Monday, September 20, 2021

و ترى الجبال تحسبها جامدة


قال الله الذي لا إله إله هو، رب العالمين، الرحمن الرحيم، العزيز الحكيم: (وَتَرَى الجِبالَ تَحسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ ۚ صُنعَ اللَّـهِ الَّذي أَتقَنَ كُلَّ شَيءٍ ۚ إِنَّهُ خَبيرٌ بِما تَفعَلون) {النمل ٨٨}


اختلف أهل التفسير في معنى الآية و هل هذا في الدنيا أم آخر الزمان؟ أيًّا كان الأمر فقد استدلّ بعض المعاصرين بهذه الآية على كروية الأرض و دورانها حول محورها، واستدلالهم ليس في محلّه وغير صحيح، وذلك لأنّ الله هنا يتكلم عن الجبال، ولم يتكلم عن الأرض و ليس في الآية ذكر الأرض أساسا.


و حتى بعض الذين يؤمنون بالنموذج المسطّح للأرض انغلق عليهم فهم الآية و ارتبكوا إذ خُيّل إليهم أنهم في ورطة، إذ كيف تتحرك الجبال والأرض ثابتة؟ هل هذا يعني أنّ كلام المؤمنين بالنموذج الكروي للأرض هو الأصحّ؟ في الحقيقة هذه الرهبة هي أحد الأسباب التي جعلتنا نصل إلى ما نحن فيه، للأسف إن شعر الناس بالخوف تجاه مسألة ما ولم يجدوا تفسيرا مُقنعا يحلّ المسألة، تركوا ظاهر القرآن، وأخذوا بتفاسير بعيدة. كأنّ الإنسان يريد أن يفهم كلّ شيء بشرط ألا يكون جاهلا في شيء، فإن شعر بأنه يجهل المعنى فسيأخذ أيّ معنى آخر ليغطي به جهله! لكن ما يحدث أنهم عندما يأخذون المعنى، ولِنَقُل المعنى الخاطئ فإنهم يزيدون جهلا فوق جهلهم، كان الأولى بهم أن يقولوا: آمنا بكلام الله، وقد قال الله إنّ الجبال تمرّ مرّ السحاب، فهي تمرّ ولم نصِلْ بعد إلى فهم المعنى، وما جئت به من تفسير أيها الكروي ليس بمُقنع، و حتى يجيء اليوم الذي نكتشف فيه معنى الآية سنكتفي بأنّ الجبال تمرّ مرّ السحاب. لو فعل الناس مثل الذي ذكرت لكان في ذلك خير عظيم لكن هذا للأسف لا يحدث إلا قليلا، هذه الشجاعة بحاجة إلى إيمان قوي جدًّا بآيات الكتاب العزيز.


من خلال قراءتي أحسب أنّ أحسن ما قرأت من أقوال الناس في هذه الآية قولين، قول من محمد الأمين الشنقيطي صاحب  تفسير أضواء البيان و الثاني من قول الطاهر ابن عاشور صاحب تفسير التحرير والتنوير.


قال الشنقيطي عند تفسيره لهذه الآية: "قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أنّ من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، ويكون في الآية قرينة تدلّ على بطلان ذلك القول، وذكرنا في ترجمته أيضاً أنّ من أنواع البيان التي تضمنها الاستدلال على المعنى، بكونه هو الغالب في القرآن، لأنّ غلبته فيه، تدل على عدم خروجه من معنى الآية، ومثلنا لجميع ذلك أمثلة متعددة في هذا الكتاب المبارك، والأمران المذكوران من أنواع البيان قد اشتملت عليهما معاً آية النمل هذه.  وإيضاح ذلك: أنّ بعض الناس قد زعم أن قوله تعالى: (وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ) [النمل: ٨٨] يدلّ على أنّ الجبال الآن في دار الدنيا يحسبها رائيها جامدة: أي واقفة ساكنة غير متحركة، وهي تمرّ مرّ السحاب، ونحوه قول النابغة يصف جيشاً:


 بأرعن مثل الطود تحسب أنهم     وقوف لحاج والركاب تهملج

 

والنوعان المذكوران من أنواع البيان يبينان عدم صحّة هذا القول. أما الأول منهما: وهو وجود القرينة الدالة على عدم صحته فهو أنّ قوله تعالى: (وَتَرَى ٱلْجِبَالَ) معطوف على قوله: ففزع، وذلك المعطوف عليه مرتب بالفاء على قوله تعالى: (وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ) [النمل: ٨٧] الآية. أي ويوم ينفخ في الصور، فيفزع من في السماوات، وترى الجبال، فدلت هذه القرينة القرنية الواضحة على أنّ مرّ الجبال مرّ السحاب كائن يوم ينفخ في الصور لا الآن. أما الثاني: وهو كون هذا المعنى هو الغالب في القرآن فواضح، لأنّ جميع الآيات التي فيها حركه الجبال كلها في يوم القيامة، كقوله تعالى: (يَوْمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوْراً وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْراً) [الطور: ٩-١٠] وقوله تعالى: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً) [الكهف: ٤٧] وقوله تعالى: (وَسُيِّرَتِ ٱلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً) [النبأ: ٢٠] وقوله تعالى: (وَإِذَا ٱلْجِبَالُ سُيِّرَتْ) [التكوير: ٣] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل: ٨٨] جاء نحوه في آيات كثيرة كقوله تعالى: (فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ) [المومنون: ١٤] وقوله تعالى: (مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتِ) [الملك: ٣] وتسيير الجبال وإيجادها ونصبها قبل تسييرها كل ذلك صنع متقن. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ). انتهى كلام الشنقيطي.


