Monday, September 28, 2020

إبراهم و إبراهيم

 

هل سألت نفسك يوما ما سبب اختلاف رسم اسم إبراهيم في القرآن؟  إذ أننا نجد في سورة البقرة اسم إبراهيم من دون الياء و ذلك في السورة كلها، في حين أن رسم الإسم في باقي السور هي المعروفة لدينا جميعا و هي إبراهيم بالياء بعد الهاء. هذا الأمر حقيقة كان يحيّرني كثيرا و أتساءل لماذا هذا الاختلاف؟ لابد من وجود سر لكني لم أهتد إلى ذلك. طبعا عند أولئك الذين يعتبرون أن القرآن مكتوب بيد أكثر من إنسان فيمكنهم أن يقولوا أن أحدهم كتب إبراهيم و أحدهم كتب إبراهم بدون الياء و بالتأكيد هذا الاختلاف في الرسم قد يدخل شبهات في القلب. و لكن بالنسبة لي هذا لم يكن خيارا و ذلك لأني أعتبر رسم القرآن من الأمور التوقيفية، أي لا يدخلها الاجتهاد البشري. فإن كان كذلك فلابد من أمر لم أفهمه و دلالة ما غابت عني.


و هكذا لسنوات ظلّ هذا السؤال يحيرني إلى أن قرأت التوراة، و الحمدلله الذي هداني لذلك فوجدت اجابتي فيها، إذ أنك تجد في التوراة أن اسم إبراهيم كان ابراهم ثم صار ابراهام. و ذلك في سفر التكوين و إليكم النص المقصود: فَلاَ يُدْعَى اسْمُكَ بَعْدُ أَبْرَامَ بَلْ يَكُونُ اسْمُكَ إِبْرَاهِيمَ، لأَنِّي أَجْعَلُكَ أَبًا لِجُمْهُورٍ مِنَ الأُمَمِ. فكما ترون تم تغير إسم إبراهيم بل أيضا مذكور سبب التغيير، (لأني أجعلك أبا لجمهور من الأمم). فاسم إبراهيم تغير من إبراهم إلى إبراهيم و لهذا فإن في سورة البقرة تكتب إبراهيم من دون الياء للدلالة على أن إسمه تغيّر. 


و هكذا إن وجدت أي كلمة في القرآن تكتب في آية برسم و في آية أخرى برسم مختلف فاعلم أن وراء ذلك دلالة و ليس ما يتوهمه الناس من اختلاف كتّاب الوحي.


عيسى كلمة من الله و روح منه


عندما أقرأ في كتب النصارى المقدّسة و كتابات علماء النصارى، كثيرا ما يراودني هذا السؤال: ما السبب أن النصارى جعلوا من عيسى إله يُعبد من دون الله؟ سواء كان ذلك عن طريق عقيدة الثالوث أو زعم أنه ابن الله أو ما شابه ذلك من الباطل، و بما أنني قرأت الأناجيل الأربعة و قرأت ما فيها و العجائب التي قال عيسى عليه السلام عن نفسه، تعجّبت، ثم إني كثيرا ما كنت أجد في كتاباتهم أن عيسى هو كلمة الله و عن طريقه تم الخلق. لدرجة إنك إن قرأت انجيل يوحنا و هو آخر الأناجيل الأربعة، تجد فيها الكثير من المعضلات التي بحاجة إلى حل قبل أن تستطيع أن تؤمن بما تضمّنه هذا الكتاب و يبقى قلبك مطمئنا! فإن في ظاهر هذا الإنجيل بالذات الكثير من الإشكالات. على كل، في هذا الإنجيل مثلا نجد فيه أن عيسى كان كلمة، و كان الكلمة منذ البداية و كان عند الله، أن عيسى قال فيها أنه كان قبل إبراهيم وغيرها من الأمور. 


بالتأكيد هذه الكلمات كانت هدفا لغير النصارى أن يوجهوا الاتهامات إلى أن هذا الإنجيل فيه تحريف و تخاريف و هناك عدد لا أكاد أحصيه من الكتب، بعضها تنتقد هذا الكتاب و بعضها تدفع عنه الشبهات و هكذا. عن نفسي عندما قرأت ما فيها وقع في قلبي أن هناكا تحريفا و تلاعبا بالكلمات خاصة أني لم أقرأه بلغة الإنجيل الرابع الأصلي إنما قرأت ترجمات فقط و كثيرا ما كنت أدعو الله أن يريني الحق في هذه المسائل و يهديني إلى الحق فيما اختلف فيه الناس. 


حتى جاء اليوم الذي وقع في خاطري ما وقع، أكتب بعضا منها و سأعرض عن بعض. من ما وقع في خاطري ما هو معروف لدى المسلمين والنصارى و هو أن عيسى هو كلمة الله، و لكن هذه الكلمة ليست فقط كلمة عادية، إنما أقصد بأنه كلمة الله، أنه كلمة الله المتجسّد في هيئة المسيح، بمعنى، أن الله يخلق بكلماته، أليس كذلك؟ تخيّل كلمة من كلمات الله قد تجسّد و صار له وجود فيزيائي. 


دعني أوضّح لك ما أقصد، لنقل أني قلت: أنا عبدالعزيز، هذه كلمة لا تراها صحيح، إنما سمعت مني أو قرأتها فقط، و لكنك لا ترى الكلمة، صحيح؟ ما أقصده أن كلمة الله قد تجسّد و صار بإمكانك النظر إليه و بهذا لقّب عيسى بهذا اللقب العظيم كلمة الله لأنه حقا كلمته. فإن كان كذلك كان أصل المسيح كونه كلمة الله، قديما، فإن كان قديما فهذا يعني أنه قبل إبراهيم عليه السلام و ذلك لأنه كلمة الله. و بما أنه كلمة الله فهذا يعني أنه كان قريبا من الله، و به يخلق الله سبحانه و تعالى، أقصد بكلمة الله و ليس المسيح فلا تشرك بالله و انتبه جيدا إلى كلامي. الله سبحانه و تعالى يخلق بكلماته و مثل قوله (كن فيكون). و عندما أقول أن كلمة الله قديم لا يعني أن المسيح بن مريم غير مستحدث و مخلوق، كلا إنما أقول أن الكلمة دخلت و تجسّدت فيه، فهناك فرق كبير فلا تخلط كي لا توقع نفسك في شبهات لن تستطيع الخروج منها. و أما قولي أنه قبل إبراهيم و ذلك لأنه اشتهر عند النصارى أن عيسى قال أنه كان قبل إبراهيم و ذلك استشهادا بمقولة من إنجيل يوحنا الإصحاح الثامن و فيه: قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ».


ثم تأمل من هو الرسول الوحيد الذي كان بإمكانه أن يخلق بإذن الله؟ لا نعلم أحدا من رسل الله كانت له هذه الخاصية في كتاب الله غير واحد، و هو المسيح عيسى بن مريم، كلمة الله. لأنه كلمة الله استطاع أن يحيي الموتى و يخلق من الطين فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، تأمل في هذا الكلام فإن هذه الفكرة أصيلة و ثورية في دراسات مقارنات الأديان و تحل إشكالات كثيرة بين القرآن و الأقوال المنسوبة إلى المسيح عيسى بن مريم التي بأيدي النصارى اليوم.


قد تقول، لقد جئت بهذا الزعم العظيم، فما هي أدلتك من القرآن الكريم؟ نعم، مرجعنا نحن المسلمين هو كتاب الله، و هنا أدلتي من القرآن الكريم. نبدأ أولا بآية سورة آل عمران: ((إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45))) الآية صريحة أن الملائكة بشّرت مريم بأن الله يبشّرها بكلمة منه. لو قرأت في كتب التفسير لوجدت أنهم غفلوا عن المعنى الذي قلته، إنما تجدهم يقولون إن الله بشّرها برسالة، أي غلاما سيكون رسولا، و آخرين قالوا بشّرها بكلمة لأن ليس له أب، و هذا أقرب و هو قول الفخر الرازي. 


