Monday, November 2, 2020

الأسباط

ورد ذكر الأسباط أربع مرات في القرآن، مرتان في سورة البقرة، الأولى في قوله: ((قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) و الثانية في قوله: ((أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) و المرة الثالثة في سورة آل عمران: ((قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) و المرة الرابعة في سورة النساء: ((إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً)) و لم يجيء ذكر الأسباط بمعزل عن إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب.


فمن هم الأسباط؟ قبل أن أبدي رأيي أحب أن أستعرض بعض ما قاله المفسرون، أول الطبري فقد قال في تفسيره: الأسبـاط الذين ذكرهم فهم اثنا عشر رجلاً من ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيـم، ولد كل رجل منهم أمة من الناس، فسُموا أسبـاطاً. كما: حدثنا بشر بن معاذ قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قال: الأسبـاط: يوسف وإخوته بنو يعقوب، ولد اثنـي عشر رجلاً، فولد كل رجل منهم أمة من الناس، فسموا أسبـاطا. حدثنـي موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي: أما الأسبـاط فهم بنو يعقوب: يوسف، وبنـيامين، وروبـيـل، ويهوذا، وشمعون، ولاوي، ودان، وقهاث. حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: الأسبـاط: يوسف وإخوته بنو يعقوب اثنا عشر رجلاً، فولد لكل رجل منهم أمة من الناس، فسموا الأسبـاط. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، قال: حدثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: نكح يعقوب بن إسحاق وهو إسرائيـل ابنة خاله لـيا ابنة لـيان بن توبـيـل بن إلـياس، فولدت له روبـيـل بن يعقوب، وكان أكبر ولده، وشمعون بن يعقوب، ولاوي بن يعقوب، ويهوذا بن يعقوب، وريالون بن يعقوب، ويشجر بن يعقوب ودينة بنت يعقوب. ثم توفـيت لـيا بنت لـيان، فخـلف يعقوب علـى أختها راحيـل بنت لـيان بن توبـيـل بن إلـياس، فولدت له يوسف بن يعقوب وبنـيامين، وهو بـالعربـية أسد، وولد له من سريّتـين له اسم إحداهما زلفة، واسم الأخرى بلهية أربعة نفر: دان بن يعقوب، ونفثالـي بن يعقوب، وجاد بن يعقوب، وإشرب بن يعقوب. فكان بنو يعقوب اثنـي عشر رجلاً، نشر الله منه اثنـي عشر سبطا لا يحصى عددهم ولا يعلـم أنسابهم إلا الله، يقول الله تعالـى: ((وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَـيْ عَشَرَةَ أسْبـاطاً أُمَـماً))


قال القرطبي: الأسباط: وَلَدُ يعقوب عليه السلام، وهم ٱثنا عشر ولدا، وُلِد لكل واحد منهم أُمّة من الناس واحدهم سِبْط. والسِّبْط في بني إسرائيل بمنزلة القَبيلة في ولد إسماعيل. وسُمُّوا الأسباط من السَّبط وهو التتابع فهم جماعة متتابعون. وقيل: أصله من السَّبَط بالتحريك وهو الشجر أي هم في الكثرة بمنزلة الشجر، الواحدة سَبَطة. و قال الزمخشري: حفدة يعقوب ذراريّ أبنائه الاثني عشر. قال الخليل: السبط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب. قال ابن الجوزي في زاد المسير في علم التفسير: فأما الأسباط: فهم بنوا يعقوب، وكانوا اثني عشر رجلاً. و قال ابن عطية صاحب المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: هم ولد يعقوب، وهم روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا وربالون ويشحر ودنية بنته وأمهم ليا، ثم خلف على أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين، وولد له من سريتين ذان وتفثالي وجاد وأشرو، والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل، فسموا الأسباط لأنه كان من كل واحد منهم سبط، 


و قال السمرقندي في بحر العلوم: وهم أولاد يعقوب، كان له إثنا عشر ابناً، فصار أولاد كل واحد منهم سبطاً، والسبط بلغتهم بمنزلة القبيلة للعرب، وانما أنزل على أنبيائهم وكانوا يعملون به، فأضاف إليهم. و قال الخازن في تفسيره: وهم أولاد يعقوب الاثنا عشر واحدهم سبط وكانوا أنبياء، وقيل: السبط هو ولد الولد وهو الحافد ومنه قيل: للحسن والحسين سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم 


وقال البخاري الأسباط قبائل بني إسرائيل، وهذا يقتضي أن المراد بالأسباط ههنا شعوب بني إسرائيل، وما أنزل الله من الوحي على الأنبياء الموجودين منه. قال الشريف أبو البركات الجوّاني النسابة: وولد يعقوب النبي صلى الله عليه وسلم: يوسف النبي صلى الله عليه وسلم، صاحب مصر وعزيزها، وهو السبط الأول من أسباط يعقوب عليه السلام الاثني عشر، والأسباط سوى يوسف: كاذ، وبنيامين، ويهوذا، ونفتالي، وزبولون، وشمعون، وروبين، ويساخا، ولاوي، وذان، وياشيرخا من يهوذا بن يعقوب، وسليمان النبي صلى الله عليه وسلم. وجاء من سليمان عليه السلام النبي: مريم ابنة عمران، أمّ المسيح عليهما السلام. وجاء من لاوي بن يعقوب: موسى كليم الله وهارون أخوه عليهما السلام.