أما القول الثاني فهو قول الطاهر ابن عاشور، قال في تفسيره: "الذي قاله جمهور المفسرين إنّ الآية حكت حادثاً يحصل يوم ينفخ في الصور فجعلوا قوله (وترى الجبال تحسبها جامدة) عطفاً على (ينفخ في الصور) {النمل ٨٧} أي ويوم ترى الجبال تحسبها جامدة إلخ.. وجعلوا الرؤية بصرية، ومرّ السحاب تشبيهاً لتنقلها بمرّ السحاب في السرعة، وجعلوا اختيار التشبيه بمرور السحاب مقصوداً منه إدماج تشبيه حال الجبال حين ذلك المرور بحال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها فيكون من معنى قوله: (وتكون الجبال كالعهن المنفوش) {القارعة ٥}، وجعلوا الخطاب في قوله (ترى) لغير معين ليعم كلّ من يرى، وجعلوا معنى هذه الآية في معنى قوله تعالى: (ويوم نسير الجبال) {الكهف ٤٧}. فلما أشكل أنّ هذه الأحوال تكون قبل يوم الحشر لأنّ الآيات التي ورد فيها ذكر دك الجبال ونسفها تشير إلى أنّ ذلك في انتهاء الدنيا عند القارعة وهي النفخة الأولى أو قبيلها، فأجابوا أنها تندك حينئذ ثم تسير يوم الحشر لقوله :(فقل ينسفها ربي نسفاً) {طه ١٠٥} إلى أن قال (يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له) {طه ١٠٨} لأنّ الداعي هو إسرافيل وفيه أنّ للاتباع أحوالاً كثيرة، وللداعي معان أيضاً. 


قال بعض المفسرين هذا مما يكون عند النفخة الأولى، كذلك جميع الآيات التي ذكر فيها نسف الجبال ودكها وبسها. وكأنهم لم يجعلوا عطف: (وترى الجبال) على (ينفخ في الصور) {النمل ٨٧} حتى يتسلط عليه عمل لفظ يوم بل يجعلوه من عطف الجملة على الجملة، والواو لا تقتضي ترتيب المعطوف بها مع المعطوف عليه، فهو عطف عبرة على عبرة وإن كانت المذكورة أولى حاصلة ثانياً. وجعل كلا الفريقين قوله (صنع الله) إلخ مراداً به تهويل قدرة الله تعالى وأنّ النفخ في الصور وتسيير الجبال من عجيب قدرته، فكأنهم تأولوا الصنع بمعنى مطلق الفعل من غير التزام ما في مادة صنع من معنى التركيب والإيجاد، فإنّ الإتقان إجادة، والهدم لا يحتاج إلى إتقان. وقال الماوردي قيل هذا مثل ضربه الله، أي وليس بخبر. وفيما ضرب فيه المثل ثلاثة أقوال أحدها أنه مثل للدنيا يظنّ الناظر إليها أنها ثابتة كالجبال، وهي آخذة بحظها من الزوال كالسحاب، قاله سهل بن عبد الله التستري. الثاني أنه مثل للإيمان تحسبه ثابتاً في القلب، وعمله صاعد إلى السماء. الثالث أنه مثل للنفس عند خروج الروح، والروح تسير إلى العرش. وكأنهم أرادوا بالتمثيل التشبيه والاستعارة. 


ولا يخفى على الناقد البصير بعد هذه التأويلات الثلاثة لأنه إن كان الجبال مشبهاً بها فهذه الحالة غير ثابتة لها حتى تكون هي وجه الشبه وإن كان لفظ الجبال مستعاراً لشيء وكان مر السحاب كذلك كان المستعار له غير مصرح به ولا ضمنياً. وليس في كلام المفسرين شفاء لبيان اختصاص هذه الآية بأن الرائي يحسب الجبال جامدة، ولا بيان وجه تشبيه سيرها بسير السحاب، ولا توجيه التذليل بقوله تعالى: (صنع الله الذي أتقن كل شيء) فلذلك كان لهذه الآية وضع دقيق، ومعنى بالتأمل خليق، فوضعها أنها وقعت موقع الجملة المعترضة بين المجمل وبيانه من قوله: (ففزع من في السماوات ومن في الأرض) {النمل ٨٧} إلى قوله: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون) {النمل ٨٩} بأن يكون من تخلل دليل على دقيق صنع الله تعالى في أثناء الإنذار والوعيد إدماجاً وجمعاً بين استدعاء للنظر، وبين الزواجر والنذر، كما صنع في جملة: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه) {النمل ٨٦} الآية. أو هي معطوفة على جملة: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه) {النمل ٨٦} الآية، وجملة :(ويوم ينفخ في الصور) {النمل ٨٧} معترضة بينهما لمناسبة ما في الجملة المعطوف عليها من الإيماء إلى تمثيل الحياة بعد الموت، لكن هذا استدعاء لأهل العلم والحكمة لتتوجه أنظارهم إلى ما في هذا الكون من دقائق الحكمة وبديع الصنعة. 