قال ابن جرير الطبري: وقوله: (بكلمة منه)، يعني برسالة من الله وخبر من عنده و في موضع آخر: سماه الله عز وجل " كلمته "، لأنه كان عن كلمته، كما يقال لما قدّر الله من شيء: " هذا قدَرُ الله وقضاؤُه "، يعنى به: هذا عن قدر الله وقضائه حدث، وكما قال جل ثناؤه: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا [سورة النساء: 47 سورة الأحزاب: 37]، يعني به: ما أمر الله به، وهو المأمور [به] الذي كان عن أمر الله عز وجل. وقال آخرون: بل هي اسم لعيسى سماه الله بها، كما سمى سائر خلقه بما شاء من الأسماء. و قال ابن كثير: أي بولد يكون وجوده بكلمة من الله، أي يقول له كن، فيكون،. و في تفسير الجلالين: { يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ } أي ولد. و قال آخرون: الكلمة اسم لعيسى، وسمي كلمة، لأنه كان عن الكلمة. وقال القاضي أبو يعلى: لأنه يهتدى به كما يهتدى بالكلمة من الله تعالى. قال الآلوسي: { يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ } كلمة ـ من ـ لابتداء الغاية مجازاً وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة ـ لكلمة ـ وإطلاق الكلمة على من أطلقت عليه باعتبار أنه خلق من غير واسطة أب بل بواسطة كن فقط على خلاف أفراد بني آدم فكان تأثير الكلمة في حقه أظهر وأكمل فهو كقولك لمن غلب عليه الجود مثلاً: محض الجود ـ وعلى ذلك أكثر المفسرين  


و عندي أحسن و أقرب الأقوال إلى الصواب من المفسرين هو قول ابن عاشور، إذ قال عندما توقّف عند هذه الآية: والكلمة مراد بها كلمة التكوين وهي تعلق القدرة التنجيزي كما في حديث خلق الإنسان من قوله «ويؤمر بأرْبَع كَلِمَات بكتب رزقه وأجله» إلخ. ووصف عيسى بكلمة مراد به كلمة خاصة مخالفة للمعتاد في تكوين الجنين أي بدون الأسباب المعتادة. وقوله { منه } مِن للابتداء المجازي أي بدون واسطة أسباب النسل المعتادة وقد دلّ على ذلك قوله (إذا قضى أمراً)


و أما ابن عباس رضي الله عنهما فإنه أصاب، و من أجل مثل هذا تعرف لِمَ كان يلقب ابن عباس رضي الله عنهما بالبحر، إذ قال: قال: عيسى هو الكلمة من الله. و هذا صحيح و لكن المفسرين و العلماء لعلهم لم يفهموه جيدا. 


لاحظ الفرق بين بشارة مريم و بشارة زكريا، في بشارة مريم: ((إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45))) و في بشارة زكريا: ((فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ)) و في سورة مريم: ((يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا)) 


لاحظ الفرق، بالنسبة للمسيح قال بكلمة منه، أما في بشارة زكريا (يبشرك بيحيى مصدّقا بكلمة من الله)، إذن هناك فرق جوهري بين الإثنين أعني عيسى و يحيى. عيسى هو كلمة من الله، و تأمل قوله بكلمة منه؟ منه عائدة لمن؟ أليس لله عز و جل؟ و تأمل، قال اسمه و لم يقل اسمها، فالهاء عائدة إلى من؟ إلى الكلمة… و قد أطال اللغويين في سبب ذلك، و لكن الاجابة اليسيرة إن أنت فهمت أن عيسى هو الكلمة، فإن الكلمة كيان. و إن قلت أن المخلوقات كلها خلقت بكلمات الله أو بكلمة كن أو ما شابه ذلك، أقول إن تخصيص القرآن عيسى بن مريم أنه كلمة الله من دون العالمين يدل أن له شأن آخر، شأن خاص، فيها ما فيها.


 و بما أن المسيح كلمة الله فلهذا لم يذنب قط و ليس بين أيدينا لا في قرآن و لا في كتاب سابق و لا في تراث أنه أخطأ، و جميعنا يعرف الحديث الذي كنا نسمعه منذ صغرنا، و الذي نجده في صحيح مسلم: يَجْمَعُ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى النَّاسَ، فَيَقُومُ المُؤْمِنُونَ حتَّى تُزْلَفَ لهمُ الجَنَّةُ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فيَقولونَ: يا أبانا، اسْتَفْتِحْ لنا الجَنَّةَ، فيَقولُ: وهلْ أخْرَجَكُمْ مِنَ الجَنَّةِ إلَّا خَطِيئَةُ أبِيكُمْ آدَمَ، لَسْتُ بصاحِبِ ذلكَ، اذْهَبُوا إلى ابْنِي إبْراهِيمَ خَلِيلِ اللهِ، قالَ: فيَقولُ إبْراهِيمُ: لَسْتُ بصاحِبِ ذلكَ، إنَّما كُنْتُ خَلِيلًا مِن وراءَ وراءَ، اعْمِدُوا إلى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ الذي كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا، فَيَأْتُونَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فيَقولُ: لَسْتُ بصاحِبِ ذلكَ، اذْهَبُوا إلى عِيسَى كَلِمَةِ اللهِ ورُوحِهِ، فيَقولُ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: لَسْتُ بصاحِبِ ذلكَ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَيَقُومُ فيُؤْذَنُ له، وتُرْسَلُ الأمانَةُ والرَّحِمُ، فَتَقُومانِ جَنَبَتَيِ الصِّراطِ يَمِينًا وشِمالًا، فَيَمُرُّ أوَّلُكُمْ كالْبَرْقِ قالَ: قُلتُ: بأَبِي أنْتَ وأُمِّي أيُّ شيءٍ كَمَرِّ البَرْقِ؟ قالَ: ألَمْ تَرَوْا إلى البَرْقِ كيفَ يَمُرُّ ويَرْجِعُ في طَرْفَةِ عَيْنٍ؟ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وشَدِّ الرِّجالِ، تَجْرِي بهِمْ أعْمالُهُمْ ونَبِيُّكُمْ قائِمٌ علَى الصِّراطِ يقولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، حتَّى تَعْجِزَ أعْمالُ العِبادِ، حتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فلا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إلَّا زَحْفًا، قالَ: وفي حافَتَيِ الصِّراطِ كَلالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بأَخْذِ مَنِ اُمِرَتْ به، فَمَخْدُوشٌ ناجٍ، ومَكْدُوسٌ في النَّارِ. والذي نَفْسُ أبِي هُرَيْرَةَ بيَدِهِ إنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعُونَ خَرِيفًا.


تأمل قول موسى عن عيسى: (اذهبوا إلى عيسى كلمة الله و روحه) و أيضا أذكر الرواية التي فيها أن الأنبياء ذكروا أخطاء أو ذنوب وقعوا فيها فيتعذّرون إلا المسيح بن مريم فإنه لا يذكر ذنبا. و كثيرا ما نجد في كتابات النصارى أنهم يزعمون أن المسيح بن مريم لم يذنب قط و الأنبياء غيره أخطؤوا و مثل هذا نجد في بعض المرويات الأخبار عندنا كذلك. السؤال هل هذا يُستغرب منه؟ بالنسبة لي لا، و ذلك لأنه كلمة الله، و بما أنه الكلمة فلن يُذنب، و لا ينبغي له أن يذنب، و بما أنه الكلمة تكلّم في المهد، و بما أنه الكلمة، فإنه رُفع فتأمل. و قارن هذا بالحديث المنسوب إلى الرسول صلى الله عليه و سلم في رفع القرآن أو العلم آخر الزمان.


و عودة إلى القرآن الكريم و دليل آخر أن المسيح بن مريم هو كلمة الله، نجد في سورة النساء هذه الآية العظيمة: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلً))


هنا وجدنا أن الله عز و جل أثبت مرة أخرى أن المسيح كلمته بل فصّل قائلا (كلمته ألقاها إلى مريم). تأمل كيف أن الله أضاف بعد كلمته ألقاها ما فائدة ألقاها؟ لابد من وجود فائدة، أن هذه الكلمة كانت عنده أو كانت موجودة قبل أن توجد في مريم، أقصد أن كان للكلمة كيان قبل ذلك ثم ألقاها الله سبحانه و تعالى إلى مريم. فعيسى هو رسول و هو كلمة من الله و روح منه. 