و في لسان العرب: قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: سأَلت ابْنَ الأَعرابي مَا مَعْنَى السِّبْط فِي كَلَامِ الْعَرَبِ؟ قَالَ: السِّبْطُ والسّبْطانُ والأَسْباطُ خَاصَّةُ الأَولاد والمُصاصُ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: السِّبْطُ وَاحِدُ الأَسْباط وَهُوَ وَلد الوَلدِ. ابْنُ سِيدَهْ: السِّبْطُ وَلَدُ الِابْنِ وَالِابْنَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: الحسَنُ والحُسَينُ سِبْطا رسولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمَا ، وَمَعْنَاهُ أَي طائفتانِ وقِطْعتان مِنْهُ، وَقِيلَ: الأَسباط خَاصَّةُ الأَولاد، وَقِيلَ: أَولاد الأَولاد، وَقِيلَ: أَولاد الْبَنَاتِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَيضاً: الحسينُ سِبْطٌ مِنَ الأَسْباط أَي أُمَّةٌ مِنَ الأُمم فِي الْخَيْرِ، فَهُوَ وَاقِعٌ عَلَى الأُمَّة والأُمَّةُ وَاقِعَةٌ عَلَيْهِ. وَمِنْهُ حَدِيثُ الضِّبابِ: إِنَّ اللَّهَ غَضِبَ عَلَى سِبْطٍ مِنْ بَنِي إِسرائيل فَمَسَخَهُمْ دَوابَّ. والسِّبْطُ مِنَ الْيَهُودِ: كَالْقَبِيلَةِ مِنَ الْعَرَبِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ إِلى أَب وَاحِدٍ، سُمِّيَ سِبْطاً ليُفْرَق بَيْنَ وَلَدِ إِسماعيل وَوَلَدِ إِسحاق، وَجَمْعُهُ أَسْباط. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً ؛ أُمماً لَيْسَ أَسباطاً بِتَمْيِيزٍ لأَن الْمُمَيِّزَ إِنما يَكُونُ وَاحِدًا لَكِنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ كأَنه قَالَ: جَعَلْنَاهُمْ أَسْباطاً. والأَسْباطُ مِنْ بَنِي إِسرائيل: كَالْقَبَائِلِ مِنَ الْعَرَبِ. وَقَالَ الأَخفش فِي قَوْلِهِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قَالَ بَعْضُهُمْ السِّبْطُ القَرْنُ الَّذِي يَجِيءُ بَعْدَ قَرْنٍ قال بعض أهل اللغة، السبط بمعنى الحافد وكان الحسن والحسين سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأسباط: الحفدة. والسِّبْط: الجماعة والقبيلة الراجعون إلى أصل واحد. وشَعر سَبْط وسَبِطَ: غير جَعْد. 


كما ترى اختلف أهل التفسير و أهل اللغة في تحديد معنى الأسباط. 


و في آية سورة الأعراف نجد التالي: ((وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ ۚ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) و قال المفسرون و أهل اللغة مثل الذي قالوا في معنى السِّبط.


و لكن ماذا لو كان الأسباط ليس اسم لجماعة أو فرقة من الناس، و ليس أبناء يعقوب، ماذا لو كان الأسباط اسم لنبي أو رسول؟ ((قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) ألسنا نجد اسم الأسباط بعد إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و هم أنبياء أفراد و ليسوا جماعات، و أسماء الأنبياء من بعد الأسباط هم كذلك أفراد، أعني موسى و عيسى. فلماذا لا يكون الأسباط كذلك اسم لنبي من الأنبياء؟ فإن قلت إن اسم الأسباط جاءت معرّفة بالأل، و العادة في أسماء الأفراد لا تكون معرّفة بالألف و اللام. أقول هذا غير صحيح، ألسنا نجد في القرآن اسم اليسع؟ و هذا الاسم معرّف بالألف و اللام كما في الآية من سورة الأنعام: ((وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ)).


و دليل آخر و ذلك في قوله: ((قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) فإنك ستلاحظ ذكر النبيون. فالآية ذكرت الأفراد و هم إبراهيم و إسماعيل و البقية و كذلك جاء ذكر النبيون، فإن كان الأسباط جمعا شملتهم كلمة النبيون. 


أما الذين قالوا إنهم أولاد يعقوب، فلم نجد دليلا في القرآن ما يدل على أنهم أنبياء أو رسل، و لم نجدهم يتخلّقون بخلق الأنبياء و المرسلين و هذا جلي في سورة يوسف، و القرآن فيه ذكر لمحاسن و فضائل الأنبياء و أخلاقهم متقاربة متشابهة. فإن قلت أنهم صاروا أنبياء بعد أن تصالحوا مع يوسف أو بعد استغفار يعقوب لهم، أقول ليس هناك ما يدل على هذا فصعب جدا أن نقول أنهم أولاد يعقوب. و لكن إن قلنا أنهم من ذرية يعقوب فمحتمل و الأمر يختلف. 


و الملاحظة الأخرى، ستلاحظ أن الأسباط جاء ذكرهم قبل موسى و عيسى، و الظاهر أن الأسباط لم يكن/يكونوا هودا و لا نصارى، بدليل الآية من سورة البقرة: ((أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ۗ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) إذن تاريخيا يبدو أنهم كانوا قبل زمن موسى عليه السلام و في القرآن لا نعرف أحدا كان رسول بين زمن يعقوب عليه السلام و موسى إلا واحد و هو يوسف! و لكن في الآيات الأربعة المذكورة فيها الأسباط ليس فيها أي ذكر ليوسف، بل نجد أن اسم الأسباط يأتي ذكره بعد يعقوب و قبل موسى أو عيسى في ثلاث مواضع.


و هنا راودني تساؤل لماذا لم يذكر يوسف عليه السلام؟ أليس يوسف رسول كريم؟ ((وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ)) و معروف أن يوسف هو ابن يعقوب و هو قبل موسى، بل إن سورة بأكملها تحمل اسمه، فلماذا لم يذكره الله عز و جل من ضمن الأنبياء الكرام و الذين هم ذرية بعضها من بعض؟ إن حملنا على رأي المفسرين فإن يوسف من ضمن أولاد يعقوب و هذا يحلّ الإشكال، و لكنه لا يحل الإشكال الآخر أن إخوة يوسف لم يكونوا أنبياء و لم يذكر عن خلقهم شيء مثل الذي هو مذكور عن بقية الأنبياء و المرسلين. فقلت في نفسي لعل الأسباط المقصود به هو يوسف عليه السلام و هذا الرأي و إن كان بعيدا عن الواقع إلا أنه جدير بالاهتمام. 