وهذا من العلم الذي أودع في القرآن ليكون معجزة من الجانب العلمي يدركها أهل العلم، كما كان معجزة للبلغاء من جانبه النظمي كما قدمناه في الجهة الثانية من المقدمة العاشرة. فإن الناس كانوا يحسبون أنّ الشمس تدور حول الأرض، فينشأ من دورانها نظام الليل والنهار، ويحسبون الأرض ساكنة. واهتدى بعض علماء اليونان إلى أنّ الأرض هي التي تدور حول الشمس في كلّ يوم وليلة دورة تتكون منها ظلمة نصف الكرة الأرضي تقريباً، وضياء النصف الآخر، وذلك ما يعبر عنه بالليل والنهار، لكنها كانت نظرية مرموقة بالنقد وإنما كان الدال عليها قاعدة أنّ الجرم الأصغر أولى بالتحرك حول الجرم الأكبر المرتبط بسيره وهي علة إقناعية، لأنّ الحركة مختلفة المدارات، فلا مانع من أن يكون المتحرك الأصغر حول الأكبر في رأي العين وضبط الحساب وما تحققت هذه النظرية إلا في القرن السابع عشر بواسطة الرياضي غاليلي الإيطالي. والقرآن يدمج في ضمن دلائله الجمّة وعقب دليل تكوين النور والظلمة دليلاً رمز إليه رمزاً، فلم يتناوله المفسّرون أو تسمع لهم ركزاً. وإنما ناط دلالة تحرك الأرض بتحرك الجبال منها، لأنّ الجبال هي الأجزاء الناتئة من الكرة الأرضية، فظهور تحرك ظلالها متناقصة قبل الزوال إلى منتهى نقصها، ثم آخذة في الزيادة بعد الزوال. ومشاهدة تحرك تلك الظلال تحركاً يحاكي دبيب النمل أشدّ وضوحاً للراصد، كذلك ظهور تحرك قممها أمام قرص الشمس في الصباح والماء أظهر مع كون الشمس ثابتة في مقرها بحسب أرصاد البروج والأنواء. لهذا الاعتبار غير أسلوب الاستدلال الذي في قوله تعالى: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه) {النمل ٨٦} فجعل هنا بطريق الخطاب: (وترى الجبال). والخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم تعليماً له لمعنى يدرك هو كنهه، لذلك خصّ الخطاب به، ولم يعمّم كما عمّم قوله: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه) {النمل ٨٦} في هذا الخطاب، وادخاراً لعلماء أمته الذين يأتون في وقت ظهور هذه الحقيقة الدقيقة. فالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم أطلعه الله على هذا السرّ العجيب في نظام الأرض كما أطلع إبراهيم عليه السلام على كيفية إحياء الموتى. خصّ الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بعلم ذلك في وقته وائتمنه على علمه بهذا السرّ العجيب في قرآنه، ولم يأمره بتبليغه إذ لا يتعلق بعلمه للناس مصلحة حينئذ حتى إذا كشف العلم عنه من نقابه وجد أهل القرآن ذلك حقًّا في كتابه، فاستلوا سيف الحجة به، وكان في قرابه. 


وهذا التأويل للآية هو الذي يساعد قوله: (وترى الجبال) المقتضي أنّ الرائي يراها في هيئة الساكنة، وقوله: (تحسبها جامدة) إذ هذا التأويل بمعنى الجامدة هو الذي يناسب حالة الجبال إذ لا تكون الجبال ذائبة. وقوله: (وهي تمرّ) الذي هو بمعنى السير: (مرّ السحاب) أي مرًّا واضحاً، لكنه لا يبين من أول وهلة. وقوله بعد ذلك كله :(صنع الله الذي أتقن كلّ شيء) المقتضي أنه اعتبار بحالة نظامها المألوف لا بحالة انخرام النظام، لأنّ خرم النظام لا يناسب وصفه بالصنع المتقن، لكنه يوصف بالأمر العظيم أو نحو ذلك من أحوال الآخرة التي لا تدخل تحت التصور. و(مرّ السحاب) مصدر مبين لنوع مرور الجبال، أي مروراً تنتقل به من جهة إلى جهة مع أنّ الرائي يخالها ثابتة في مكانها كما يخال ناظر السحاب الذي يعم الأفق أنه مستقرّ، وهو ينتقل من صوب إلى صوب، ويمطر من مكان إلى آخر، فلا يشعر به الناظر إلا وقد غاب عنه. وبهذا تعلم أنّ المر غير السير الذي في قوله تعالى: (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة) {الكهف ٤٧} فإنّ ذلك في وقت اختلال نظام العالم الأرضي. وانتصب قوله (صنع الله) على المصدرية مؤكداً لمضمون جملة (تمرّ مرّ السحاب) بتقدير صنع الله ذلك صنعاً. وهذا تمجيد لهذا النظام العجيب، إذ تتحرك الأجسام العظيمة مسافات شاسعة، والناس يحسبونها قارة ثابتة، وهي تتحرك بهم ولا يشعرون. والجامدة الساكنة، قاله ابن عباس. وفي "الكشاف" الجامدة من جمد في مكانه إذا لم يبرح، يعني أنه جمود مجازي، كثر استعمال هذا المجاز حتى ساوى الحقيقة والصنع. انتهى كلام ابن عاشور.