ثم تأمل قوله روح منه، و اقرأ هذه الآية: ((فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)) و قوله: ((وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)) و قوله عن عيسى ابن مريم: ((وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)) انتبه لقوله (فأنفخ فيه) لتعرف علاقة الروح بالنفخ. و تأمل قول الله عز و جل: ((وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ۖ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ)) ما معنى روح القدس؟ و ما الذي نجده في كتب النصارى يتماشى مع هذا من غير أن يُعارضه؟ نعم لقد أحسنت، المقصود Holy Spirit


فإذن عيسى بن مريم مكوّن من ثلاثة أشياء، المشكلة في النصارى أنهم جعلوا هذه الثلاثة أشياء هو الله سبحانه و تعالى، أو أجزاء منه و لم يفرقوا بين الكلمة و مصدر الكلمة. دعني أوضّح لك ذلك، هل إذا قلت: أنا عبدالعزيز هل كلمة أنا عبدالعزيز هي أنا ذاتي؟ بالتأكيد لا! لكن النصارى أخطؤوا عندما جعلوا الكلمة هو الله، و الروح هو الله و بما أنه فيه هذان الإثنان قالوا إن المسيح هو الله و هكذا وقعوا في الضلال المبين و يقولون The Father, The Son and The Holy Spirit.. أما الحق أن المسيح عيسى بن مريم خلقه من تراب و رسول من الله، و هو أيضا كلمة من الله (متجسّدا فيه) و هو روح من الله و هذا فرق كبير و بهذا أظن أني قاربت السبب و الموقع الذي ضلّ فيه النصارى. 


و بهذه الأدلة نقول إن قالوا إن المسيح كلمة الله قال عن نفسه أنه كان قبل إبراهيم خليل الله فإنه لا إشكال في ذلك، و إن قالوا عنه في الأناجيل أنه كلمة الله فإنهم صدقوا كذلك، و إن قالوا إن الخلق سبب كلمات الله فصدقوا أما إن قالوا أن كلمات الله هي ذات الله فعندها قد وقعوا في الضلال المبين.


Tuesday, September 22, 2020

هل التوراة محرّفة؟

 هل التوراة محرّفة أم لا، منذ سنوات عديدة و قد حبب إلي النظر في التوراة الموجودة اليوم، و كثيرا ما أقول أن في التوراة كذا و كذا، و كثيرا ما أجدني في صدام مع الناس أو توبيخ منهم لي بسبب نظري في هذا الكتاب، و بالتأكيد يشمل ذلك ما يكرره المسلمون منذ مئات السنين أن التوراة الذي بين أيدي اليهود محرفة، بل حتى من أيام المدرسة كانوا يعلموننا أن التوراة محرّفة، صحيح أن فيها بعض الحقائق إلا أن فيها من التحريف ما فيها، هكذا كانوا يقولون لنا. فقررت أن أبحث المسألة باستقلالية و بعيدا عن التعصّب فوجدت بعد البحث أن ادعاء التوراة كتاب محرّف ليس هناك دليل من القرآن عليه. و لا أخفيكم أني فرحت عندما لم أجد دليلا على أن التوراة محرّفة، و ذلك لأني أجدني أحب هذا الكتاب، أولا لكونه كتاب أنزله الله سبحانه و تعالى و ثانيا أحب أن أي كتاب أو نص له علاقة بالله سبحانه و تعالى و المرسلين. 


بالتأكيد أن أقول اليوم أن التوراة غير محرّفة تعتبر كبيرة في الأوساط الاجتماعية العربية التي نحن فيها، و لكن سأثبت لك عزيزي القارئ بأن ما يأتون به من الأدلة على تحريف التوراة من القرآن ليست قوية. و قبل أن أبدأ أحب أن أنوّه أني لا أزعم أنه ليس هناك تحريف في ترجمات التوراة إنما أزعم أن التوراة الغير مترجمة، هي التي ليست محرّفة. لنستعرض أدلة القائلين بأن التوراة محرّفة.


يستدل كثير من الناس على أن التوراة محرّفة من قول الله عز و جل: ((أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) وقول الله عز وجل: ((يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ))


((قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا))


((الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ))


((وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ))


هذه الآيات معروفة لدينا و لكن انتبه إلى أن ليس فيها أي دليل على أن التوراة مُحرفة، ففي الآية أنهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه، و ليس فيها أنهم حرفوا التوراة بذاتها


كذلك هذه الآيات مثل الآية التي ذكرتها مُسبقا، ليس فيها و لا حتى دليل واحد صريح بأن التوراة مُحرّفة، إنما قال الرب إنهم يُخفون كثيرا من الكتاب الذي جاء به موسى و أنهم كانوا يكتمون الحق. لِنَقُلْ إن أحبار اليهود و الرهبان بالفعل فعلوا ذلك، لكن ذلك لا يدل على أن الموجود بين أيدينا اليوم من التوراة محرف كذلك! فليس في الآيات التي ذكرتها أي دليل على التحريف. دعني أضرب لك مثلا لعلك تعقل عني، لنفترض أن لدي مائة قطعة نقدية و أنا أعطيتك منها فقط تسعين و أبقيت عشرة منها عندي، فهل هذا يعني أن القطع التسعين التي أعطيتك إياها فاسدة؟


دعونا نتأمل ما قاله الله سبحانه و تعالى عن التوراة:

((وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ)) 

((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ))

((قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) 


فإن كانت التوراة محرفة كما يدّعون لم يكن الرب ينزل في كتابه هذه الآيات! فإنه العليم، يعلم ما حدث في الماضي و في الحاضر و في المستقبل، فإن وقع التحريف حقا، فإن الله يعلمه فإن كان يعلم ذلك فلِمَ أوحى إلى نبيه بهذه الآيات التي نجدها في القرآن و التي ترفع من شأن التوراة، بل تؤكد وجود ذكر النبي محمد صلى الله عليه و سلم الذي يجدونه مكتوبا عندهم. بكل سهولة كان بإمكانهم أن يقولوا إنا لا نجد ذكر الرسول صلى الله عليه و سلم، و كانت هذه ستكون حجة لليهود على الرسول الكريم أيامها إلا أنها لم تكن كذلك مما يدل إما على أنها موجودة أو أنهم أخفوها، و الإثنان لا يعني التحريف فيما هو موجود و مكشوف لدى الناس من التوراة أيامها. ليس هذا فحسب، بل لو كانت محرّفة و يمكن تحريفها بالسهولة التي يحسبها بعض المسلمين، لكن بإمكانهم أن يحرّفوا التوراة و يقيموا التوراة المحرّفة، فإن كان بإمكانهم ذلك لم يكن الله ليقول (لستم على شيء حتى تقيموا التوراة) أو ليقول (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) فإن كان بالفعل محرّفا لأتوا و تحدوا الرسول صلى الله عليه و سلم و بما أنهم لم يفعلوا علمنا أنها ليست محرّفة و لم يكن باستطاعتهم تحريفها أصلا.


تأمل هذه الآيات من سورة القصص: 


((فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ ۖ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) ))


الله سبحانه و تعالى الذي يعلم ما سيكون في المستقبل يقول متحدّيا: (قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) ما المقصود بمنهما على حسب السياق؟ أليس القرآن و التوراة؟ فإن كانت التوراة محرّفة و فيها من الأباطيل ما فيها كما يزعمون، فكيف إذن يجعل الله هذا الكتاب بهذه المكانة الرفيعة بحيث أنه ليس هناك أهدى منهما يمكن للرسول الكريم أن يتبعه يومها. 


بل إنك إن تتبعت الآيات التي فيها ذكر التوراة، لن تجد فيها ذم للتوراة أو تنقّص أو أي شيء من هذا القبيل، بل العكس تماما إذ تجدها في مقام تكريم و رفعة. 


المصيبة عندما يدّعي بعض المفسرين أن المقصود بالكتاب في قوله سبحانه و تعالى: الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2))) هو التوراة ثم يزعمون أنّها محرّفة! تأمل شؤم التقليد وما يؤدي إلى نتائج تخزي صاحبها و الله المستعان.


