبعد أن يكون محتملا. فمثلا في سورة يوسف جاء اسم يعقوب و ليس إسرائيل للنظرة الدونية التي كانت لأبنائه تجاهه: ((إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)) و قولهم أيضا: ((قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)) و قولهم أيضا: ((قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ)) لكن عندما نجد ذكر بني إسرائيل في القرآن فكل القوم يُنسبون إليه، و عندما يكون القوم كله يُنسبون إليه فتكون نظرة علوية له، و كذلك في قوله: ((كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ۗ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)) و الإنسان عندما يحرّم على نفسه شيء من العلو والله أعلم. و لقائل أن يقول أن اسم يعقوب هو الإسم الدنيوي و الذي يخص الأمور الدنيوية في حين أن إسم إسرائيل يخص الأمور الروحية و المعنوية.
فإن قلت ما سبب أننا لم نجد اسم إسرائيل في الآيات التي فيها ذكر الأنبياء، يعني مثلا في سورة الأنعام أو سورة مريم أو سورة الأنبياء لأن فيها سرد لأخبار الأنبياء، فلماذا لا نجد اسمه بينهم و لكننا نجد يعقوب؟ ألا يدل هذا على أن إسرائيل ليس بيعقوب و ليس بنبي، أقول هذا الكلام ليس بالضرورة أن يكون صحيحا و ذلك لسبب يسير. هل وجدت في الآيات نفسها التي فيها ذكر الأنبياء اسم المسيح؟ لن تجد ذلك! بل ستجد عيسى من دون المسيح، فهل ستقول أن المسيح غير عيسى؟ بالتأكيد لا
لكنك قد تقول: يا أخي إن الله قد بيّن لنا في كتابه أن المسيح هو عيسى بن مريم بدليل قوله: ((إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)) إذن الآية تثبت أن المسيح هو عيسى بن مريم، أما عن سبب ذكره باسمه عيسى بدلا من المسيح في جميع الآيات التي فيها ذكر الأنبياء لابد أن هناك سببا، و لكن الآية المذكورة تنهي الخلاف فلا تقارن إسرائيل بالمسيح. حسن، لا بأس، كلامك مقبول، لكن ما تقول في أحمد و محمد؟ أليس المقصود بأحمد في آية بشارة عيسى هو نفسه محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم؟ فإن قلت نعم هو فإذن سأقول لك لِمَ لا نجد في آية واحدة فيها كلام من الله أن محمد اسمه أحمد كما نجد في اسم المسيح عيسى بن مريم؟
فإن فهمت هذا الذي ذكرته، فهمتَ أن النمط الذي ظَنَنْتَهُ أنه هو الحاكم و الغير مُتغيّر ليس بصحيح، و بعد هذا الذي قلت يمكن لإنسان أن يقول إن ذكر إسرائيل بعد إبراهيم في سورة مريم: ((أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)) إشارة إلى أن إسرائيل نبي أيضا والله أعلم.