ما سبق محصّل أقوال الأولين، فإن سألتني عن رأيي، فعن نفسي فإني أرى أنّ مسألة مرور الجبال هي كما ذهب إليه الطاهر ابن عاشور و غيره من المفسّرين، أي أنّ مرور الجبال في الدنيا، وهذا لا يمنع من أن تكون الجبال مُسيرة في الآخرة. وسبب اختياري لذلك وضوح قوله سبحانه وتعالى بعدها: (صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) فهذا من صنعه في هذه الدنيا للاعتبار. أما في الآخرة عند حدوث الأهوال المذكورة في القرآن فقد انتهى زمن الاعتبار وانتهت المهلة، فإن الشمس تُكور، ويذهب ضوؤها، والبحار تُسجر، والنجوم تنكدر، أمور عظيمة تدلّ على تبدّل النظام، فقوله صنع الله يدلّ على دقة نظامه وخبرته عز و جل ببواطن الأمور، ولعلّه من أجل ذلك ختمها بقوله: (إنه خبير بما تفعلون). 


فإن قالوا: إنّ السياق يدلّ على أنّ مرور الجبال في يوم القيامة، الدليل الآية التي قبلها: (وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي ٱلسماوات وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ) أقول: هذا يبدو صحيحا للوهلة الأولى، لكن إن نظرنا نظرة فاحصة شمولية وجدنا أمرًا آخر. دعنا نعود إلى بضع آيات قبل هذه التي فيها ذِكر النفخة، سنجد التالي:


(وَإِذَا وَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ ٱلأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذَا جَآءُو قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا ٱلْلَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) )


كما تلاحظ تبدأ الآيات بأمور آخر الزمان ثمّ تنتهي أخيرا بقوله: (أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا ٱلْلَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وواضح من السياق أنّ الليل والنهار أمور دنيوية، والمقصود منها الآيات، لكن قبلها أمور لها علاقة بالآخرة. فلابدّ من أنّ الآية التي فيها ذكر الليل والنهار هناك علاقة. كذلك بعدها ذكر أمرا عن الآخرة ثمّ ذكر آية من آيات الله في الدنيا، وهي مرور الجبال كمرّ السحاب. الذي أريد أن أقوله إنّ دراسة نظم و النمطية في القرآن مهمّ كدراسة السياق، ليس فقط دراسة آية قبلها وآية بعدها.


لكن يبقى السؤال، كيف تمرّ الجبال ونحن نراها جامدة؟ الله العليم الخبير أعلم بذلك، لكن الله أثبت أنها أي الجبال تمرّ كمرّ السحاب، وهذا يكفي، ولو كانت المسألة أننا نراها تتحرك لما قال (تحسبها جامدة). إذن كونها تبدو جامدة أمر طبيعي، لكن الله يريد أن يلفتنا لأمر خفيّ وهو أنّ الجبال تتحرك بالرغم من كوننا نراها جامدة. 


ما طبيعة مرور الجبال و حركتها؟ لا أدري بالضبط، لكن بالتأكيد لا يمكن أن أقول كما يقول أهل الإعجاز العلمي إنها تمرّ فقط لكون الأرض تدور حول نفسها و تدور حول الشمس. لا يصحّ أن يُقال بدوران الأرض السماء تتحرك، الجبال تتحرك، النجوم تتحرك، الأشجار تتحرك…إلخ فإنه في منظورهم أنّ الأرض هي التي تدور. 


ثم هناك فرق كبير في اللغة العربية بين المرور و الدوران و هذا يعرفه من له أدنى دراية بلسان العرب. ثم لاحظ أنه قال تمر مرّ السحاب، و هل دوران الأرض بسرعة ألف ميل في الساعة تقريبا يُسمى مرورا؟ هناك فرق كبير بين مرور السحاب و دوران الأرض حول نفسها، فليس هناك أي وجه للشبه بين مرور السحاب و دوران الأرض، نفهم مما سبق أنه ليس هناك أي وجه للشبه بين مرور الجبال و دوران الأرض.


من مرّ على آيات القرآن و فهم الظاهر من معانيها، فإنه سيكتشف أنها تدلّ على استقرار الأرض، وأنها ثابتة لا تتحرك، فكيف نعمل بهذه الآية ونحن لا نرى الجبال تمرّ؟ الإجابة الأولى كما قلت، المسألة ليس المقصود منها رؤيتنا لها تمر أو تتحرّك إذ قال الله عز و جل عنها (تحسبها جامدة). فإن نحن نظرنا إلى الجبال سنحسبها جامدة. هذه واحدة في الإجابة عن السؤال.