أمرنا الله سبحانه و تعالى فقال: ((وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ))


و في هذه الآية كذلك: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً))


ماذا قال لنا ربنا؟ آمنا بالذي أنزل إلينا و أنزل إليكم، أليس كذلك؟ ما الذي أنزل إليهم؟ التوراة، أليس كذلك؟ فإن كان الذي أنزل على أهل الكتاب محرّف لا يمكن تصديقه و لا يمكن تكذيبه، فلم أمرنا الله سبحانه أن نقول آمنا بالذي أنزل إلينا و أنزل إليكم. هل يصح أن نقول نحن نؤمن بالقرآن إن كان في القرآن هناك تحريف و خلل؟ لا يصح الإيمان بالكل وقتها، بل سنضطر أن نقول نؤمن ببعض و نكفر ببعض، و الآن هذه الحالة حالة من!؟ أقصد الذي يؤمن ببعض و يكفر ببعض؟ نعم إنه من عمل الكفار، تأمل قول الله سبحانه و تعالى:


((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ))


((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا))


أما المؤمن فحاله كما ذكر الله سبحانه و تعالى في هذه الآية: ((وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ))


أما إن قال لك متعنّت فقال إن الإيمان المطلوب هو فقط الإيمان بأن الله أنزل الكتاب، نقول له إما أن تأتي بالدليل على كلامك و إما أن ننصحه فنقول له: ((وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)) و ذلك لأننا عندما نقول نحن مطالبين بالإيمان بالقرآن، هل نقل فقط الإيمان بأن الله نزّل كتابا على الرسول النبي محمد صلى الله عليه و سلم؟ أم أن الإيمان بهذا الكتاب يلزم الإيمان بكل ما فيه جملة و تفصيلا؟ بالتأكيد الأخير. 


ثم ما الدليل أن الله لم يحفظ التوراة كما حفظ الذكر؟ هل هناك أدلة على ذلك، لا يوجد أي دليل. أيها الإخوة، كما أن الرسول صلى الله عليه و سلم يصدّق من سبقه من المرسلين فإن القرآن مصدّق للتوراة و الإنجيل. و كما أننا نؤمن برسله لا نفرّق بين أحد منهم كذلك علينا أن نؤمن بكتب الله لا نقول فيها أنّها محرّفة من دون وحي من الله و برهان من كتابه. علينا أن نتأدب قليلا مع ما أنزل الله عز و جل. 


السؤال الذي سيرد هو أين هذه التوراة التي تقول عنها أنها ليست محرّفة؟ الإجابة عن هذا السؤال هو أن المقصود بالتوراة غير المحرّفة التوراة التي لم تفسدها الترجمات، التوراة التي نزلت بالعبرية، الكتب الخمسى الأولى التي يقدّسها اليهود، و ليست ترجماتها الإنجليزية أو العربية و ما إلى ذلك. فإن الترجمات أحيانا تغيّر المعنى حتى في القرآن الكريم، فمثلا تجد الآية الخامسة من سورة يونس: 


((هو الذي جعل الشمس ضياء و القمر نورا)) نجد في الترجمة ”Sahih International“ هذه الترجمة التي تغيّر المعنى:


“It is He who made the sun a shining light and the moon a derived light”


أرأيت كيف جعل قول الله القمر نورا، إلى أن القمر نوره مأخوذ في قوله Derived Light أليس هذا من تغيير المعنى؟ بالتأكيد لا أظن أن المترجم قصد ذلك، إنما بسبب معتقداته المسبقة و ما يؤمن به قرر أن يوضّح المعنى بأنه نور القمر من الشمس و ليس ذاتيا، ولكن الله عز و جل في كتابه لم يقل ذلك إنما قال القمر نورا. و سأرجع إلى مسألة القمر في فصل آخر من فصول هذا الكتاب إنما هذا مثال كيف أن حتى ترجمات القرآن قد تغيّر من المعنى، فما بالك بترجمات قديمة و غير دقيقة للتوراة؟ 


فإن قلت فما بال النصوص التي فيها تنقيص من جلال الرب سبحانه أو التقليل من شأن الأنبياء بذكر أخطائهم، أقول أن النصوص التي يُفهم منها أنه تنقيص من جلال الرب ارجع إلى التوراة العبرية الأصلية لتكتشف أن كثيرا منها أصلا ليس بتقليل من شأن الله عز و جل إنما ترجمة ضعيفة، فمثلا موضوع استراحة الله، لو أنك رجعت إلى التوراة العبرية و قرأت فيها لعلمت أنه في اليوم السابع توقف عن الخلق أو انتهى خلقه عن السماوات و الأرض، و ليس فيها أنه استراح، لكن للأسف الترجمة الإنجليزية و العربية بالفعل فيها هذه الأخطاء في الترجمة، و فرق كبير جدا بين الاستراحة و التوقّف عن الخلق أو اكتمال الخلق في اليوم السابع و هكذا أكثر النصوص. و بما أن ترجمات التوراة قد توحي بهذا المعنى و صار متداولا بين الناس و منتشرا حتى قبل الإسلام، نجد أن الله يبين في أكثر من آية أنه خلق السماوات و الأرض من دون الحاجة إلى الراحة أو أي شيء من هذا القبيل، مثل قوله عز و جل:


((وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ))


فإن قلت بأنه ما قال هذا إلا لأن التوراة محرّفة أقول لك لم تصب، بل العكس، هذه الآية في القرآن دليل على أن المسلمين و غير المسلمين الزاعمين بأن التوراة محرّفة لم يفهموا التوراة جيدا و زعموا أن فيها أن الله استراح و ذلك اتباعا منهم لترجمات التوراة، و إلا فإننا جميعا نعلم أن القرآن مصدّق للتوراة، و بما أنه في القرآن هذه الآية العظيمة التي فيها ذكر خلق السماوات و الأرض من دون أن يمسّه لغوب فلزاما ما في التوراة ليس فيها ما حسبه الناس و إلا صار القرآن مكذّبا للتوراة و ليس مصدّقا لها. 


ثم تأمل قول المسيح الذي: ((وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)) فهذا يدل أن التوراة لم تكن محرّفة لا قبل المسيح و لا زمن المسيح و لا أيام الرسول صلى الله عليه و سلم. فكتاب لم يتم تحريفه لأكثر من مئات السنين إذ أن المسيح قد صدّق التوراة التي كانت في زمنه و الله أعلم منذ متى كانت على حالها من قبل المسيح، ثم من زمن المسيح إلى زمن الرسول ما هي المدة؟ فإن كانت التوراة محفوظة و غير محرّفة كل تلك السنوات ما بالها تم تحريفها بعد ذلك و خاصة أن المتوقع انتشاره و معرفة الناس به؟ فإن التوراة لم تحرّف زمن خلاف اليهود و النصارى قبل الإسلام بالرغم من الدوافع الكثيرة للتلاعب بها و بالرغم من ذلك فإن النصارى يؤمنون بالتوراة و أنّها غير محرّفة. إن كان التحريف ممكنا فلم لم يحرّف اليهود النصوص التي فيها ذكر مخازيهم و التي هي مذكورة كذلك في القرآن؟ أليس من الأفضل تحريف تلك النصوص كي لا يكون كتابهم شاهدا عليهم و مستنكرا عليهم أفعالهم، و خاصة أن المحرّف الذي يحرّف لن يكون إنسانا يحبّ الكتاب و يعظّمه حق تعظيمه، و إلا لو كان المحرّف بحق يعظّم كتابه ما كان ليجرؤ على أن يُفكّر في تحريفه، كل هذا يدل على أن هناك خللا في تفكيرنا عندما نقول أن التوراة محرّفة.