لماذا أقول أن هذا الخاطر الذي خطر لي بعيد عن الواقع؟ السبب أن يوسف مذكور عدة مرات في القرآن و ليس هناك إشارة لا من قريب و لا من بعيد أنه كان يحمل أكثر من إسم، فإن قلت الرسول صلى الله عليه و سلم مرة ذكر بأحمد و بقية المرات بمحمد، أقول السياق و الكلام واضح و يدل أن أحمد هو نفسه محمد، و كذلك المسيح هو نفسه عيسى بن مريم. فإن قلت إسرائيل و يعقوب، فإني قد فصّلت ذلك تفصيلا طويلا في السبب الذي من أجله يعقوب اسمه الآخر هو إسرائيل، يمكنك مراجعة كتابي: نظرات في القرآن للاستزادة. و لهذا يصعب علي أن أتبنى هذا الخاطر الذي خطر ببالي. 


و بما أن الأمر استغلق علي فهمه، رجعت إلى التوراة لعلي أجد فيها مرادي، و كالعادة وجدت مطلوبي و الحمدلله و هنا في هذا الفصل أقدّم رأيا جديدا لم تسجّله لنا كتب التاريخ و لا دراسات و أبحاث في القرآن و لا الدراسات التوراتية على الأقل فيما تحصّل لدي و اطلعت عليه و إني اطلعت كثيرا، و إني أرجو الله أن أكون محقا فيه. 


و أقول أن الأسباط هم من يعرفون عند أهل الكتاب بالقضاة، أو Judges. إن القارئ للعهد القديم أو التوراة بكتبها كلها (عند بعض الباحثين) لابد أنه سيقف عند سفر القضاة. و هذا السفر فيه ذكر لأخبار و قصص القضاة، و الدارس لهذا السفر سيلاحظ أن هذا السفر كغيره من الأسفار، سفر تاريخي، ليس فيه المسائل الإيمانية و الطقوس التعبدية و ما إلى ذلك. و يأتي هذا السفر بعد سفر يوشع بن نون، الذي تولى قيادة بني إسرائيل من بعد موسى و هو كذلك أحد القضاة. و هذا السفر فيه أخبار لعدة أجيال بمعنى أن الأسباط لم يكونوا كلهم في جيل واحد أو إخوة أو أبناء إنسان واحد، بل جاؤوا في فترات زمنية مختلفة و اختلف العلماء في تحديد الحقبة الزمنية لكل قاضٍ منهم. و العجيب أن القضاة عددهم اثنى عشر، و هم كالتالي: 

  1. أوثنيل أو أوثنئيل 
  2. أهود
  3. جَدعون
  4. أبي ميليك أو أبو معليق
  5. يفتاح
  6. شمشون 
  7. شمجر
  8. تولا أو طولا
  9. يئير أو يئيل
  10. إيزان أو عبسان
  11. إلون أو أهايلون
  12. عبدن أو عبدون


و هناك قاضية أنثى و تدعى دبوره. 


و هذا يتواءم مع الرأي القائل أنهم من ذرية يعقوب و لكنه لا يتوافق مع الرأي الشائع أنهم أولاده (يوسف و إخوته). لماذا أقول عنهم أنهم هؤلاء المقصودين، لأن هؤلاء القضاة كانوا مصلحين في بني إسرائيل أو كالقائد أو الحاكم أو النقيب. و أكثرهم كانوا أنبياء، بمعنى أن الوحي كان يأتيهم أو أنهم كانوا منصورين من قبل الله عز و جل. 


و ليس هذا فحسب، فإن سفر القضاة برأيي يجب أن يسمى سفر الأسباط فإن كلمة الأسباط هي الترجمة الأدق و الأصح للكلمة العبرية שופטים. فإن هذه الكلمة שופטים تلفظ شوفط أو سبطيم أو سبط و ليس قاض و إن كان معنى السبط عندهم القاضي أو النقيب أو الحَكَم أو الحاكم و هي من الأصل تبت أو طبط. و لاحظ قرب الكلمة العبرية سبطيم أو سفطيم من كلمة سِّبط العربية و معروف أن اللغة العبرية من اللغات السامية و كذلك العربية فلهذا الألفاظ ان اشتركت فإن المعنى يكون مشتركا. فإن قلت لماذا تستدل بالكلمات العبرية، أقول وجه الاستدلال واضح إذ أن هذه اللغات أعني العبرية و العربية و الآرامية هذه اللغات تعتبر من اللغات السامية و تشترك جذورها و بالتالي تشترك معاني كلماتها.


و كما هو معروف عند بعض مفسري التوراة و اليهود، فإن بني إسرائيل عندما كانت تُذنِب و تخطئ فإن الله يبعث عليهم عبادا يسومونهم سوء العذاب، ثم إن هم تابوا أرسل الله إليهم سبطا من الأسباط أو أحد القضاة ليخلّصهم من القوم الذين كانوا يعذبّونهم و هذا أيضا يمكنك ملاحظته مع موسى عليه السلام و أمر بني إسرائيل مع فرعون. فكأنها سبب و نتيجة، يذنب بني إسرائيل ثم يُعذبهم الله بالناس ثم يتوبون ثم يبعث الله من يخلّصهم من العذاب. و هذا كان دور القضاة أو النقباء أو الحكّام مع بني إسرائيل و الذي أرجّح أنّهم هم الأسباط المذكورين في القرآن. 


فإن طالبتني بالدليل، فأقول لك اقرأ في سورة المائدة تجد الدليل ناصعا أمامك لكننا كنا غافلين عنه و هو في قوله: ((وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ۖ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ۖ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)) موضع الشاهد (اثني عشر نقيبا) و هم الأسباط و هذا يتوافق مع ما هو من أمر القضاة أو الأسباط أو النقباء المذكورين عند أهل الكتاب. و معروف عند أهل التوراة و التاريخ أن بني إسرائيل عندما خرجوا صاروا اثنى عشر أمة أو طائفة أو قبيلة على كل طائفة نقيب أو قاضي اختارهم موسى ليقضوا بين قومهم الأمور الصغيرة أما الكبيرة فيرفعونها إلى موسى. و هذا مذكور في سفر الخروج من التوراة: ”25 وَاخْتَارَ مُوسَى ذَوِي قُدْرَةٍ مِنْ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ وَجَعَلَهُمْ رُؤُوسًا عَلَى الشَّعْبِ، رُؤَسَاءَ أُلُوفٍ، وَرُؤَسَاءَ مِئَاتٍ، وَرُؤَسَاءَ خَمَاسِينَ، وَرُؤَسَاءَ عَشَرَاتٍ. 26 فَكَانُوا يَقْضُونَ لِلشَّعْبِ كُلَّ حِينٍ. الدَّعَاوِي الْعَسِرَةُ يَجِيئُونَ بِهَا إِلَى مُوسَى، وَكُلُّ الدَّعَاوِي الصَّغِيرَةِ يَقْضُونَ هُمْ فِيهَا. و هناك عدة استدلالات أخرى من التوراة على ما أنا فيه.  الذي أريد أن أقوله باختصار أن هذا يتوافق جيدا مع الآية المذكورة: (((وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ ۚ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) فذكر الأسباط أفهم منها النقباء أو الإثنى عشر جماعة مهمّة. 