أما الثانية فالإجابة قد تجدها في هذا النموذج الذي سأطرحه. تخيل الأرض على الماء، الماء الذي أحبّ أن أسميه البحر الكوني المحيط، وأنها أول ما خُلقت (أي الأرض) كانت تميد أي تتحرّك، كوضع قطعة خشبية مسطّحة تطفو على وجه الماء، فإنها تطفو غير أنّ حركتها تكون مضطربة بحركة المياه، لكن إن وضعت الأثقال عليها فإنها تثبتها. كذلك يغلب على ظنّي أنّ الله سبحانه وتعالى ألقى الجبال رواسي لتثبيت الأرض. و بما أنّ الجبال والأرض جميعا على الماء، فإنّ أعماق الجبال  التي هي للأرض كرواسي السفن، فإنها هي، أعني الجبال، هي التي تتحرك، لأن البحر الكوني المحيط أعمق من أقدام الجبال، وبذلك لا تثبت الجبال على الماء، بل ستمرّ مع ماء البحر الكوني، في حين أنّ الأرض التي على الماء ثابتة لا تميد و حركتها صارت مستقرة بسبب ثقل الجبال. وكما أنّ الرياح تجعل السحاب تمرّ فوقنا حركة بطيئة كذلك ماء البحر الكوني لها دور في جعل الجبال تمرّ كمرّ السحاب و لقائل أن يقول أن كون الأرض على البحر الكوني قد يكون السبب الذي من أجله تتكون الأمواج إن لم نأخذ بالرياح و ما إلى ذلك، لكن تفاصيل هذا المنظور معقّد جدا و لا أظن أن الناس سيستوعبون ما أريد قوله في هذا النموذج إذ الكلام فيه كثير و أظن أني سأفشل في التعبير عن بعض هذه الأفكار بلغة يسيرة يفهمها الناس عني و من أجل هذا سأؤجل الحديث عن هذا المنظور بشكل تفصيلي.


 حاول أن تستوعب، وتتخيل ما قلته، ستجد أنني جمعت جميع آيات القرآن في موضوعنا هذا في سلك، وقدّمت إجابة جديدة، لماذا الأرض ثابتة، والجبال رواسي، وهي التي تمرّ مرّ السحاب، ولماذا الأرض ليست كروية و لا تدور حول نفسها.


و تحصّل لدينا من هذا المقال، أن استدلالهم بالآية على كروية الأرض لا تصلح أن تكون دليلا، بل إن الآية دليل على أنها مسطّحة و الحمدلله رب العالمين.


Sunday, September 12, 2021

علماء المسلمين و هيئة الأرض

 


قرأت لناس و استمعت لعلماء من المسلمين يزعمون أن علماء الإسلام أجمعوا على أن الأرض كروية و تأثرا بهم يقول كثير من الناس أن المسلمين أجمعوا على كروية حتى قبل وجود ناسا و وكالات الفضاء. و هذه المعلومة غير صحيحة، ليس هناك إجماع بين العلماء على أنّ الأرض كروية؟ لا أقصد مجرد دعوى الإجماع، فدعاوي الإجماع كثيرة، ويكفي فقط النظر إلى موسوعة للإجماع لإدراك الزعم الفاحش الذي كان يرتكبه بعض العلماء لنصرة مذاهبهم، فكم مرة أخطأ في تلك الدعاوي كلّ من ابن تيمية وابن حزم رحمهما الله. الزعم فكل إنسان يستطيع أن يدّعي أي شيء لكن أين البيّنة و البرهان على أن هناك إجماع في المسألة؟ 


نجد في تفسير القرطبي رحمه الله وهو يفسر آية (و الأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كلّ شيء موزون) نقل مقولة لابن عباس: "بسطناها على وجه الماء؛ كما قال: والأرض بعد ذلك دحاها أي بسطها وقال: والأرض فرشناها فنعم الماهدون. وهو يردّ على من زعم أنها كالكرة وقد تقدم" هذا قول القرطبي و الذي فيه إثبات أنه كانت هناك آراء وردود على فكرة الأرض الكروية.


في نونية القحطاني المنسوبة للإمام القحطاني الأندلسي المعروف والمتوفى سنة ٣٧٩ للهجرة على اختلاف، فيها أبيات للرد على من اعتنق النموذج الكروي للأرض، أنقل لكم الأبيات التي تعنينا:    


كذبَ المهندسُ والمنجّمُ مثله … فهما لعلمِ اللهِ مدّعيانِ        

الأرض عند كليهما كروية … و هما بهذا القول مقترنان  

والأرض عند أولي النهى لسطيحة … بدليل صدق واضح القرآن 

والله صيرها فراشا للورى … وبنى السماء بأحسن البنيان"    


القارئ في كتب تفسير القرآن يعرف أنّ ابن كثير المفسر وغيره جمع من العلماء على أنّ الأرض مخلوقة قبل السماء ثم دحيت بعدما خلق الله عز و جل السماء، فكيف يتوافق هذا مع النظريات العلمية الحديثة بشأن خلق الأرض؟ ألسنا نجد في تفسير البغوي في تفسير الآية (و الأرض مددناها) بسطناها على وجه الماء؟ ما المقصود بالماء؟ يُمكن أن يُقال المقصود المحيطات، ويمكن أن يُقال إنّ الأرض جميعها على الماء. ثمّ ما معنى قول المفسرين: بسطها طولا وعرضا ؟ كيف يمكن ذلك على الأرض الكروية خاصّة أنّ المقصود هنا الأرض كاملة، ليست قطعة معينة أو أرضا معينة، والسياق يوضح ذلك. 