و دعونا ننظر إلى المسألة الأخرى، إن كان يعقوب هو إسرائيل و هو نفسه عمران فما هي الإشكاليات التي ستواجهنا؟
الإشكالية الأولى و الأكبر هو الفارق الزمني بين يعقوب و مريم أم المسيح. فإن كتب التاريخ و الروايات الإسلامية و غير الإسلامية تثبت أن هناك فارقا زمنا كبيرا بين يعقوب و زمن المسيح، فكيف يعيش إنسان كل هذه المدة من دون الإشارة إلى أن عمره كان طويلا؟ فإن قيل إن نوحا دعا قومه ٩٥٠ سنة نقول لهم إن القرآن أخبرنا هذا صراحة و قال كم لبث في قومه لكننا لم نجد أي شيء من هذا القبيل ليعقوب و إسرائيل أو عمران. فإن كان يعقوب مُعمّرا و عاش أكثر من نوح فلم لا نجد في أي مصدر من المصادر ما يشير إلى هذا الأمر؟ بل كل المصادر توحي بخلاف ذلك: فنجد مثلا في سورة يوسف: ((قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)) فكان شيخا كبيرا زمن يوسف، فما بالك بعدها بزمن موسى ثم من بعده ثم زمن داوود و سليمان و غيرهم من الأنبياء حتى زمن المسيح، كل هذه المدة التي عاشها و ليس هناك ذكر له على أنه عاش طويلا أو من يذكره لا في كتب المسلمين و غير المسلمين؟
و قول أن اسمه عمران يدل على طول عمره نقول له ما الدليل على أن مجرد اسمه يصلح أن يكون دليلا أنه يعيش آلاف السنين؟ إن مثل هذا بحاجة إلى وحي و لا يصلح أن نعتمد على أمر كهذا بمجرد الرأي و الظنّ. فإن قالوا إن معنى اسم يعقوب الذي يعقب بنيه و يتأخر موته عنهم، نقول لهم ما تقولون في هذه الآية: ((أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) فإنه من ظاهر الآية يدل أنه لم يعقب بنيه أو عاش بعدهم، و ما بال بنيه إن كان هو أبو موسى و سليمان و داوود ما ذكروا ذلك نعبد إله آبائك إبراهيم و إسماعيل و إسحق، و هل هناك شرف يقارب كون موسى ابنه الذي أنزل عليه التوراة و الفرقان فلم هذا الشرف العظيم لا يكاد أحد يعرفه؟
فكّر فيها، كونه كان أبو يوسف و اخوته، و أبو موسى و هارون و أبو مريم و صار جدا للمسيح، هذا الشرف العظيم ما بال الناس لم يُحَدّثوا عنه و يذكروا خبر إنسان عاش هذه الأجيال و كان أبو يوسف و موسى هارون و عيسى؟ و خاصة أن الأمم تحب أن تتناقل الغرائب و تذكر القصص العجيبة، هل غفلوا عن يعقوب الذي عاش كل هذه السنين؟ بل لا نجد أنه عمّر لا حتى في الإسرائيليات و لا في الأحاديث الموضوعة و لا الأساطير لكي يُقال لابد أن تلك الأمور كانت مبنية على حدث حقيقي، فكون عدم وجود دليل على أنه عاش آلاف السنين ثم نقول إنه عاش كل هذا لأن اسمه يعقوب نقول لهم، هذا لا يصلح كدليل، لأن أمرا عظيما كهذا الأمر لا يُعرف و يُؤخذ من معاني الأسماء هكذا.
ثم أيضا من قال أن اسم أبو موسى و هارون هو عمران؟ من أين لكم بهذا؟ فإن قالوا إن المؤرخين يقولون ذلك، فأقول لهم لِمَ تأخذون كلام المؤرخين تارة و تتجاهلون أقوالهم تارة أخرى؟ ألم تتجاهلوا ما في التوراة من أن إسرائيل هو يعقوب؟ فإن قيل نجد في الروايات المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه و سلم أن اسم موسى هو موسى بن عمران، اختصارا أقول أن الروايات التي يقصدونها لا تصح سندا. لا يوجد حديث واحد صحيح فيه موسى بن عمران. فمن أين أتى الناس أن اسم أبو موسى هو عمران؟ في الحقيقة ليس عندهم دليل إلا استنادا على تاريخ اليهود و أهل الكتاب. و في تاريخهم أن أبو موسى اسمه عمرام و ليس عمران، بل حتى في التوراة اسم أبو موسى هو عمرام بالميم و ليس بالنون. فخلط المؤرخين المسلمين وارد بالحرف و احتمال أن الاسم يتغير عند الكتابة العربية أيضا وارد.