قد تقول، إنّك بهذا الرأي ترجّح أن الأسباط جماعة، في حين أنك قلت في بداية الفصل أن الأسباط قد يكون اسم لنبي واحد و ذلك لأن ذكر الأسباط جاء في سياق ذكر أفراد من الأنبياء و ليس جماعات. و قد كتبت أن ذكر النبيون جاء في الآية بعد ذكر الأفراد كما في هذه الآية: ((قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) فالأسباط إن كانوا جماعة و ليس اسم لفرد فإنهم يدخلون في قوله النبيون. أقول ليس هذا بالضرورة، اقرأ هذه الآية: ((إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً)) تأمل قوله (والنبيين من بعده) فإن أخذنا بقولك فيدخل فيها كل من إبراهيم و إسماعيل و من بعدهم، فلماذا ذكرهم؟ فالأمر خلاف ما ظننت من أنه غير جائز أن يذكر جماعة باسم مخصوص ثم يذكر النبيين و إن كان يشملهم. بل في ذكره للأسباط أنهم كانوا معروفين على الأقل عند الناس زمن نزول الآية و خاصة عند أهل الكتاب و الإثنى عشر المذكورين لهم اسم خاص في الكتب السابقة فلماذا لا يكون لهم اسم خاص في القرآن؟ فبمجرد قوله الأسباط العالم بكتب أهل الكتاب سيدرك المقصود بالأسباط لأنه يجد سفرا كاملا في كتابه المقدّس فيه ذكر هؤلاء الأسباط  و أعمالهم العظيمة بخلاف أولاد يعقوب (أعني إخوة يوسف) إذ ليس عندهم ذكر أنهم قاموا بتخليص بني إسرائيل أو أنهم رجال أوحي إليهم.


و بهذا الرأي الجديد أعني من كون الأسباط هم القضاة في العهد القديم، أكون قد حددت هوية الأسباط الذي يبدو أنه خفي عن المفسرين و الباحثين، فإن قلت إن هذا الرأي إن كان جديدا فهذا يعني أن الحق كان ضائعا لأكثر من ألف سنة، سأقول لك ليس الأمر كما تظن و لا تعالج هذه المسائل بهذه الطريقة، لكن حتى إن تنزّلت معك و مع طريقة تفكيرك سأقول لك أن قولي هذا الجديد لا يتعارض بالضرورة مع ما قد قيل قديما في معنى الأسباط. ألم يقولوا أن الأسباط الجماعة، و قالوا أيضا أن الأسباط من أولاد أولاد يعقوب و هذا أيضا لا يتعارض مع هذا الرأي الجديد. فإن كان هذا حقا فمن الله و إن كان باطلا فمن نفسي و الشيطان. و أسأل الله أن يرينا الحق حقا و يرزقنا اتباعه، و يرينا الباطل باطلا و يرزقنا اجتنابه.


عبدالعزيز النظري

تويتر

انستغرام


Monday, October 26, 2020

اسمه يحيى

بسم الله الرحمن الرحيم ((كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) ))


إن سألت الناس اليوم ما أكثر شيء تذكره عن يحيى بن زكريا فلعلهم يقولون لك قصة قتله، حتى أنا فعندما كنت صغيرا كان بعض من أهلي يتداولون قصة قتله و تلك الصورة البشعة لتقديم رأس يحيى عليه السلام للبغي لم تفارق مخيّلتي كلما تذكرت هذا النبي الذي لم يجعل الله له من قبل سميا. فإن لم تكن تعرف ما قصة قتله أنقل إليك قصة قتله من كتاب البداية و النهاية لابن كثير. 


قال ابن كثير: وذكروا في قتله أسبابا من أشهرها: أن بعض ملوك ذلك الزمان بدمشق، كان يريد أن يتزوج ببعض محارمه، أو من لا يحل له تزويجها، فنهاه يحيى عليه السلام عن ذلك، فبقي في نفسها منه، فلما كان بينها وبين الملك ما يحب منها، استوهبت منه دم يحيى فوهبه لها، فبعثت إليه من قتله، وجاء برأسه ودمه في طشت إلى عندها، فيقال: إنها هلكت من فورها وساعتها. وقيل: بل أحبته امرأة ذلك الملك وراسلته فأبى عليها، فلما يئست منه تحيلت في أن استوهبته من الملك، فتمنع عليها الملك، ثم أجابها إلى ذلك، فبعث من قتله وأحضر إليها رأسه ودمه في طشت.  


وقد ورد معناه في حديث رواه إسحاق بن بشر في كتابه المبتدأ حيث قال: أنبأنا يعقوب الكوفي، عن عمرو بن ميمون، عن أبيه، عن ابن عباس أن رسول الله ليلة أسري به رأى زكريا في السماء، فسلم عليه وقال له: يا أبا يحيى خبرني عن قتلك كيف كان، ولم قتلك بنو إسرائيل؟  قال: يا محمد أخبرك أن يحيى كان خير أهل زمانه، وكان أجملهم وأصبحهم وجها، وكان كما قال الله تعالى {وَسَيِّدا وَحَصُورا} وكان لا يحتاج إلى النساء، فهوته امرأة ملك بني إسرائيل، وكانت بغية، فأرسلت إليه وعصمه الله وامتنع يحيى وأبى عليها، فأجمعت على قتل يحيى، ولهم عيد يجتمعون في كل عام، وكانت سنة الملك أن يوعد ولا يخلف ولا يكذب.  قال: فخرج الملك إلى العيد فقامت امرأته فشيعته، وكان بها معجبا، ولم تكن تفعله فيما مضى، فلما أن شيعته قال الملك: سليني فما سألتني شيئا إلا أعطيتك، قالت: أريد دم يحيى بن زكريا، قال لها: سليني غيره. قالت: هو ذاك. قال: هو لك.  قال: فبعثت جلاوزتها إلى يحيى وهو في محرابه يصلي، وأنا إلى جانبه أصلي، قال: فذبح في طشت وحمل رأسه ودمه إليها.  