فإن قلت إن التحريف وقع بعد زمن الرسول صلى الله عليه و سلم، فارجع إلى ما قلته بأن الله الحكيم العليم يعلم ما سيقع في المستقبل فإن علم أن التحريف سيقع فما بال الآيات التي ذكرت، ليس هذا فحسب بل تأمل قول الله سبحانه و تعالى في سورة المائدة و هي من آخر ما أنزل من القرآن كما يعلمه الدارسون لعلوم القرآن، نجد في السورة: ((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)) و بما أن كثيرا منا يثق بما قاله المفسرون، دعونا نقرأ ما قاله ابن جرير الطبري في هذه الآية:


(ومهيمنًا عليه)، يقول: أنـزلنا الكتاب الذي أنـزلناه إليك، يا محمد، مصدّقًا للكتب قبله، وشهيدًا عليها أنها حق من عند الله، أمينًا عليها، حافظا لها. * * * وأصل " الهيمنة "، الحفظ والارتقاب. يقال، إذا رَقَب الرجل الشيء وحفظه وشَهِده: " قد هيمن فلان عليه، فهو يُهَيمن هيمنة، وهو عليه مهيمن ”“ 


و أنقل لكم كلام ابن كثير:


وقوله : ( ومهيمنا عليه ) قال سفيان الثوري وغيره ، عن أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس أي : مؤتمنا عليه . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : المهيمن : الأمين ، قال : القرآن أمين على كل كتاب قبله . وروي عن عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحمد بن كعب وعطية والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسدي وابن زيد نحو ذلك . وقال ابن جريج : القرآن أمين على الكتب المتقدمة ، فما وافقه منها فهو حق ، وما خالفه منها فهو باطل . وعن الوالبي ، عن ابن عباس : ( ومهيمنا ) أي : شهيدا . وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي . وقال العوفي عن ابن عباس : ( ومهيمنا ) أي : حاكما على ما قبله من الكتب . وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى ، فإن اسم " المهيمن " يتضمن هذا كله ، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله ، جعل الله هذا الكتاب العظيم ، الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها ، أشملها وأعظمها وأحكمها حيث جمع فيه محاسن ما قبله ، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره ; فلهذا جعله شاهدا وأمينا وحاكما عليها كلها.


قال السدي في تفسيره مهيمنا عليه: شهيدا عليه و قال قتادة: أمينًا وشاهدًا على الكتب التي خلت قبله و قال سعيد بن جبير: مؤتمنًا على ما قبله من الكتب. و قال ابن زيد: مصدِّقًا عليه. كل شيء أنـزله الله من توراة أو إنجيل أو زَبُورٍ، فالقرآن مصدِّق على ذلك. وكل شيء ذكر الله في القرآن، فهو مصدِّقٌ عليها وعلى ما حُدِّث عنها أنه حق. و قال عكرمة: مؤتمنًا عليه.


فإن كان ما قاله المفسرون صحيحا فكيف إذن نقول أن التوراة محرّفة و القرآن مؤتمن و شاهد عليه و ما إلى ذلك من المعاني التي ذكرت، ألسنا بهذا القول نكون قد قللنا من شأن القرآن في كونه مهيمنا على الكتب السابقة؟ أعط هذا الكلام حقّه من التأمل لتفهم الذي أقصده. 


ليس هذا فحسب، عد إلى الآية التي فيها ذكر الهيمنة، و اقرأ أواخرها: ((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)) تأمل قول الله العظيم لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا، و جميعنا يعلم أن الكتاب المنزّل هو الذي يحتوي على الشرعة و المنهاج، فإن كانت التوراة محرّفة فهل كان الله سيجعلها شرعة و منهاجا لهم؟


ثم عليك أن تعلم أن الله ينكر على أهل الكتاب أو من سبقونا ما هو شائع بينهم و ليس ما هو مكتوب فقط، على سبيل المثال، عندما أنكر الله عقيدة التثليث قال:


((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا))


لو أنك قرأت ما في أيدي أهل الكتاب من الكتاب الذي يسمونه المقدّس أو البايبل من الصفحة الأولى إلى الأخيرة لن تجد فيها عقيدة التثليث و لكن نجد أن الله أنكر عليهم ذلك، و السبب تداول هذه العقائد و الأفكار الفاسدة. و هكذا خذ كل نص يستنكره المسلمون و غير المسلمون على التوراة و أن فيها تقليل من شأن الله ستجد أن الأمر بخلاف ما ظنوا و زعموا و لكن أنت بحاجة لتعرف أن تقرأ التوراة باللغة العبرية و تكون على دراية بتفاسيرها فإن فيها شرحا للكلمات العبرية و فيم تستخدم وما إلى ذلك. فإن المسلم اليوم إن قرأ قول الله عز وجل: 


((فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ))


قد يظن أن الله آسف على ما فعله قوم نوح، و لكن عندما يفهم معنى الكلمة باللغة العربية و موارد استخدامها يدرك المعنى، فكذلك افعل مع التوراة. 


أما فيما يتعلّق بالأنبياء و ذكر أشياء قد تعيبهم، فنعم هناك شيء من ذلك عن بعض الأنبياء، و لكن علينا أن نفهم أن عصمة الأنبياء و أنهم لا يذنبون و يخطؤون ليست من المسائل العقدية المجمع عليها عند المسلمين قبل أن يكون ذلك عند أهل الكتاب. و لست أجدني مضطرا لأستعرض الخلاف في المسألة عند المسلمين، فإن المسألة أبين في كتاب الله من استعراض الخلاف، فكم آية فيها ذكر لخطأ وقع فيه نبي، من آدم و يونس بل حتى الرسول صلى الله عليه و سلم وهذا مشهور و متداول بين الناس، فإن كان كذلك و علمت أن الأنبياء ليسوا بمعصومين، علمت أن ذكر أخطاء الأنبياء لا يعني بالضرورة أن التوراة محرّفة من أجل ذلك. 


فإن قلت ما سبب ذكر الله عز وجل أخطاء الأنبياء في كتبه، الإجابة يسيرة و ذلك لنعتبر، فإن الله لا يذكر محاسن الأولين و قصصهم للاعتبار فقط بل حتى الأخطاء فإننا جميعا من البشر، و يعترينا ما اعتراهم، فعندما نتعلّم من التاريخ نتيجة الأفعال الخاطئة الأجدر بنا أن نعتبر. ثم إنه بذكر هذه الأخطاء تعرف أن الأنبياء غير الله عز و جل، فلا يتم تقديسهم و رفعهم إلى مقام يعبدهم الناس و غير ذلك من الحكم التي من أجلها قد تجد أن في الكتب التي أنزلها الله ذكر لأخطاء الأنبياء. و من قرأ تفاسير التوراة لوجد الكثير من الحكم الجميلة و الفوائد الخفية من تدوين هذه الأمور التي قد لا تعجبنا و لكن الأمر لله من قبل و من بعد. 


على كل لن أستطيع أن أقف عند كل نص استنكره المسلمون على التوراة و جعلوها محرّفة من أجلها، فإن ذلك يطول و بحاجة إلى كتاب أو كتب كما أن لدينا كتب في دفع شبهات غير المسلمين عن القرآن. و كما أن المسلمين اليوم عندما تأتيهم الشبهة من هنا و هناك يعودون لعلمائهم و العالمين بالقرآن للرد عليها، فكذلك التوراة، لا يصلح أن تدفع الشبهات الموجهّة للتوراة بكلام كارهي التوراة، بل عليك أن تقرأ ما يقوله علماء التوراة و الخبراء فيها لتجد الإجابة المناسبة.


و بما أن كثير من المسلمين، يُقدّمون كلام ابن تيمية لم له المكانة السامية في قلوبهم، لننقل نقله للخلاف في المسألة، هل التوراة محرّفة أم لا. قال في مجموع الفتاوى: قِيلَ : لَيْسَ فِي الْعَالِمِ نُسْخَةٌ بِنَفْسِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ؛ بَلْ ذَلِكَ مُبَدَّلٌ ؛ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ انْقَطَعَ تَوَاتُرُهَا، وَالْإِنْجِيلَ إنَّمَا أُخِذَ عَنْ أَرْبَعَةٍ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ أَوْ الْإِنْجِيلِ بَاطِلٌ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ ذَلِكَ قَلِيلٌ . وَقِيلَ لَمْ يُحَرِّفْ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ حُرُوفِ الْكُتُبِ وَإِنَّمَا حَرَّفُوا مَعَانِيَهَا بِالتَّأْوِيلِ ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ قَالَ كُلًّا مِنْهُمَا كَثِيرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ الثَّالِث ُ، وَهُوَ أَنَّ فِي الْأَرْضِ نُسَخًا صَحِيحَةً وَبَقِيَتْ إلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُسَخًا كَثِيرَةً مُحَرَّفَةً. ما يهمني في هذا النص المنقول أنه أثبت أن كثيرا من المسلمين على أنه لم يُحرّف أحد شيئا من حروف الكتب و إنما حرّفوا معانيها بالتأويل، و هذا الذي أنا عليه، حرّفوها بالتفسير كما يفعل كثير من المسلمين اليوم مع القرآن، يحّرفونها لا تغييرا للحروف إنما عن طريق التفاسير التي تتفّق مع أهوائهم و أمثلة ذلك كثير جدا يصعب على الحصر.