و من قال أن عِمران من العمارة و العُمران بضم العين؟ كل الكلمات التي تدل على العمر تأتي بضم العين و لم تأت مرة واحدة بكسر العين، فكيف صار عِمران من العُمران؟ و من قال أن يعقوب بمعنى الذي يعقب و يخلف بنيه؟ لم لا يكون الذي يعقب إسحاق؟ (و من وراء إسحاق يعقوب) ليس هناك دليل لغوي قوي حقيقي يمكن الاعتماد عليه، فمن قال أن عِمران بكسر الميم من العمارة و العمران فعليه أن يأتي بالدليل من القرآن ثم من اللغة و لن يجد ذلك.
فإن قيل أن عائشة كانت تقول أن هارون أخت مريم هو نفسه أخو موسى بدليل رواية ابن جرير: حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، عن سعيد بن أبي صدقة ، عن محمد بن سيرين قال نبئت أن كعبا قال : إن قوله : ( يا أخت هارون ) : ليس بهارون أخي موسى . قال: فقالت له عائشة: كذبت ، قال: يا أم المؤمنين ، إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله ، فهو أعلم وأخبر ، وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة . قال : فسكتت) الرواية فيها عدة اشكاليات سندا و متنا. لكن تنزّلا نقول أن الرواية صحيحة، فَلِمَ سكتت في نهاية الأمر؟ كلنا يعلم من هي أم المؤمنين عائشة بنت الصديق، زوجة الرسول الكريم، كيف تسكت على باطل إن كان باطلا؟ و إن لم يكن للتاريخ أي دلالة فما بالها سكتت بعد أن ذكر لها كعب الفارق الزمني، ألا يدل أنها تعطي التاريخ اعتبارا؟ فإن كانت تعطي التاريخ اعتبارا فمن باب أولى أن تعطي التاريخ الذي يتفق عليه المسلمون و غير المسلمون اعتبارا أقوى، و عندي أن الاعتبار الأقوى من التاريخ هو التوراة. و التاريخ الإسلامي و غير الإسلامي و التوراة تثبت أن يعقوب ليس هو أبو مريم أم المسيح فحتى أولئك الذين يرون أن هذه الرواية صحيحة فإنها لا تدعهم بل بالعكس تثبت خلاف ما يقولون من أن عمران هو يعقوب هو نفسه أبو يوسف و موسى و هارون و مريم أم المسيح.
و في حديث المغيرة الذي نقلته سابقا، هل يعقل أن الرسول صلى الله عليه و سلم غفل عن هذه النقطة؟ ألم يكن من الممكن أن يقول للمغيرة أما قلت لهم أن يعقوب كان معمّرا بدلا من أن يقول: ((إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ))؟ و إن قلنا إن الحديث ضعيف و أراد الناس ردّ الشبهة ألم يكن في بال أحد منهم أن يعقوب عاش طويلا و كان أبو يوسف و موسى و هارون و مريم أم المسيح؟ هذا يعني أن الذي ألّف الحديث على فرض أنه تأليف لم يسمع أي شيء بهذا و إلا فإنه كان سيأتي به مباشرة على ضوء تحاور العلماء من شتى الأديان حول المسائل الدينية زمن تدوين السنة النبوية. عن نفسي في قلبي شيء تجاه هذا الحديث لكن ليس هذا موضع ذكره لكن يكفي أن القرآن أخبرنا أنهم قالوا: (يا أخت هارون) فإن كانت المسألة تسمية بالصالحين عندهم فإن موسى عند أهل الكتاب و المسلمين بالاجماع أفضل من هارون، و عندهم إبراهيم و إسحاق و يعقوب فكون القرآن سجّل مقولتهم (يا أخت هارون) فلابد أن هناك أمرا آخر غير ما ذهب إليه الرواة أو المفسرون و سأحاول التفصيل في هذا في فصل: “يا أخت هارون”.