معنى الأرض يختلف باختلاف السياق، ولا أظنّ عاقلا يُخالفنا في هذا، لكن عندما يخبر الله عن خلق الأرض ويقابلها بالسماوات فإنّ المقصود الأرض كلّها لا قطعة معينة! تخيل معي مثلا عندما يقول الله سبحانه وتعالى: (جنة عرضها السماوات والأرض) هل المقصود بالأرض هنا فقط مكة أو المدينة أو أية قطعة أخرى أم أنه يقصد الأرض كلّها؟ الإجابة واضحة ثمّ إنّ كان المقصود بأنّ الأرض مدّها وبسطها فقط للناظر، فيمكن للناظر أن يقول مُعترضا لكني أرى الجبال والهضاب، و مستويات الأرض مختلفة، فكيف هي ممتدّة ومبسوطة؟ 


أليس القرآن آيات أنزلها الله العزيز الحكيم يُخاطب فيها الإنس و الجن؟ و الجن كما نعرف من القرآن كانوا يلمسون السماء أي لهم قدرات ليست من قدرات البشر، فهل الجني الطائر و هو ينظر إلى الأرض نظرة فوقية و رأى أنها كروية أو فيها انحناء، هل سنستطيع التوفيق بين نظرته للأرض و هذه الآية؟ سيكون هناك خلل خاصة إن القرآن صالح لكل زمان و مكان. لن يجد المُعارض مخرجا مقنعا إلا أن يتعدى منظور الرائي، فإن فعل المعارض ذلك خرج الموضوع عن المنظور، وتحول إلى منظور كتلة الأرض كاملة، فإن كان كذلك نقول له لِمَ توقفت عند كتلة معينة ولم تأخذ الأرض كلّها؟ لو أنك منذ البداية فسّرت الآية بظاهرها لوصلت إلى النتيجة الحقيقية.


لنعد إلى ما كنّا فيه، نجد في تفسير ابن عطية المتوفّى سنة ٥٤٦ ه عند تفسيره لقول الله سبحانه: (وإلى الأرض كيف سطحت) قال ابن عطية: "و ظاهر هذه الآية أن الأرض سطح لا كرة، وهو الذي عليه أهل العلم، والقول بكريتها وإن كان لا ينقص ركنا من أركان الشرع فهو قول لا يثبته علماء الشرع" ومعروف من هو ابن عطية، وقد زعم أنه لا يثبته علماء الشرع، هل كان سيخفى عليه إجماع علماء الأمة قاطبة أنّ الأرض كروية ويدّعي هذا الادعاء الكبير!؟ كلا لم يكن ليفعل ذلك! و أيضا قال في موضع آخر كلاما يثبت أن الأرض ليست كروية و ذلك عند وقوفه عند الآية من سورة نوح: (والله جعل لكم الأرض بساطا) فقال: يقتضي ظاهره أن الأرض بسيطة كروية واعتقاد أحد الأمرين غير قادح في نفسه اللهم إلا أن يتركب على القول بالكروية نظر فاسد، وأما اعتقاد كونها بسيطة فهو ظاهر كتاب الله تعالى، وهو الذي لا يلحق عنه فساد البتة. واستدل ابن مجاهد على صحة ذلك بماء البحر المحيط بالمعمور، فقال: لو كانت الأرض كروية لما استقر الماء عليها. و قلّده حرفيا الثعالبي في تفسيره الجواهر الحسان في تفسير القرآن فقال: وظاهر الآية: أن الأرض بسيطة غير كُرِيَةً، واعتقاد أحد الأمْرَيْنِ غَيْرُ قَادِح في الشرْعِ بنفسِه، اللهم إلا أنْ يترتبَ على القولِ بالكُرِيَّةِ نَظر فاسد، وأما اعتقاد كونها بسيطةً، فهو ظاهر كتاب الله تعالى، وهو الذي لا يلحق عنه فساد أَلْبَتَّة.