و أخيرا أعيد نقل هذه الآية العظيمة: 


((كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ))


لاحظ كيف أن الله نفى عنهم الإيمان لأنهم تركوا التوراة و جعلوا الرسول صلى الله عليه و سلم حكما في المسألة، ففي هذه الآية من البيان على عظيم شأن التوراة و أخيرا أكتفي بهذه الآية: ((إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ))


Wednesday, September 9, 2020

من هو ذو القرنين؟

 فصل: من هو ذو القرنين؟


من هو ذو القرنين المذكور في سورة الكهف؟ لعل موضوع هوية ذو القرنين من أكثر المواضيع الذي تناوله المسلمون بحثا. اختلف الناس قديما و حديثا حوله، و لست في هذا الفصل أتعرّض للخلاف الذي حوله أهو من الأنبياء المرسلين أم لا أو عن السبب الذي من أجله سمي ذو القرنين، ما يهمني في هذا الفصل أن أكتب عن هويته و ما قيل في هويته قديما و حديثا. 


فأما قديما فقيل هو عبدالله بن الضحّاك و جعله البعض الضحّاك الحميري الذي ملك اليمن الجزيرة العربية و ملك بابل و فارس. و هو نفسه الذي يُلقّب بيوراسب و يسمى بالفارسية أزدهاق أي الضحاك. و هو من أهم الشخصيات الفارسية الأسطورية و له ذكر في كتاب الأفيستاأو كما يسميه العرب الأبستاق و هو الكتاب المقدّس لدى الديانة الزدشتية و كذلك من شخصيات ملحمة الشاهنامة المعروفة. ذكره الكثير من المؤرخين في كتبهم، فعند ابن الأثير في الكامل في التاريخ نجد ذكره: ذكر بيوراسب وهو الازدهاق الذي يسميه العرب الضحاك وأهل اليمن يدعون أن الضحاك منهم وأنه أول الفراعنة وكان ملك مصر لما قدمها إبراهيم الخليل والفرس تذكر أنه منهم وتنسبه إليهم وأنه بيوراسب بن ارونداسب بن رينكار بن وندريشتك بن يارين بن فروال بن سيامك بن ميشى بن جيومرث ومنهم من ينسبه هذه النسبة وزعم أهل الأخبار انه ملك الأقاليم السبعة وأنه كان ساحرا فاجرا. قال هشام بن الكلبي: ملك الضحاك بعد جم فيما يزعمون والله أعلم ألف سنة ونزل السواد في قرية لها برس في ناحية طريق الكوفة وملك الأرض كلها وسار بالفجور والعسف وبسط يده في القتل وكان أول من سن الصلب والقطع وأول من وضع العشور وضرب الدراهم وأول من تغنى وغني له قال: وبلغنا أن الضحاك هو نمرود، وأن إبراهيم عليه السلام ولد في زمانه وأنه صاحبه الذي أراد إحراقه. وتزعم الفرس أن الملك لم يكن إلا للبطن الذي منه أوشهنج وجم وطهمورث وأن الضحاك كان غاضبا وأنه غضب أهل الأرض بسحره وخبثه وهول عليهم بالحيتين اللتين كانتا على منكبيه. و للاستزادة من قصته يمكنكم مراجعة كتاب تاريخ الطبري و الكامل في التاريخ لابن الأثير أو كتاب الأخبار الطوال الدينوري و غيرها من كتب التاريخ التراثية و هي متوفّرة على الشبكة و يمكن الوصول إليها بيسر و الحمدلله. و منهم من قال هذا الضحّاك هو نفسه النمرود بن كنعان إلا أن الطبري ردّ هذا الرأي.


في كونه الضحّاك الحميري ينسب إلى تبع الحميري :  

قد كان ذو القرنين قبلي مسلما  ملكا تدين له الملوك وتحشد 

من بعده بلقيس كانت عمتي  ملكتهم حتى أتاها الهدهد 


و نسب لأحدهم أيضا:

سموا لنا واحدا منكم فنعرفه  في الجاهلية لاسم الملك محتملا 

كالتبعين وذي القرنين يقبله  أهل الحجا وأحق القول ما قبلا


و قيل هو فريدون بن اثفيان بن جمشيد خامس ملوك الفرس الفيشدادية و هو من الملوك الذين لهم ذكر في الكتب المقدسة  الفارسية كالأفيستا و الهندية كالفيدا و نجد له ذكرا في ملحمة الشاهنامة و عدد من الأساطير و الخرافات الفارسية و الهندية.


و قالوا أيضا هو رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مردبة اليوناني ولد يونان بن يافث بن نوح. 


و قيل هو الصعب بن جابر بن القلمس و استشهدوا بأشعار الجاهلية في ذلك فقالوا:

قال أعشى بن ثعلبة :  

والصعب ذو القرنين أمسى ثاويا  بالحنو في جدث هناك مقيم


وقال الربيع بن ضبيع :  

والصعب ذو القرنين عمر ملكه  ألفين أمسى بعد ذاك رميما 


وقال قس بن ساعدة :  

والصعب ذو القرنين أصبح ثاويا  باللحد بين ملاعب الأرياح 


و قد رجّح ابن حجر صاحب فتح الباري شرح صحيح البخاري أنه من العرب لكثرة ذكر اسمه في أشعارهم و رجّح اسمه الصعب فيما بدا لي. 


و قيل هو عيِّاش ذكر ذكر ابن الجوزي في تفسيره و نسب هذا القول إلى محمد بن علي بن الحسين.


وقيل: مصعب بن عبد الله بن قينان بن منصور بن عبد الله بن الأزد بن عون بن زيد بن كهلان بن سبا بن يعرب بن قحطان


و قيل هو الهميسع ذكره الهمداني و كنيته أبو الصعب و هو بن عمرو بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ و قيل بن عبدالله بن قرين بن منصور بن عبدالله بن الأزد. ذكر هذه الأقوال ابن حجر في كتابه الضخم فتح الباري.


و قيل هو هَرْمَسُ أو هِرْديسُ من ولد يونان بن يافث بن نوح.  


و قيل هو مَلَك من الملائكة و لم يعبأ بهذا القول أكثر الناقلين، نجد في تفسير روح المعاني للآلوسي: قيل: هو ملك أهبطه الله تعالى إلى الأرض وآتاه من كل شيء سبباً وروي ذلك عن جبير بن نفير، واستدل على ذلك بما أخرجه ابن عبد الحكم وابن المنذر وابن أبـي حاتم وابن الأنباري في كتاب «الأضداد» وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلاً ينادي بمنى ياذا القرنين فقال له عمر: ها أنتم قد سميتم بأسماء الأنبياء فما لكم وأسماء الملائكة 


و في كتاب  الآثار الباقية عن القرون الخالية لأبي الريحان البيروني: قيل: إن ذا القرنين هو أبو كرب شمر بن عبير بن أفريقش الحميري فإنه بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها وهو الذي افتخر به أحد الشعراء من حمير حيث قال: 


قد كان ذو القرنين قبلي مسلما ملكاً علا في الأرض غير مفندي 

بلغ المشارق والمغارب يبتغي أسباب ملك من كريم سيد      


و قال: و يشبه أن يكون هذا القول أقرب لأن الأذواء كانوا من اليمن وهم الذين لا تخلو أساميهم من ذي كذا كذي النادي وذي نواس وذي النون وغير ذلك. 