و في الحديث الذي أخرجه البخاري و مسلم (سُئِلَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَن أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قالَ: أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ قالوا: ليسَ عن هذا نَسْأَلُكَ، قالَ: فأكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ، ابنُ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ قالوا: ليسَ عن هذا نَسْأَلُكَ، قالَ: فَعَنْ معادِنِ العَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ النَّاسُ معادِنُ، خِيَارُهُمْ في الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإسْلَامِ، إذَا فَقُهُوا) فإن كان يعقوب هو أبو موسى كذلك ألم يكن موسى أكرم من يوسف، أليس هو ابن نبي الله يعقوب، ابن نبي الله إسحق ابن نبي الله إبراهيم؟ بل كلّمه الله تكليما و أوحى إلى أمه ما يوحى و وهب له أخاه هارون نبيا و آتاه الألواح و التوراة و الفرقان؟ و في سورة الدخان نجد: ((وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ))، فهذا الحديث و أمثاله يدل على أن أبو موسى ليس هو أبو يوسف عليهم السلام جميعا.
على كل إن رجعنا إلى التوراة لعلمنا أن أبو موسى مات و هو عمره ١٣٧ و أما يعقوب عليه السلام مات و هو عمره ١٤٧. بل إن أبو موسى مذكور من هو أبوه و جده فنجد في التوراة أن اسم أبوه هو قهات و اسم جده لاوي في حين أن أبو يعقوب هو إسحق و جدّه إبراهيم عليهم السلام. و كثيرا ما كنت أسأل نفسي و غيري لِمَ نجد في التوراة ذكر هذه التفاصيل التي قد تبدو أنها لا تقدّم و لا تؤخر؟ اليوم أقول لو لم يكن منها فائدة إلا أن نعرف الفارق بين أبو موسى و يعقوب لكفى.
عندما تقرأ التوراة تجد فيه ذكرا للأنساب، فإن كان يعقوب و عمران نفس النسب ما سبب التحريف والاغفال؟ فإن قلنا أن اليهود حرّفوا فمن صالحهم أن يقولوا أن إسرائيل يعقوب عاش طويلا و كان أبو يوسف و موسى و هارون فَلِمَ لم يفعلوا ذلك؟ هذا يدل أن هذه الجزئية في الأنساب ليست محرّفة و إن كانت غير محرّفة كانت كافية لترد فرضية أن يعقوب هو نفسه أبو يوسف و هو نفسه أبو مريم و ذلك لأن في التوراة حتى على التفكير الإسلامي التقليدي أنّها محرّفة لا يقولون بتحريفها كلها، يقولون فيها تحريف و فيها حق، فإن ثبت أن جزئية غير محرّفة إذن هي حق، يعني حتى لو أخذنا بفرضياتهم التي يكررونها في كثير من المحافل لا يجدون مخرجا من هذا الذي ذكرت.
و لو قلنا يعقوب عليه السلام قد عمّر طويلا إلى أن عاش زمن مريم أم المسيح فأين هو؟ هل انتهى دوره كونه نبي من الصالحين و صار فقط يتزوج أم ماذا؟ نجد في سورة غافر: ((وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ)) أين ذهب يعقوب أو عمران، و ما باله ليس له مشورة عند موسى و هارون و داوود و سليمان؟ كل تلك المدة ليس له ذكر في أي أمر! أيُعقل هذا و هو نبي من الصالحين و خاصة أن له خبرة طويلة إذ عاش زمن إبراهيم حتى زمن أم المسيح؟ تخيّل تقول أن إبراهيم عاش من زمنه حتى زمن المسيح ثم لا يكون له ذكر و لا أي دور؟ سبحان الله. إنه من المتعارف لدى الناس أن يوسف عاش في مصر و كذلك أبويه و بما أنه عاش حتى زمن أم مريم فأين هو عندما كان فرعون يسوم بني إسرائيل سوء العذاب؟ ألم يبعث لهم بنصيحة و تذكرة واحدة؟ لا تنسى أنه كان نبيا و كان أبو يوسف و ليوسف المكانة التي كانت له في مصر؟
ثم هناك أمر آخر، نجد أن الله يمتن على إبراهيم أن وهب له اسحق و يعقوب نبيا، ماذا عن يعقوب إذن؟ إن كان هو أبو يوسف النبي و أبو موسى النبي و أبو هارون النبي و أبو مريم أم المسيح كلمة الله؟ لماذا لا نجد في القرآن آية على هذا الامتنان العظيم؟ و أيضا نجد في القرآن أن يعقوب حزن حزنا شديدا لفراق ابنه يوسف و كيف فقد بصره و ماذا عن أبنائه موسى و هارون و غيرهما الذي عاش بعدهما و كثير من الذين ماتوا في حياته الطويلة التي عاشها؟ أسئلة لابد أن تطرح إن أخذنا بهذه الفرضية.