قال: فقال رسول الله : « فما بلغ من صبرك».  قال: ما انفتلت من صلاتي.  قال: فلما حمل رأسه إليها، فوضع بين يديها، فلما أمسوا خسف الله بالملك، وأهل بيته وحشمه، فلما أصبحوا قالت بنو إسرائيل: قد غضب إله زكريا لزكريا، فتعالوا حتى نغضب لملكنا فنقتل زكريا.  قال: فخرجوا في طلبي ليقتلوني، وجاءني النذير فهربت منهم، وإبليس أمامهم يدلهم علي، فلما تخوفت أن لا أعجزهم، عرضت لي شجرة فنادتني وقالت: إليّ إليّ، وانصدعت لي ودخلت فيها.  


قال: وجاء إبليس حتى أخذ بطرف ردائي، والتأمت الشجرة وبقي طرف ردائي خارجا من الشجرة، وجاءت بنو إسرائيل فقال إبليس: أما رأيتموه دخل هذه الشجرة، هذا طرف ردائه دخلها بسحره، فقالوا: نحرق هذه الشجرة، فقال إبليس: شقوه بالمنشار شقا. قال: فشققت مع الشجرة بالمنشار، قال له النبي :  «هل وجدت له مسا أو وجعا».  قال: لا، إنما وجدت ذلك الشجرة التي جعل الله روحي فيها.  


هذا سياق غريب جدا، وحديث عجيب، ورفعه منكر، وفيه ما ينكر على كل حال، ولم ير في شيء من أحاديث الإسراء ذكر زكريا عليه السلام إلا في هذا الحديث. وإنما المحفوظ في بعض ألفاظ الصحيح في حديث الإسراء: فمررت بابني الخالة يحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة.  فجاء على قول الجمهور كما هو ظاهر الحديث، فإن أم يحيى أشياع بنت عمران، أخت مريم بنت عمران. وقيل: بل أشياع وهي امرأة زكريا أم يحيى، هي أخت حنة امرأة عمران أم مريم، فيكون يحيى ابن خالة مريم، فالله أعلم.  ثم اختلف في مقتل يحيى بن زكريا، هل كان في المسجد الأقصى أم بغيره على قولين؟ فقال الثوري، عن الأعمش، عن شمر بن عطية قال: قتل على الصخرة التي ببيت المقدس سبعون نبيا، منهم يحيى بن زكريا عليه السلام.  وقال أبو عبيد القاسم ابن سلام، حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: قدم بخت نصر دمشق، فإذا هو بدم يحيى بن زكريا يغلي، فسأل عنه فأخبروه، فقتل على دمه سبعين ألفا فسكن. وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب، وهو يقتضي أنه قتل بدمشق، وإن قصة بخت نصر كانت بعد المسيح، كما قاله عطاء، والحسن البصري، فالله أعلم.  


وروى الحافظ ابن عساكر، من طريق الوليد بن مسلم، عن زيد بن واقد قال: رأيت رأس يحيى بن زكريا حين أرادوا بناء مسجد دمشق أخرج من تحت ركن من أركان القبلة الذي يلي المحراب مما يلي الشرق، فكانت البشرة والشعر على حاله لم يتغير، وفي رواية كأنما قتل الساعة، وذكر في بناء مسجد دمشق، أنه جعل تحت العمود المعروف بعمود السكاسكة فالله أعلم.  


وقد روى الحافظ ابن عساكر في المستقصى في فضائل الأقصى من طريق العباس بن صبح، عن مروان، عن سعيد بن عبد العزيز، عن قاسم مولى معاوية قال: كان ملك هذه المدينة - يعني دمشق - هداد بن هداد وكان قد زوجه ابنه بابنة أخيه أريل ملكة صيدا، وقد كان من جملة أملاكها سوق الملوك بدمشق، وهو الصاغة العتيقة.  قال: وكان قد حلف بطلاقها ثلاثا، ثم أنه أراد مراجعتها، فاستفتى يحيى بن زكريا فقال: لا تحل لك حتى تنكح زوجا غيرك، فحقدت عليه وسألت من الملك رأس يحيى بن زكريا، وذلك بإشارة أمها، فأبى عليها ثم أجابها إلى ذلك، وبعث إليه وهو قائم يصلي بمسجد جيرون من أتاه برأسه في صينية، فجعل الرأس يقول له: لا تحل له، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره.  فأخذت المرأة الطبق فحملته على رأسها، وأتت به أمها وهو يقول كذلك، فلما تمثلت بين يدي أمها خسف بها إلى قدميها، ثم إلى حقويها، وجعلت أمها تولول والجواري يصرخن، ويلطمن وجوههن، ثم خسف بها إلى منكبيها، فأمرت أمها السياف أن يضرب عنقها، لتتسلى برأسها ففعل، فلفظت الأرض جثتها عند ذلك، ووقعوا في الذل والفناء.  ولم يزل دم يحيى يفور، حتى قدم بخت نصر فقتل عليه خمسة وسبعين ألفا.  قال سعيد بن عبد العزيز: وهي دم كل نبي، ولم يزل يفور حتى وقف عنده أرميا عليه السلام فقال: أيها الدم أفنيت بني إسرائيل فاسكن بإذن الله، فسكن فرفع السيف وهرب من هرب من أهل دمشق إلى بيت المقدس، فتبعهم إليها فقتل خلقا كثيرا لا يحصون كثرة، وسبا منهم، ثم رجع عنهم. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله.


أقول أنا صاحب هذا الكتاب، عند التحقيق جميع تلك الروايات لا تصح و الصحيح أيضا أن يحيى عليه السلام لم يُقتل، و هذا هو السبب الرئيس الذي من أجله خصصت هذا الفصل للحديث عن يحيى عليه السلام، لأثبت لك أن يحيى لم يُقتل و إليك الأدلة.