و هناك من توقّف في هويته و قالوا هو عبد صالح أعطاه الله ملكا لا يعرفون من هو. 


و قيل هو رومي اسمه الاسكندروس و الذين قالوا إنه الإسكندر الرومي يقصدون به غير الإسكندر اليوناني إذ بعض المتأخرين يعتبرونهم مختلفان و أن اسم الإسكندر أطلق على ملكين.


و كثير منهم قالوا إنه الإسكندر المعروف الذي بنى الإسكندرية. و هذا من أشهر الأقوال عند أهل التاريخ. ذكر الفخر الرازي في السبب الذي جعل الناس ذو القرنين هو نفسه الإسكندر. قالوا والدليل عليه أن القرآن دل على أن الرجل المسمى بذي القرنين بلغ ملكه إلى أقصى المغرب بدليل قوله:{ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ } [الكهف: 86] وأيضاً بلغ ملكه أقصى المشرق بدليل قوله:{ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ ٱلشَّمْسِ } [الكهف: 90] وأيضاً بلغ ملكه أقصى الشمال بدليل أن يأجوج ومأجوج قوم من الترك يسكنون في أقصى الشمال، وبدليل أن السد المذكور في القرآن يقال في كتب التواريخ إنه مبني في أقصى الشمال فهذا الإنسان المسمى بذي القرنين في القرآن قد دل القرآن على أن ملكه بلغ أقصى المغرب والمشرق وهذا هو تمام القدر المعمور من الأرض، ومثل هذا الملك البسيط لا شك أنه على خلاف العادات وما كان كذلك وجب أن يبقى ذكره مخلداً على وجه الدهر وأن لا يبقى مخفياً مستتراً، والملك الذي اشتهر في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلا الإسكندر وذلك لأنه لما مات أبوه جمع ملوك الروم بعد أن كانوا طوائف ثم جمع ملوك المغرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر فبنى الإسكندرية وسماها باسم نفسه ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم انعطف إلى أرمينية وباب الأبواب ودانت له العراقيون والقبط والبربر. ثم توجه نحو دارا بن دارا وهزمه مرات إلى أن قتله صاحب حرسه فاستولى الإسكندر على ممالك الفرس ثم قصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهرزور ومات بها. فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين كان رجلاً ملك الأرض بالكلية، أو ما يقرب منها، وثبت بعلم التواريخ أن الذي هذا شأنه ما كان إلا الإسكندر وجب القطع بأن المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلبوس اليوناني 


و بعد أن نقل الفخر الرازي أقوال الناس في ذي القرنين رجّح أنه هو الإسكندر و قال: والقول الأول أظهر لأجل الدليل الذي ذكرناه وهو أن مثل هذا الملك العظيم يجب أن يكون معلوم الحال عند أهل الدنيا والذي هو معلوم الحال بهذا الملك العظيم هو الإسكندر فوجب أن يكون المراد بذي القرنين هو هو إلا أن فيه إشكالاً قوياً وهو أنه كان تلميذ أرسططاليس الحكيم وكان على مذهبه فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسططاليس حق وصدق وذلك مما لا سبيل إليه، والله أعلم.  


و قال الآلوسي في تفسيره بعد أن نقل الأقوال في ذي القرنين: والأقرب عندي لإلزام أهل الملل والنحل الضالين الذين يشق عليهم نبذ كتب التواريخ وعدم الالتفات إلى ما فيها بالكلية مع كثرتها وانتشارها في مشارق الأرض ومغاربها وتباين أديان مؤلفيها واختلاف أعصارهم اختيار أنه الاسكندر بن فيلقوس غالب دارا: وما علي إذ ما قلت معتقدي     دع الجهول يظن الجهل عدواناً واليهود قاطبة على هذا لكنهم لعنهم الله تعالى وقعوا في الإسكندر ونسبوه أقبح نسبة مع أنهم يذكرون أنه أكرمهم حين جاء إلى بيت المقدس وعظم أحبارهم والله تعالى أعلم. 


ما ذكرته أشهر الأقوال في هوية ذو القرنين عند السلف، و من المعاصرين فانتشرت عندهم أقوال، لعل أشهرها أنه قورش الكبير أو كورش، أول ملوك فارس. اختار هذا القول وزير المعارف الهندي المتوفى أبو الكلام آزاد ثم رجّح هذا الرأي جمع من المعاصرين، و نقل هذا القول الشعراوي المفسر المعروف و كأنه استروح له وقال: وقد بحث العلماء في: مَنْ هو ذو القرنين؟ فمنهم مَنْ قال: هو الإسكندر الأكبر المقدوني الطواف في البلاد، لكن الإسكندر الأكبر كان في مقدونيا في الغرب، وذو القرنين جاب المشرق والمغرب مما دعا عالماً محققاً من علماء الهند هو: أبو الكلام آزاد - وزير المعارف الهندي - إلى القول بأنه ليس هو الإسكندر الأكبر، بل هو قورش الصالح، وهذه رحلته في الشرق والغرب وبين السدين، كما أن الإسكندر كان وثنياً، وكان تلميذاً لأرسطو، وذو القرنين رجل مؤمن كما سنعرف من قصته. و انتصر لهذا القول الدكتور عدنان إبراهيم. و هذا القول لعله يكون الأقرب إن جعلنا اعتبارا للتاريخ و ما في الكتب المقدسة عند أهل الكتاب. 


و هناك من قال إنه الفرعون إخناتون و هو حمدي بن حمزة الصريصري الجهني و هو كاتب سعودي و عضو مجلس شورى سابق و ذلك في كتابه: فك أسرار ذي القرنين (أخناتون) ويأجوج ومأجوج


و أما الذين لا يبالون كثيرا بكتب التاريخ و المرويات، و الذين يفسرون القرآن بالقرآن من دون الرجوع إلى غيره من المصادر، فقالوا إنه سليمان بن داوود. و هذا القول الحديث لم يقل به أحد من السلف، غير أنه بسبب المنهج الذي يتبعه كثير من الناس اليوم و هو الاعتماد فقط على القرآن فإن النتائج تختلف اختلافا كبيرا و تكون صائبة في كثير من الأحيان. و هذا القول الذي منتشر في عصرنا اليوم قال به جمع كبير من المنتسبين إلى أهل القرآن أو القرآنيين إلا أن ليس لديهم أعمال يُعرفون بها و إنما مقالات و مشاركات في مواقع التواصل الاجتماعي. و لعل أشهر من انتصر لهذا القول هو الشيخ صلاح الدين بن إبراهيم المعروف بأبي عرفة إلا أنه جمع من الناس سبقوه بسنوات عديدة منذ أكثر من عشر سنوات على الأقل قرأتها بنفسي في مقالات على موقع أهل القرآن و الفيسبوك و المدونات و غيرها كثير. و هذا الرأي أيضا منشور في ماليزيا منذ سنوات عديدة في بعض الأبحاث الدينية الماليزية.


و هذا القول أعني أن سليمان هو ذو القرنين هو الأقرب بالنسبة لي شخصيا إن استشهدنا بالقرآن وحده بمعنى أني إن طولبت أن أعرّف عن هوية ذو القرنين قرآنيا فقط فإني سأقول هو سليمان عليه السلام. و لعلي أذكر جملة من الأدلة لإثبات هذا القول و أزيد عليها أدلة لم يقل بها المنتصرين لهذا القول و الله هو الهادي إلى الحق. 