فإن قيل لِمَ قال في سورة مريم: ((أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)) و في سورة آل عمران قال: ((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)) لِمَ لا نجد عمران في آية سورة مريم و لا نجد إسرائيل في سورة آل عمران؟ للإجابة عن هذا السؤال أقول، في سورة آل عمران الحديث عن آل عمران و هم إمرأة عمران و مريم و عيسى. و قبل الآية المذكورة، أقصد آية الاصطفاء لم يأت ذكر أي نبي، فكأن هذه البداية لآل عمران، هذه واحدة.
الثانية، تأمل في آية سورة آل عمران قال: (آل إبراهيم) و هذا يشمل بنيه و بني يعقوب كذلك بدلالة الآل، و إن أردت أن تعرف من هم آل إبراهيم فاقرأ هذه الآية: ((أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ۗ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) أو اقرأ هذه الآية ((قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136))) آل إبراهيم يدخل فيه امرأته و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط. فإنه لما قال آل إبراهيم دخل فيه الذكور و الإناث و من ذكرت فلم يكن هناك داعٍ لذكر يعقوب أو إسرائيل.
أما الثالثة ففي آية سورة مريم: ((أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)) كثير من الباحثين يصل إلى إسم إسرائيل ثم يتوقف، لكن لو أنك تمعنت جيدا لوجدت بعدها (وممن هدينا و اجتبينا) مما يفتح الباب مفتوحا أن هناك غيرهم و أنه غير مقصور فقط على المذكورين.
و هذه الآية من سورة مريم تشبه إلى حد بعيد الآيات المذكورة في سورة الأنعام، اقرأها: (( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ ۖ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا ۚ وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ۖ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (87))) تأمل كلمتين (واجتبيناهم و هديناهم) و قارنها بالتي هي موجودة في سورة مريم و التي قلت أنها لا تفيد الحصر فقط، لأننا نجد في سورة الأنعام عيسى و نجد لوط الذي ليس من ذرية إبراهيم كما هو معروف و تأمل قوله: (و من آبائهم و ذريّاتهم و إخوانهم) فهذه كلها تشير أن الآية من سورة مريم يجب أن تقرأها كلها و لا تتوقف عند قوله (و من ذرية إبراهيم و إسرائيل) ثم تتوقف بل أكملها لتجد (و ممن هدينا و اجتبينا).
ثم إن الذي يقرأ القرآن يجد أن هناك أمرا مشتركا بين إسرائيل و يعقوب، و هو أن يعقوب جاء من بعد إبراهيم و عاش قبل أن ينزل الله التوراة، أي قبل وجود اليهودية و النصرانية. دعونا نتأمل الآيات التالية: ((أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ۗ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) فهنا يدل على أن الأنبياء المذكورين كانوا قبل اليهودية و النصرانية، و لنقرأ آية سورة آل عمران: ((كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ۗ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)) الذي يدل أيضا على أن إسرائيل كان في زمن قبل أن ينزل الله التوراة، و إلا فإن كانت التوراة قد نزلت لم يكن ليحرم على نفسه.