قال الله عز و جل عن يحيى عليه السلام ((وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)) و ليس بعد هذا القول من دليل على أنه لم يقتل، و ذلك لأنه لو قُتل يحيى حقا لما قال (و يوم يموت) و ذلك لأنه في القرآن و في اللغة القتل غير الموت، و إليك الأدلة: قال الله في سورة آل عمران: ((وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)) و كذلك في نفس السورة: ((وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ)) و أيضا في سورة آل عمران: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)) و أيضا في سورة النساء: ((وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا )) و في سورة الأحزاب: ((قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا )) إذن الله سبحانه و تعالى يُفرّق بين القتل و الموت و ذلك لأنه لو كان الموت و القتل واحدا لم يكن ليعطف عليه و يستخدم كلمة أخرى. 


أقول إن القتل شيء مخصوص و الموت شيء عام، كل مقتول هو ميّت (في لغتنا اليوم) و لكن ليس كل من مات كان مقتولا، و ذلك لأن الموت قد يكون سببه المرض أو موت طبيعي كما نقول اليوم. و كل نفس ذائقة الموت و ليس كل نفس ذائقة القتل، لعموم الموت و مخصوصية القتل. القتل سببه تدخل خارجي، أعني أن هناك سببا خارجيا أتلف البدن و تسبب في ازهاق النفس، سواء كان من عدو أو الانتحار (من قتل الإنسان نفسه) و سواء كان بقصد أو بغير قصد، أما الموت فليس هناك سبب خارجي من قتل عدو و ما شابه ذلك إنما الموت الطبيعي. 


فإذا فهمت هذا عرفت وجه الدليل في الآية: ((وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)) و في هذا الكفاية في مطلوبنا من اثبات أن يحيى لم يُقتل. 


و المطلوب الثاني هو مسألة حياة يحيى، هل هو حي أم ميت الآن؟ لاحظ أن الله قال عنه (و يوم يموت) و الذي يظهر أنه لم يكن ميتا وقت نزول الآية، أليس كذلك؟ لأنه لو كان ميتا قال: وسلام عليه يوم ولد و يوم مات) و لكنه قال (ويوم يموت) استخدم إحدى صيغ المستقبل. أي أن الموت لم يذقه يحيى بعد و هذه هي إحدى الدقائق التي ينبغي أن نقف عندها و ندرسها. و لكن لقائل أن يقول أن هذا الخطاب كان لزكريا بعد أن ولد له يحيى، و لكن هذا ينقصه الدليل، و ذلك لأننا نجد في سياق سورة مريم التالي: ((يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) )) لاحظ أنه خاطب يحيى بعد مخاطبته لزكريا! و لم يذكر بعد مخاطبته ليحيى أنه كان يخاطب أحدا بل قال: ((وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15))) و كأن الله يخبر عنه كما أخبر في نفس السورة عن عيسى بن مريم بعد أن انتهى من حكايته: ((ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34))) 


و لاحظ أن عيسى عليه السلام قال عن نفسه: ((وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) )) في حين أن الله قال عن يحيى: ((وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15))) فإن كان عيسى بن مريم حيا إلى اليوم ما الذي جعلنا نقول أن يحيى مات و خاصة أن الخبر عن يحيى من الله (يوم يموت) و ليس كلام يحيى عن نفسه. لكن هنا أنا لي رأي آخر و هو أن عيسى لما قال ذلك صحيح أنه كان خطاب منه، إلا أنه أوحي إليه ذلك و إنه نبي لم يكن ليتقوّل على الله ما لا يعلم. و الفرق أن عيسى قال عن نفسه: والسلام علي و في يحيى وسلام عليه و السلام بالألف و اللام فغير مُسلّم أن يُقال أن القول عن يحيى هو آكد و مقدّم على ما قاله عيسى عن نفسه والله أعلم. 


و إن المتدبّر للقرآن سينتبه للتشابه العظيم بين قصة يحيى و عيسى عليهما السلام


من حيث الولادة

يحيى: ولادته لم تكن كالعادة، فالأب كان شيخا و الأم كانت عاقرة

عيسى: ولادته لم تكن كالعادة، إذ ولدته أمّه من دون أن يمسها بشر


من حيث البشارة

يحيى: ((فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ))

عيسى: (( إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)) 


من حيث مصدر البشارة

يحيى: (إن الله يبشركَ…) 

عيسى: (إن الله يبشركِ…)


من حيث مبلّغ البشارة

يحيى: ((فنادته الملائكة…))

عيسى: ((إذ قالت الملائكة…))


التسمية كانت وحيا

يحيى: ((يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا))

عيسى: ((إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)) 


التعجّب من البشارة: 

يحيى: قال زكريا: ((قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ…)) و في الموضع الاخر أيضا: ((قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ…)) 

عيسى: قالت مريم: ((قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ…)) و في الموضع الآخر: ((قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ…))


سبب التعجّب

يحيى: ((وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ…)) ((((وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا…))

عيسى: ((وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ…)) ((وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا…))


الرد على التعجّب من البشارة

يحيى: ((قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ…))

عيسى: ((قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ…))


الامتناع عن الكلام

يحيى: ((قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ۖ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ۗ وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ))

عيسى: ((فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا))


الرمز و الإشارة

يحيى: ((قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا)

مريم: ((فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا))


الحنان و الرحمة

يحيى: ((وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا))

عيسى: ((وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا))


النبوة في الصغر

يحيى: ((يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّة ٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا))

عيسى: ((قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا))


العلاقة بالكتاب

يحيى: ((إنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَة من اللّهِ)) و ((يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا))

عيسى: ((إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ)) و ((وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ))


البر

يحيى: ((وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا))

عيسى: ((وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا))


الفضائل

يحيى: ((فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ)) مصدق بكلمة من الله، سيد، حصور، نبي، من الصالحين

عيسى: ((إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) ))  كلمة من الله، وجيه في الدنيا و الآخرة، من المقربين، يكلم الناس في المهد و كهلا، من الصالحين)


السلام في الأطوار الثلاثة

يحيى: ((وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا))

عيسى: ((وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا))


أما في الكتب السابقة و الأخبار و المرويات فأيضا هناك تشابه:


القرابة بين يحيى و عيسى

يحيى: أمه كانت أخت أم عيسى 

عيسى: أمه كانت أخت أم يحيى


الزواج

يحيى: لم يتزوّج

عيسى: لم يتزوّج


التعلّق بالدنيا

يحيى: زاهد في الدنيا 

عيسى: زاهد في الدنيا


الأمثال

يحيى: يستخدم الأمثال لإيصال كثير من الرسائل

عيسى: يستخدم الأمثال لإيصال كثير من الرسائل


النبوة

يحيى: نبي من بني إسرائيل

عيسى: رسول إلى بني إسرائيل


التأييد

يحيى: مؤيد بروح القدس

عيسى: مؤيد بروح القدس


النهاية الأولى

يحيى: مات و هو شاب أو رفع و هو شاب

عيسى: رفع و هو شاب


مكانه في السماوات في قصة المعراج

يحيى: السماء الثانية

عيسى: السماء الثانية


فإذن كما ترى هناك تشابه عظيم بين يحيى و عيسى، و لهذا أرجّح أيضا أن حالتهما اليوم متشابهة، من ترجيحي أنه حي مع عيسى. 


و لاحظ في القرآن كله ستجد أن (ويوم) لا يأتي بعدها فعل مضارع إلا و يدل على المستقبل، مثل قوله: ((وَهُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۖ وَیَوۡمَ یَقُولُ كُن فَیَكُونُۚ قَوۡلُهُ ٱلۡحَقُّۚ وَلَهُ ٱلۡمُلۡكُ یَوۡمَ یُنفَخُ فِی ٱلصُّورِۚ عَـٰلِمُ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِیمُ ٱلۡخَبِیرُ)) و ((وَیَوۡمَ یَحۡشُرُهُمۡ جَمِیعا یَـٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ قَدِ ٱسۡتَكۡثَرۡتُم مِّنَ ٱلۡإِنسِۖ وَقَالَ أَوۡلِیَاۤؤُهُم مِّنَ ٱلۡإِنسِ رَبَّنَا ٱسۡتَمۡتَعَ بَعۡضُنَا بِبَعۡض وَبَلَغۡنَاۤ أَجَلَنَا ٱلَّذِیۤ أَجَّلۡتَ لَنَاۚ قَالَ ٱلنَّارُ مَثۡوَىٰكُمۡ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ إِلَّا مَا شَاۤءَ ٱللَّهُۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِیمٌ عَلِیم)) و ((وَإِن مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ إِلَّا لَیُؤۡمِنَنَّ بِهِۦ قَبۡلَ مَوۡتِهِۦۖ وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ یَكُونُ عَلَیۡهِمۡ شَهِیدا)) و ((وَیَوۡمَ نُسَیِّرُ ٱلۡجِبَالَ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ بَارِزَة وَحَشَرۡنَـٰهُمۡ فَلَمۡ نُغَادِرۡ مِنۡهُمۡ أَحَدا)) و الأمثلة كثيرة يصعب على الحصر في هذا الفصل. فكذلك هنا في قوله (ويوم يموت) للمستقبل. 


و لاحظ اسم هذا النبي… يحيى… اسمه يدل على أنه يحيى، فيه من معاني الحياة ما فيه، و ليس فيه أي شيء فيه يدل على القتل و ما إلى ذلك. بل اسمه قد يشير إلى أنه قد يكون حيا حتى اليوم. فإن كان عيسى بن مريم هو حي اليوم أظن والله أعلم أن يحيى كذلك هو حي اليوم، و إن كان عيسى بن مريم ميتا اليوم، فقد يكون يحيى كذلك ميتا و ذلك للتقارب من دلالات هذه الآيات. و لقائل أن يقول أن هناك عدة أدلة على بقاء عيسى بن مريم حيا و لا دليل هناك على يحيى غير هذه الآية التي أنت تستدل بها، و هذا صحيح و لا يمكن نفيه و ذلك لأنه لا يمكن الاستدلال أن جميع الأنبياء أحياء فقط لأنه لم يذكر لنا الله خبر موتهم في القرآن و الله أعلم.


و في حديث الإسراء و المعراج هناك إشارة أن عيسى مع يحيى عليهما السلام، إذ وجدهما النبي في السماء الثانية و في بعض الروايات الثالثة، فإن كان هذا صحيحا فالذي يظهر لي أن حالتهما واحدة إلا أن يُقال أن حادثة الإسراء و المعراج من الأمور الخارقة للعادة و لا يمكن الاستدلال بها على مثل هذه المواضيع التي نحن نتحدّث عنها و هذا قد يكون صحيحا، على كل هذه الروايات بحاجة إلى تحقيق من ناحية السند.


و أما من استدل برواية الزهري التي رواها ابن عساكر في تاريخ دمشق و التي فيها: أن النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ خرج على أصحابه يوما وهم يتذاكرون فضل الأنبياء فقال قائل موسى كلم الله تكليما وقائل يقول عيسى روح الله وكلمته وقائل يقول إبراهيم خليل الله فخرج النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وهم يذكرون ذلك فقال أين الشهيد أين الشهيد يلبس الوبر ويأكل الشجر مخافة الذنب و يقولون أن الشهيد يلبس الوبر هو يحيى، أقول هذا الحديث مرسل و لا يصح رفعه إلى الرسول صلى الله عليه و سلم. و في كتاب قصص الأنبياء لابن كثير نجد هذه الرواية عن الزهري أيضا: قال ابن وهب: حدثني ابن لهيعة، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه يوماً وهم يتذاكرون فضل الأنبياء. فقال قائل: موسى كليم الله. وقال قائل: عيسى روح الله وكلمته. وقائل يقول: إبراهيم خليل الله. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهم يذكرون ذلك، فقال: أين الشهيد؟ أين الشهيد يلبس الوبر ويأكل الشجر مخافة الذنب؟ قال ابن وهب: يريد يحيى بن زكريا. أقول و هذا أيضا مرسل و ذلك لأن الزهري (ابن شهاب) لم يذكر سنده إلى الرسول صلى الله عليه و سلم.