و قريب منهما استدل الماوردي صاحب تفسير النكت و العيون على أن الأرض مبسوطة فقال عند وقوفه عند الآية المذكورة من سورة نوح فقال: أي مبسوطة، وفيه دليل على أنها مبسوطة. و كذلك نجد أن القرطبي قال في تفسيره: مبسوطة و مثله النسفي و ابن عادل عند توقفهما عند هذه الآية. حتى أبو حيان صاحب تفسير البحر المحيط قال عند وقوفه عند هذه الآية: تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه. وظاهره أن الأرض ليست كروية بل هي مبسوطة و أما مقاتل ابن سليمان فقال عند تفسيره لهذه الآية: مسيرة خمسمائة سنة من تحت الكعبة


نجد في تفسير الجلالين عند تفسير قوله سبحانه وتعالى: (وإلى الأرض كيف سطحت) "و قوله (سطحت) ظاهر في أنّ الأرض سطح، وعليه علماء الشرع، لا كرة كما قاله أهل الهيئة وإن لم ينقض ركنا من أركان الشرع. كذلك قال الثعالبي في تفسيره. 


حتى الفخر الرازي عندما أراد إثبات كروية الأرض قال في تفسيره: (ومن الناس من استدل بهذا على أنّ الأرض ليست بكرة) ثمّ راح يردّ عليهم، فهو على الأقلّ يثبت أنّ هناك خلافا في المسألة لا كما جعلنا البعض نتوهم بإكثارهم من دعاوي الإجماع! 


قال السمرقندي في تفسيره المسمى بحر العلوم عند توقفه عند آية سورة البقرة: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) {البقرة ٢٢} قال أهل اللغة: الأرض بساط العالم. و قال  إسماعيل حقي مثل هذا الكلام: الأرض بساط العالم وبسيطها من حيث يحيط بها البحر الذي هو البحر المحيط و قد نقلت هذه الأقوال في فصول سابقة.


من علماء المسلمين المتبنين النموذج المسطحة للأرض الإمام أبو منصور عبد القاهر البغدادي المتوفى سنة ٤٢٩ صاحب كتاب "أصول الدين" وفيه قوله عند شرحه اسمه الباسط: "و الباسط في الدلالة على بسط الرزق لمن شاء وعلى أنه بسط الأرض ولذلك سماها بساطا خلاف قول من زعم من الفلاسفة والمنجمين أنّ الأرض كروية غير مبسوطة. و في كتاب الفرق بين الفِرَق قال: و أجمعوا على أن السماوات سبع طباق، خلاف من زعم من الفلاسفة و المنجمين أنها تسع، و أجمعوا أنها ليست بكرية تدور حول الأرض، خلاف من زعم أنها كرات بعضها في جوف بعض و تدور حول الأرض الكروية التي تقع في وسطها و مركزها. و هذا النموذج هو نموذج بطليموس المعروف و هو ردّها بل زعم الاجماع!


و أيضا إسماعيل الحنفي القونوي صاحب تفسير حاشية القونوي على تفسير الإمام البيضاوي نجد في تفسيره يرد على البيضاوي عندما قال البيضاوي: (و ذلك لا يستدعي كونها مسطحة لأنها كرية شكلها مع عظم حجمها و اتساع جرمها لا يأبى الافتراش عليها مقلدا الفخر الرازي، قال القونوي: بل كونها مسطحة راجحة لأنها مختار ابن عباس عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم و ظاهر قوله تعالى: (و الأرض مددناها) و قوله تعالى (لا ترى فيها عوجا و لا أمتا) و الأرض بعد ذلك دحاها) يدل على كونها مسطحة و ابن عباس و جمع كثير من أهل العلم باللسان و أدرى بالبيان فلا جرم أن الميل إليه مقبول لدى أولي العرفان و الكروية قول الفلاسفة و الظاهر أنها مختار المصنف تبعا للإمام الرازي فإنه قول الوجوه العقلية التي أقيمت على الكروية في تفسيره و المصنف تبعه مع تقرير حدوثها فحينئذ لا محذور في كلا الاحتمالين لكن متابعة السلف أسلم.


أيضا من المؤيدين لنموذج الأرض المسطّحة والقائلين بكرويتها الجغرافي المعروف سراج الدين ابن الوردي المتوفّى سنة ٨٥٢ بالتاريخ الهجري، فنجد في كتابه المعروف "خريدة العجائب وفريدة الغرائب" قوله: "فأعظم جبال الدنيا قاف: وهو محيط بها كإحاطة بياض العين بسوادها وما وراء جبل قاف فهو من حكم الآخرة لا من حكم الدنيا" وجبل قاف مذكور في بعض الآثار ولا علينا من تحقيقها، لكن ابن الوردي اعتبر الجبل كسد حول جميع الأرض، وهو يشبه كثيرا بعض التوجهات الحديثة للأرض المسطّحة وتنفي كروية الأرض التي تسبح في الفضاء كالذرة. أحبّ أن أنوه أنّ الكتاب أحيانا ينسب إلى جده القاضي عمر بن الوردي المتوفّى سنة ٧٤٩ هجري، والجدّ معروف عنه أنه رسم خريطة للعالم ورسمها دائرية محاطة بالجبل المذكور. للعلم لست من الذين يستطيعون اليوم إثبات وجود هذا الجبل حول الأرض، لكن لا يمكنني نفيه بالكامل لعدم قدرتي على ذلك، أما قول بعض المفسرين إنه لو كان موجودا لاستطاع الناس أن يروه أقول ردّا عليهم إنّ الأرض ممتدة و لا يعلم حدود امتدادها إلا الواسع العليم. إذا كان الشيء بعيدا غاية في البعد فلا يمكن للبشر أن ينظروا إليه حتى بالأجهزة الحديثة. الغرض من ذكري لهذه الأقوال لكي أبيّن لك عزيزي القارئ أن هناك جمع من العلماء الذين كانوا يؤيدون النموذج المسطّح للأرض، الأرض الممدودة المبسوطة المفروشة.