أما أدلة القول على أن ذو القرنين هو نفسه سليمان فللأسباب التالية:


الذي يظهر من ظاهر القرآن أن ذو القرنين هذا نبي أو إنسان يُوحى إليه بدلالة قوله: ((حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا ۗ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا)) و الشاهد (قلنا) فإنه يدل أن هناك وحي جاءه بغض النظر عن طريقة الوحي، أهو عن طريق ملك أم لا. و ردّه ما يدل على أن هناك مخاطبة، تأمل قوله: ((قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) )). و معلوم لدى الناس جميعا أن سليمان نبي من الأنبياء بدلالة الآية من سورة النساء: (( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163))) و كذلك في قول ذو القرنين ما يدل على أنه على علم بما قد يؤول إليه أمر في المستقبل: ((قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا)) 


و يبدو في سياق آيات سورة الكهف أن ذو القرنين قد أوتي ملكا عظيما ((إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) )) فالرجل أوتي من كل شيء و نجد أن سليمان قال عن نفسه أنه أوتي من كل شيء و ذلك في سورة النمل: ((وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين)). و الملك سليمان فاقت شهرته بقية الملوك و إن كانت لهم شهرة في التاريخ لكن لا تكاد تجد أمة لا تعرف من هو سليمان. و يكفي قوله: ((قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ )) و ليس في كتب التاريخ قاطبة من كان له ملك مثل ملك سليمان و له السيرة الحسنة المذكورة في القرآن: ((فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ (40))). و ليس هذا فحسب إنك لو تدبرت القرآن لوجدت أن ملكة سبأ أوتيت من كل شيء على حسب كلام الهدهد ((إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم)) إلا أننا من سياق الآيات و المفهوم منها نستطيع أن نقول أن ملكها و قوتها لا يمكن أن يُقارن بما كان عند سليمان. و بما أن ذو القرنين وصل إلى مطلع الشمس و مغربها، فإن سليمان كانت له من الوسائل ما يمكّنه من ذلك و ذلك بأن سخّر له الله الريح: (( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36))) 


و من الأمور المتشابهة بين ذو القرنين و سليمان أن لهم جولات مع أقوام أخر، فأما بالنسبة لذو القرنين: ((حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88))) وجد قوما و أوتي الإختيار هل يعذبهم أو يحسن فيهم. و كذلك سليمان أوتي الاختيار بعد أن أوتي ملكا يستطيع أن يتسلط به على الآخرين: ((هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)). و كذلك سليمان نجد ذلك في سورة النمل و قصته مع ملكة سبأ: ((وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) )) و حتى نصل إلى قصة الهدهد: ((وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31))) لاحظ أن ذو القرنين اشترط جزاء الحسنى لمن آمن و عمل صالحا أم من ظلم فقال: ((قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا)) و كذلك سليمان، قال: ((أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) )) و عندما جاءت ملكة سبأ و دخلت الصرح: ((قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) مما يدل أنها كانت ظالمة لنفسها و كذلك كان قومها: ((و صَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ)) فهذا التشابه قريب في منهج الملك. 


و بما أن قصة ذو القرنين جاءت في سورة الكهف بعد قصة موسى و العبد يمكن أن يُقال أن أحداث القصة وقعت بعد أحداث قصة موسى و العبد الصالح، أي هناك تسلسل زمني، و معلوم لدى الناس جميعا أن سليمان بعد زمن موسى. و لكن لقائل أن يقول أن حتى بقية الملوك المذكورين في التاريخ كانوا بعد موسى، و يمكن أن يُقال أن في سورة الكهف ذكر لنا قصة أصحاب الكهف، و المتعارف عند الناس أن قصة أصحاب الكهف وقعت بعد موسى، و لكن لقائل أن يقول أنا لا أعتد بالآراء التاريخية فعندي قصة أصحاب الكهف قبل موسى و الله أعلم.


و من التقارب بين سليمان و ذو القرنين أن سليمان علم منطق الطير و كلم مخلوقات لا يمكن للناس عامة أن يكلمها في المعتاد مثل النملة و الجن: ((وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ)) تأمل قوله علمنا منطق الطير و هنا يفهم على كلام نملة: ((حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)) و هنا يخاطب الهدهد بعد أن جاءه بخبر سبأ: ((قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28))) و أيضا يكلمه عفريت من الجن: ((قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39))) فمن هذه الآيات نفهم منها أن سليمان كان يستطيع أن يتفاهم مع مخلوقات لا يمكن التفاهم معها بالكلام. تعالوا لنبحث عن ذي القرنين إن كان هناك ما يشير على أنه كان عنده شيء من هذه الخاصية. نجد في سورة الكهف: ((حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95))) تأمل قوما لا يكادون يفقهون قولا إلا أن ذا القرنين استطاع أن يتفاهم معهم! هل هذه مصادفة؟ الله أعلم.


و ليس هذا فحسب، تأمل في قصة ذو القرنين نجد أن القوم عرضوا عليه خرجا فقال لهم: ((قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95))) فهنا ذو القرنين اكتفى بما كان من الله، و نفس الشيء نجد سليمان اكتفى بما كان من الله و لم يقبل من هدية ملكة سبأ، اقرأ هذه الآيات: ((فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) )))


و من العجائب أنك تجد في سورة سبأ: ((وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ)) و في قصة ذو القرنين ما الذي طلبه: ((آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) )) دقق على قوله (أسلنا له عين القطر) و قوله: (أفرغ عليه قطرا). و قال عن داوود أبو سليمان: ((ولقد آتينا داوود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد)) تأمل قوله (و ألنا له الحديد) و تأمل في هذه الآية: ((ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين)) تأمل قوله: (الجبال يسبحن) و معلوم أن سليمان ورث من داوود: ((وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين)) فإن قلنا أنه ورث سليمان الفضل الذي أوتيه داوود عرفنا كيف (و أسلنا له عين القطر) و فهمنا كيف فهم منطق الطير و النملة و الجن و سنفهم ما علاقة بالصدفين: ((آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) )) و أريدك أن تركز في قوله (بين الصدفين) و المعنى كما يقوله أكثر المفسرين بين الجبلين أو ناحيتي الجبلين ورؤوسهما، و هذا المعنى أي بين الجبلين منسوب إلى ابن عباس. فهذا الصدفين له علاقة أيضا بتسخير الجبال مع داوود مثل الآية التي ذكرت: (( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)) أريدك أن تتأمل في قوله: ((أوبي معه) و قارن هذا بما كان من أمر سليمان: ((ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب)) و تأمل هذه الآية ((وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ)) و عن كثير من المفسرين أن أواب في هذه الآية بمعنى الطاعة. فهل كان لداوود و سليمان القدرة على تحريك الجبال؟ الله أعلم. و لكن إن كان كذلك و عرفنا عن ذي القرنين: ((حتى إذا ساوى بين الصدفين) نجد تشابها جديدا، و هذه الملاحظة دقيقة و عزيزة أتمنى أن تعطيها حقها من التأمل. 


فكما ترى التشابه كبير بين ذو القرنين و سليمان، فهل يمكن أن يكون نفس الشخص، لا أستطيع الجزم لكن لو أخذنا بالقرآن فقط نقول نعم كأنه هو. و أما عن سبب تسميته بذي القرنين فلا أدري حقيقة، لكن يمكن أن يُقال أنه سمي بذلك كما قد قيل في تفسير القرنين: من ملكه وصل المشرق أو المغرب و الذي يعرف بقرني الشمس، أو سافر إلى المشرق و المغرب، أو كان يلبس تاجا له قرنان إلى غير ذلك من الأقوال. و يمكن أن يُقال أن القرن في القرآن يأتي على معنى الأمة أو التجمع: مثل هذه الآيات: في سورة الأنعام: ((أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ)) و أيضا في سورة الأنعام: ((فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ)) و في سورة مريم: ((وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا)) و في سورة مريم أيضا: ((وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ)) و في سورة طه: ((قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ)) و في سورة ص: ((كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ)) و في سورة ق: ((وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا)) و غيرها من السور، فهل يمكن أن يُقال أن ذو القرنين أي ذو الأمتين أو الجماعتين؟ الإنس و الجن؟ و من المثير أن بني إسرائيل افترقت بعد سليمان إلى مجموعتين، مجموهة إسرائيل في الشمال و مجموعة يهوذا في الجنوب. 


و هنا أتوقّف في هذا الفصل من ذكر الأدلة التي قد يُفهم منها أن ذو القرنين هو سليمان النبي، و في الفصل القادم سأدوّن فيه الرأي الأخير لي في هذه المسألة بعد الإعتماد على معطيات كثيرة.



عبدالعزيز النظري

تويتر

انستغرام