Sunday, December 29, 2019

صُحُف إبراهيم و موسى




السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

الإخوة الكرام، مضى وقت طويل و لم أضع بين أيديكم مقالا و ذلك بسبب انشغالي ببعض كتبي، فقررت العودة إليكم بمقال له علاقة بتدبّر آيات القرآن و بالتحديد فيما يتعلّق بما يُعرف اليوم بالكتب السماوية. عن نفسي، حُبب إلي البحث عن هذه الكتب و النظر فيها و دراستها. فقرأت فيما قرأت ما بين أيدي اليهود من كتب كالتوراة و النبيئيم و كتوبيم و التي بمجموعها تسمى عندهم التناخ و تمثل الثلاثة أحر ت ن خ و هي ترمز إلى التوراة و النبييئم و الختوبيم أو الكتوبيم. و كذلك قرأت الكتاب المُقدّس عند النصارى و الذي يتكون من العهد القديم و يشمل التوراة و النبيئيم و الكتوبيم إضافة إلى العهد الجديد و الأناجيل. لست بصدد إعطائكم نبذة تاريخية عن هذه الكتب أو شرحها فإن أكثرها معروف و متوفّر على الشبكة

و الذي أريد أن أقوله أني حاولت البحث عن الكتب و الصحف المذكورة في القرآن، فقمت بالبحث عن التوراة فوجدتها (بغض النظر عن تحريفها أم لا، المقصد أن التوراة اليوم باسمها موجود) و كذلك الإنجيل موجود (مرة أخرى بغض النظر إن كان هذا الإنجيل هو نفس الإنجيل الذي أوتيه عيسى عليه السلام أم لا) في واقع الأمر عندي دراسة أخرى عن الإنجيل بشيء من التفصيل لم أنشره و لا أودّ أن أنشره لأنه قد أجرّ على نفسي ما لا يُحمد عُقباه فأتركه حتى حين، و إن يسّر الله لي نشره فعلت ذلك. و كذلك الزبور  وجدت. لكن الشيء الوحيد الذي لم أجده بشكل مُعترف به عند الناس هو صحف إبراهيم و موسى

نعم هناك كتابات تُنسب إلى إبراهيم عليه السلام و لكن غير معترفة بها، يعني هناك شكوك كثيرة حول نسبتها إلى نبي الله إبراهيم عليه السلام، أما صحف موسى فافترق الناس فقال بعضهم أنها التوراة و قال آخرون صحف أخرى، المهم أن هناك بعض المكتوبات المنسوبة إلى موسى عليه السلام في تراث اليهود غير أن نسبتها إلى موسى مشكوك فيها حتى عندهم هم. فهذا يعني لا يوجد بين أيدينا اليوم صحف إبراهيم و موسى بشكل معترف به كالتوراة و الأناجيل و الزبور. و هذا الشيء جعلني في حيرة من أمري، و لسنوات أبحث عنها لكن من دون جدوى

ثم إنه قبل سنوات حوالي أربعة أو ثلاثة وقع في خاطري خاطر لعلّه يغير مفهوم كثير من المسلمين اليوم و هو ما سأحاول أن أبيّنه في هذه المقالة. الذي وقع في خاطري أن الله سبحانه و تعالى عندما ذكر صُحِف إبراهيم و موسى لم يقصد صحفا معينة أوتيها إبراهيم أو موسى، بل لعل المراد من ذلك شيء آخر، شيء لعله غاب عن جميع المسلمين فيما أعلم من تتبع للتاريخ الإسلامي. و لست هنا بصدد أن أفتح نقاشا حول إمكانية أن يأتي إنسان بفكرة لم يسبق إليها أو أن ذلك غير ممكن، فقد تعرّضت لهذه المسألة في مقالات سابقة في عدة مناسبات فقررت أن أتركها.

فإن قلت لي، أخبرني ما الذي تراه في صحف إبراهيم و موسى؟ عن نفسي و أقول و إن شاء الله أن يكون هذا صحيحا، أن المقصود بصحف إبراهيم و موسى هي سورة البقرة السورة الثانية من القرآن الكريم على حسب الترتيب الشائع. فإن سألتني ما دليلك، فإليك التالي:

نجد في سورة البينة الآية: ((رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (١) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ(٣) )) ما هي الصحف المقصودة، أليس القرآن؟ و إلا ما الذي كان يتلوه رسول الله صلى الله عليه و سلم؟ ألم يكن يتلو القرآن؟ و في سورة عبس نجد الآيات التالية: ((فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (١٣) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (١٦) )) إذن الرسول كان يتلو هذه الصحف، ما هي؟ هل وقع بين أيديكم في الأحاديث الصحيحة المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه كان يتلو شيئا غير القرآن؟ و هل أرّخ المؤرخون يوما أنه كان يتلو شيئا غيره؟ كلا! و في سورة العنكبوت نجد: ((وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) )) إذن يصح أن نقول أن شيئا من القرآن يصح أن يُقال عنه صحف هذه واحدة

و الآن دعونا نقوم بتدبر الآيات التي فيها ذكر صُحف إبراهيم و موسى. نجد ذكر لها في سورتين، سورة النجم و سورة الأعلى


لندرس آية سورة النجم: ((أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ (٣٦) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ (٣٧) )) ما هي الأشياء التي في صحف موسى و إبراهيم؟ لنقرأ بعدها من الآيات من سورة النجم: ((أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ (٣٨) وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ  (٤٠) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ (٤١) وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ (٤٢) )) هل نجد هذه المعاني أو شبيه منها في سورة البقرة؟ أقول نعم

أولا لا يخفى على أكثر المسلمين أن سورة البقرة تحتوي على كثير من خبر إبراهيم و موسى و هذا ظاهر يدركه كل من يقرأ القرآن بفهم.  و لا يخفى أيضا أن سورة البقرة هي ثاني سورة بعد الفاتحة، و التي فيها ذكر موسى و إبراهيم من أوائل صحائف القرآن مقارنة بما بعدها. تأمل هذا الكلام و تأمل قوله: إن هذا لفي الصحف الأولى


في سورة النجم: ((وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ))
في سورة البقرة:
((وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)) تأمل في قوله فأتمهن و كأن فيه معنى وفى

في سورة النجم: ((أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ (٣٨) وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ  (٤٠) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ (٤١))
في سورة البقرة
١. ((وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ))
٢. ((تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ))
٣. ((وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ))
٤. ((لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ))


في سورة النجم: ((وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ)) 
في سورة البقرة:
  1. ((الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ))
  2. ((وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ))



كما ترون نجد الأشياء المذكورة في سورة النجم موجودة في سورة البقرة و بهذا هناك توافق عجيب مما يدل أن المقصود بصحف إبراهيم و موسى سورة البقرة

دعونا الآن نبحث في سورة الأعلى ما هي بعض الأشياء المذكورة التي قال الله عنها: ”إن هذا لفي الصحف الأولىنجد الآيات التالية: ((قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ (17) إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ (19) )) هل نجد هذه المعاني في سورة البقرة، أقول نعم

دعونا نبدأ


سورة الأعلى: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ (15)
سورة البقرة:
  1. ((لَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ))
  2. ((وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ))


سورة الأعلى: ((بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ))
سورة البقرة:
  1. ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ))
  2. ((أوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ))
  3. ((وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ))
  4. ((وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ))


و هكذا كل آية تقريبا في سورة الأعلى تجد ما يقابلها في سورة البقرة فنجد في سورة البقرة ذكر خلق السماء و الأرض و كذلك ما سخّره الله للإنسان و تفاصيل الخلق. و أما كونه يعلم السر و أخفى فإن ذلك مذكور بشكل جلي في قصة خلق آدم ((قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ)) و كذلك في آيات أخرى و كذلك حال المؤمنين و حال الكافرين كل ذلك نجد له ذكرا في سورة البقرة. هذا على وجه الاختصار و أما الدراسة كاملة لعلي أجعلها فصلا في إحدى كتبي القادمة بإذن الله إذ أني أكتب كتابا فيه هذه الأفكار التي لها جوانب جديدة و مضيئة. فإن قلت إن هذه المعاني كونية في كتاب الله و تجدها في أكثر من سورة و تجد شبها كبيرا في سورة طه فلم اخترت سورة البقرة بدلا من سورة طه، أقول في سورة طه نجد الآية التالية: ((وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ)) و بالفعل في سورة البقرة بينات كثيرة فيها ذكر لآيات الله.  تأمل جيدا ما كتبته و عد إلى القرآن و تدبره و بإذن الله ستجد أن كلامي هذا يظهر أن يكون الأصوب في فهم المراد منصحف إبراهيم و موسى“. ما كان من حق فمن الله و ما كان من باطل في كلامي فمني و من الشيطان. و أسأل الله يغفر لي و لكم و يهدينا سواء السبيل. و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

كتبه،

عبدالعزيز النظري