أبو عبدالله زكريا القزويني العالم الجغرافي المعروف المتوفّى سنة ٦٨٢ للهجرة كان يؤيد فكرة الأرض المسطّحة كما في كتابه "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" وكيف أنّ الأرض محاطة بسور جبلي، وأنها على ماء كوني تحت الأرض وفوق الحوت العظيم بهاموت وما إلى ذلك.


كذلك الأخوان علي ومحمد أبناء أحمد بن محمد الشرفي الصفاقسي كانا يعتقدان بالأرض المسطّحة الدائرية الشكل، وعلي هو جغرافي ورياضي وفلكي توفّي سنة ٩٥٨ للهجرة، ومحمد هو جغرافي كذلك وعالم نبات، وعلي هو صاحب كتاب الطبلة، وستجدون فيه خرائط أنّ الأرض محيطة بالماء، والماء محيط بسلاسل جبلية تحيط الأرض كلها، وهذا يدعم النموذج الحديث للأرض المسطحة الذي يتبنّاه كثير من الناس في الغرب، و الخريطة بلا شك تخالف فكرة الأرض الكروية التي تسبح في الفضاء كالذرة! 


إن من يسمع لبعض أهل الإعجاز العلمي قد يتوهّم بسببهم أنّ الأمة الإسلامية جمعاء بشتى طوائفها متفقة على أنّ الأرض كروية، وهذا غير صحيح، ما ذكرته في هذا الفصل كان بعض أهل السنة، و إن قرأنا في كتب علماء المذاهب الأخرى لوجدنا مثل رأي علماء أهل السنة. فمثلا العالم الشيعي الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان العكبري المتوفّى سنة ٤١٣ هجري، صاحب كتاب "الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد" أنه كان يقول: إنّ الأرض مبسوطة وينكر على القائلين إنّها كروية وأنها تخالف القرآن والسنة والتراث الشيعي! كذلك ابن عجيبة صاحب التفسير الصوفي المعروف كان يميل للأرض المسطّحة. 


حتى عند الإباضية هناك خلاف، فمنهم من قال: إنّ السماء محيطة بالأرض أو إنها مسطّحة وأطراف السماء على أطراف الأرض (أي شكل القبة). و كذلك ابن حزم الذي الذي يستشهد به كثير من الناس اليوم في إثباته كروية الأرض، قال في بعض كلامه في هذا الموضوع أن القائلين بالأرض المسطّحة هم العوام، أما الأئمة المعروفون بالعلم فإنهم يقولون: إنّها كروية، أقول أولا قبل أن أتعرض لكلام ابن حزم بالتفصيل: أليس العامة من المسلمين؟ ومن أين أخذ العامة أنّ الأرض مسطّحة؟ ألم يأخذوها من القرآن أو من مشايخ ووعاظ وعلماء آخرين؟ فإنهم مقلدون في أكثر الأحوال، أليس كذلك؟ قل لي لماذا ارتضى العوام لأنفسهم أنّ الأرض مسطّحة، وخالفوا الأئمة المعروفين بالعلم؟ هذا غريب! و إن أنت تفكّرت في كلامي لعرفت أن هذه وحدها تكفي للردّ على من زعم أن هناك إجماعا في المسألة للمتأمّل!


من درس ولاحظ الخرائط التي رسمها علماء المسلمين، أعني العلماء الذين صُنّفوا من القائلين بكروية الأرض سيجد أنهم يرسمون الأرض بشكل دائري و حول الأرض قرص أو سلسلة جبال محيطة بالأرض ويحددون في الشمال مكان يأجوج ومأجوج وهذا ستجده في أكثر من خريطة، وابحث في محركات البحث وستجد وسترى ما أقصده بعينيك. من يدري حتى العلماء المحسوبين من المنتصرين للأرض الكروية، ربما في حقيقتهم كانوا متبنين النموذج المسطح للأرض.


مما سبقو تبيّن لنا أنه من المسلمين علماء جغرافيا وهيئة ورياضيات كانوا يعتقدون أن الأرض مسطحة فضلا عن علماء الفقه و التفسير. ومن يقرأ التفاسير بموضوعية ويقرأ الآثار المرفوعة و الموقوفة في تفاسيرهم لا يمكنه البتة أن يقول هناك إجماع على كروية الأرض بل سيعرف أن هذا الإدّعاء كذب فاحش. و إن قلنا إن هناك من العلماء من انتصر لنظرية الأرض الكروية أقول هذا وحده لا يكفي ليكون دليلا على صحة النظرية، فالعلماء في نهاية الأمر بشر، وكلامهم ليس بوحي، يُؤخذ منه و يردّ.



عبدالعزيز النظري

تويتر

انستغرام