في قول زكريا: ((يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)) دلالة أن يحيى سيرث زكريا، و لكن في التفاسير يحيى مات قبل زكريا، ولا حول و لا قوة إلا بالله. و الظاهر من هذه الآية أن زكريا كان يريد من يرثه و يرث من آل يعقوب، بمعنى أن هذا سيكون له شأن خاص، فإن مات و انقطع نسله ما الذي ورثه عن أبيه زكريا؟ و لاحظ عندما جاءته الإجابة: ((يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا)) فكأنه استجاب له و خصصه بأمر اضافي و هو (لم نجعل له من قبل سميا) اختلف المفسرون في معنى (لم نجعل له من قبل سميا) فقالوا أي لم تلد مثله العواقر بمعنى لم نجعل له مثلاً ولا نظيراً و قالوا بمعنى أنه لم يجعل لزكريا من قبل يحيى ولداً و قالوا أيضا: أي لم يسم قبله باسمه أحد و هذا الأخير الذي عليه كثير من المفسرين و لكني أرجّح القول الأول و ذلك لأنه لو كان الإسم فقط ما المميز إن كان هذا الولد أول من تسمى بهذا الإسم؟ و لماذا لم يكن لآدم هذه الميزة أليس هو أول إنسان؟ و كم اليوم من البشر من اسمه يحيى. الظاهر أن هناك ميزة تميّز بها يحيى عن غيره.


لاحظ أن هذه الكلمة (سميا) وردت مرتان في القرآن، و المرتان في سورة مريم، مرة في آية يحيى و المرة الثاني في هذه الآية: ((رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَٱعْبُدْهُ وَٱصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً)) و كذلك في معنى سميا هنا اختلف المفسرون فقول المعنى مِثْلاً وشبيهاً، قاله ابن عباس ومجاهد و قالوا المعنى أنه لا أحد يُسمى الله غيره و قالوا أنه لا يستحق أحد أن يسمى إلهاً غيره و قالوا أي هل تعلم له من ولد و كذلك في هذه الأقوال أقرب الأقوال إلى الصواب قول ابن عباس. و أستبعد أن يكون المعنى أنه لا أحد يُسمى الله غيره، و ذلك لأنه حتى في عصرنا هذا نجد المعاندين من يسمي بنته الله أو ولده الله أليس كذلك، و قرأنا أخبارا كثيرة أنا و غيري مثل هذا. 


أما عن سبب تسميته بيحيى فقالوا سمي يحيى لأن الله تعالى أحياه بالإيمان والنبوة وقال آخرون سمّي بذلك لأن الله تعالى أحيا به الناس بالهدى و قالوا أيضا اشتق اسمه من اسم الله تعالى الحي فسمّي ييحيى وقيل أيضا لأنه أحيا به رحـم أمه. فكما تلاحظ حاول الناس فهم معنى الإسم و هذا جيد. عليك أن تعلم أن أسماء الأنبياء فيما علمت من استقرائي للقرآن يدل على معنى خاص من معاني النبي المسمى، فاسم يحيى لابد أنه يدل عليه، فالإسم يحيى فيه من معاني الحياة ما فيه، ما الذي تفرّد به يحيى عن غيره من البشر؟ إن قلنا إنه نجى من الذنوب و صار حيّا بسبب تركه الذنوب فمحتمل و هناك رواية ضعيفة تشهد لهذا و لكن ليس الذي أرجّحه، و قد يكون أنه نجى من القتل فيحيى و هذا محتمل و لكن هناك كثيرون غيره نجوا من الموت، فإن قيل أنه يحيى في الآخرة فكثيرون كذلك. لكن إن قلنا إنه مات في الدنيا و سيحيى مجددا في الدنيا فهنا يكون يحيى متفرّدا إلا ما ذكر الله من ذكر بعثهم بعد الموت أعني الذين كانوا مع موسى أو كالذي مر على قرية و هي خاوية على عروشها. و إن قلنا إنه لم يمت وهو حي إلى اليوم فهذا أيضا تفرّد خاص به. فإن سألت وماذا عن عيسى بن مريم؟ أليس هو حي الآن؟ أقول عيسى شأنه مختلف إذ هو كلمة من الله و روح منه و قد فصلت في هذا في الفصل السابق. 


هذا الرأي، أعني أن يحيى لم يُقتل بعد و أنه قد يكون حيا أو رُفع إلى السماء ليس رأي تفردت به بل هناك من قاله قبلي كالشيخ بسام الجرار صاحب كتاب سياحة فكر و كذلك أتباع النبي يحيى من الصابئة يؤمنون بأنه رفع إلى السماء يمكنك مراجعة ذلك في كتابهم المقدّس المسمى الكنزا ربا.


وفي ختام هذا الفصل أحب أن أقدّم فرضية جديدة و إضافة كما عوّدت قرائي أن أضيف إليهم قيمة. و أقول ماذا لو كانت آية يحيى أنه يحيى (يعيش) لا يموت، أو أنه يُقتل ثم يحيى؟ و ماذا لو كان يحيى هو نفسه المسيح المذكور في الأناجيل المتداولة اليوم، و الذي صُلب و عاد إلى الحياة بعد ثلاثة أيام و لكن شبّه لهم ذلك و خلطوا و ضلوا؟ هل يمكن أن النصارى خلطوا بين المسيح عيسى بن مريم و يحيى؟ ألم يقل هيرودوس عندما سمع بأفعال المسيح عيسى بن مريم كما في إنجيل متى في الإصحاح الرابع عشر: ((1 فِي ذلِكَ الْوَقْتِ سَمِعَ هِيرُودُسُ رَئِيسُ الرُّبْعِ خَبَرَ يَسُوعَ، 2 فَقَالَ لِغِلْمَانِهِ: «هذَا هُوَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ! وَلِذلِكَ تُعْمَلُ بِهِ الْقُوَّاتُ»)) فخلط هيروس يحيى بالمسيح و لاحظ الكلمة التي قالها: قام من الأموات يحيى! هناك أدلة كثيرة تجعلني أقول أن هناك خلط وقع عند النصارى بين يحيى و عيسى بن مريم لكن ذلك سيطول جدا و ليس غرضي في هذا الكتاب التعرّض لتلك المسألة إنما الإشارة أن المسيح المصلوب عندهم قد يكون يحيى الذي لم يمت بالصلب أو مات ثم عاد إلى الحياة يعيش لأن آيته يحيى…



عبدالعزيز النظري

تويتر

انستغرام