و أيضا في آية سورة مريم: ((أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)) السياق يدل على أنه هناك فارق زمني بمعنى آدم قبل الذين حملوا مع نوح، و الذين حملوا مع نوح قبل إبراهيم و إبراهيم قبل إسرائيل. إذن الآيتان التي فيها ذكر إسرائيل تدل على أنه كان قبل نزول التوراة و بعد إبراهيم.
فإن كان يعقوب هو عمران أبو مريم أم المسيح فلابد أنه يعرف التوراة جيدا، فهل يعني أنه بقي إسرائيل أو يعقوب محرما على نفسه حتى بعد نزول التوراة؟ و هل كان من يستشهدون بتحريم إسرائيل على نفسه الطعام غافلين أنه أبو موسى و عاصر نزول التوراة و بعده؟ كل هذا يدل أن هناك خللا إن قلنا أن يعقوب أو إسرائيل عمّرا طويلا إلى زمن أم المسيح.
ليس هذا فحسب بل حتى في هذه الآية ((قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)) فيها ما فيها من الأدلة التي تدل أن يعقوب ليس أبو موسى، فإن كان يعقوب أبو موسى و ينسب إليه بني إسرائيل كما هو معروف لدى الناس فلم لم يقل موسى لا أملك إلا نفسي و أخي و أبي مثلا، و ما بال بني إسرائيل الذين يُنسبون إلى يعقوب، ما بالهم لم يلتفتوا إليه بل لم يذكروا له سيرة طوال مسيرتهم مع موسى؟ و عندما ذهب موسى لميقات ربّه ألم يكن ليعقوب دور عندما قاموا بعبادة العجل؟ لا يكون ذلك إلا أن يكون يعقوب ليس له وجود في عالمهم يومها.
إن بحثنا في القرآن عن أخبار يعقوب عليه السلام، وجدنا الخبر في التوراة كذلك، فمثلا بشارة إبراهيم بإسحق و يعقوب نجدها في التوراة، و كذلك قصة يعقوب في سورة يوسف موجودة كذلك، بل حتى آخر حياته، أعني هذه الآية ((أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) هذه موجودة أيضا في التوراة، إذ قال يعقوب لبنيه و وصّاهم و بارك لهم، و هذه معروفة عند أهل الكتاب في لوحاتهم و متاحفهم يرسمون هذا الحدث من شهرته. و ليس في التوراة أو التاريخ حدث آخر جمع فيه يعقوب بنيه بعد موسى و هارون فتأمل.
من الأسباب التي جعلت الكثيرين يشككون في أن يعقوب هو إسرائيل، بعض النصوص المشهورة في التوراة، مثل هذا الذي نجده في سفر التكوين: “26 جَمِيعُ النُّفُوسِ لِيَعْقُوبَ الَّتِي أَتَتْ إِلَى مِصْرَ، الْخَارِجَةِ مِنْ صُلْبِهِ، مَا عَدَا نِسَاءَ بَنِي يَعْقُوبَ، جَمِيعُ النُّفُوسِ سِتٌّ وَسِتُّونَ نَفْسًا. 27 وَابْنَا يُوسُفَ اللَّذَانِ وُلِدَا لَهُ فِي مِصْرَ نَفْسَانِ. جَمِيعُ نُفُوسِ بَيْتِ يَعْقُوبَ الَّتِي جَاءَتْ إِلَى مِصْرَ سَبْعُونَ.” فقالوا يعقوب و بنيه لم يتجاوزوا السبعين في حين عند خروجهم من مصر تقول التوراة في سفر الخروج: “37 فَارْتَحَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ رَعَمْسِيسَ إِلَى سُكُّوتَ، نَحْوَ سِتِّ مِئَةِ أَلْفِ مَاشٍ مِنَ الرِّجَالِ عَدَا الأَوْلاَدِ. 38 وَصَعِدَ مَعَهُمْ لَفِيفٌ كَثِيرٌ أَيْضًا مَعَ غَنَمٍ وَبَقَرٍ، مَوَاشٍ وَافِرَةٍ جِدًّا.” فهل يمكن أن يتكاثروا من ٧٠ إلى ٦٠٠ ألف؟ أليست هذه معجزة؟ و هذا في الحقيقة مُشْكِل! لكن الذي يفهم لغة التوراة لن يواجه مشكلة، و ذلك لأنه يعرف أن الكلمة العبرية المستخدمة للألف و أعني هذه אֶ֧לֶף تستخدم للألف و تستخدم للعائلة و تستخدم للقائد أو الرئيس أو كما يُقال باللغة الإنجليزية Chief و يمكنك التأكد من ذلك في مراجعة سفر يوشع الإصحاح الثاني و العشرين و الذي فيه: “14 وَعَشْرَةَ رُؤَسَاءَ مَعَهُ، رَئِيسًا وَاحِدًا مِنْ كُلِّ بَيْتِ أَبٍ مِنْ جَمِيعِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ، كُلُّ وَاحِدٍ رَئِيسُ بَيْتِ آبَائِهِمْ فِي أُلُوفِ إِسْرَائِيلَ.” و للأسف و لأن الترجمة العربية سيئة للغاية، أحيلك إلى الترجمة الإنجليزية و التي هي أصح من العربية ستقرأ التالي:
“With him they sent ten of the chief men, one from each of the tribes of Israel, each the head of a family division among the Israelite clans.”
لهذا أقول للذي يعتمد على النسخة العربية المترجمة و كذلك كثير من الترجمات الإنجليزية للتوراة سيضيع معها و سيشكل عليه الكثير من النصوص، لكن لو كان خبيرا في اللغة العبرية الخاصة بالتوراة و عرف استعمالات الكلمة لم يجد صعوبة في فهم هذه النصوص، و أقول لهم ليس الأمر كما ظننتم من خطأ التوراة، و ليس الأمر أن بني إسرائيل تكاثروا كالأرانب على زعم بعض الكاتبين في هذا الموضوع، أقول لهم، لم تفهموا لغة التوراة.
قلت في فصل سابق أعني الفصل: “هل يعقوب هو إسرائيل؟” أن إسرائيل لم يذكر أبدا في سورة يوسف و هذا حق، و لكن على الأقل في هذه السورة نجد آل يعقوب للإشارة أنه سيكون لعقبه شأن: ((وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) لاحظ أتم على أبويك من قبل يعني أتم النعمة، مما يدل أن اتمام النعمة على آل يعقوب باقية بعد.
و في سورة يوسف هناك أمر نفهم منه أن بني يعقوب انتقلوا إلى مصر مما يفسّر سبب وجود بني إسرائيل في مصر تحت حكم فرعون، تعالوا نتأمل الآيات من سورة يوسف: ((اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ۖ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ۖ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)) ففي هذه الآيات نفهم أن صار هناك تنقّل على مستوى كبير، كانوا في البدو ثم في مصر، هنا نفهم وجود بني إسرائيل في مصر. ثم بعد ذلك عندما خرجوا من مصر و كانوا مع موسى كم أمة كانوا؟ اثنى عشر، بعدد أبناء يعقوب، تأمل هذه الآية من سورة الأعراف: ((وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ ۚ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)). و من اللطائف أن سورة يوسف فيها ١١١ آية و سورة الإسراء كذلك فيها ١١١ آية و التي كانت معروفة أيضا باسم سورة بني إسرائيل.
فكما ذكرت، في التوراة هناك صراحة أن يعقوب هو إسرائيل في كثير من المواضع يصعب على الحصر، فإن قلت إذن كيف تحل إشكال الآية التي في سورة مريم و التي فيها ذكر (أخت هارون)، أعني هذه الآية: ((يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا))؟ الحل الذي أقترحه ستجده في المقال القادم.
No comments:
Post a Comment