Sunday, September 12, 2021

علماء المسلمين و هيئة الأرض

 


قرأت لناس و استمعت لعلماء من المسلمين يزعمون أن علماء الإسلام أجمعوا على أن الأرض كروية و تأثرا بهم يقول كثير من الناس أن المسلمين أجمعوا على كروية حتى قبل وجود ناسا و وكالات الفضاء. و هذه المعلومة غير صحيحة، ليس هناك إجماع بين العلماء على أنّ الأرض كروية؟ لا أقصد مجرد دعوى الإجماع، فدعاوي الإجماع كثيرة، ويكفي فقط النظر إلى موسوعة للإجماع لإدراك الزعم الفاحش الذي كان يرتكبه بعض العلماء لنصرة مذاهبهم، فكم مرة أخطأ في تلك الدعاوي كلّ من ابن تيمية وابن حزم رحمهما الله. الزعم فكل إنسان يستطيع أن يدّعي أي شيء لكن أين البيّنة و البرهان على أن هناك إجماع في المسألة؟ 


نجد في تفسير القرطبي رحمه الله وهو يفسر آية (و الأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كلّ شيء موزون) نقل مقولة لابن عباس: "بسطناها على وجه الماء؛ كما قال: والأرض بعد ذلك دحاها أي بسطها وقال: والأرض فرشناها فنعم الماهدون. وهو يردّ على من زعم أنها كالكرة وقد تقدم" هذا قول القرطبي و الذي فيه إثبات أنه كانت هناك آراء وردود على فكرة الأرض الكروية.


في نونية القحطاني المنسوبة للإمام القحطاني الأندلسي المعروف والمتوفى سنة ٣٧٩ للهجرة على اختلاف، فيها أبيات للرد على من اعتنق النموذج الكروي للأرض، أنقل لكم الأبيات التي تعنينا:    


كذبَ المهندسُ والمنجّمُ مثله … فهما لعلمِ اللهِ مدّعيانِ        

الأرض عند كليهما كروية … و هما بهذا القول مقترنان  

والأرض عند أولي النهى لسطيحة … بدليل صدق واضح القرآن 

والله صيرها فراشا للورى … وبنى السماء بأحسن البنيان"    


القارئ في كتب تفسير القرآن يعرف أنّ ابن كثير المفسر وغيره جمع من العلماء على أنّ الأرض مخلوقة قبل السماء ثم دحيت بعدما خلق الله عز و جل السماء، فكيف يتوافق هذا مع النظريات العلمية الحديثة بشأن خلق الأرض؟ ألسنا نجد في تفسير البغوي في تفسير الآية (و الأرض مددناها) بسطناها على وجه الماء؟ ما المقصود بالماء؟ يُمكن أن يُقال المقصود المحيطات، ويمكن أن يُقال إنّ الأرض جميعها على الماء. ثمّ ما معنى قول المفسرين: بسطها طولا وعرضا ؟ كيف يمكن ذلك على الأرض الكروية خاصّة أنّ المقصود هنا الأرض كاملة، ليست قطعة معينة أو أرضا معينة، والسياق يوضح ذلك. 


معنى الأرض يختلف باختلاف السياق، ولا أظنّ عاقلا يُخالفنا في هذا، لكن عندما يخبر الله عن خلق الأرض ويقابلها بالسماوات فإنّ المقصود الأرض كلّها لا قطعة معينة! تخيل معي مثلا عندما يقول الله سبحانه وتعالى: (جنة عرضها السماوات والأرض) هل المقصود بالأرض هنا فقط مكة أو المدينة أو أية قطعة أخرى أم أنه يقصد الأرض كلّها؟ الإجابة واضحة ثمّ إنّ كان المقصود بأنّ الأرض مدّها وبسطها فقط للناظر، فيمكن للناظر أن يقول مُعترضا لكني أرى الجبال والهضاب، و مستويات الأرض مختلفة، فكيف هي ممتدّة ومبسوطة؟ 


أليس القرآن آيات أنزلها الله العزيز الحكيم يُخاطب فيها الإنس و الجن؟ و الجن كما نعرف من القرآن كانوا يلمسون السماء أي لهم قدرات ليست من قدرات البشر، فهل الجني الطائر و هو ينظر إلى الأرض نظرة فوقية و رأى أنها كروية أو فيها انحناء، هل سنستطيع التوفيق بين نظرته للأرض و هذه الآية؟ سيكون هناك خلل خاصة إن القرآن صالح لكل زمان و مكان. لن يجد المُعارض مخرجا مقنعا إلا أن يتعدى منظور الرائي، فإن فعل المعارض ذلك خرج الموضوع عن المنظور، وتحول إلى منظور كتلة الأرض كاملة، فإن كان كذلك نقول له لِمَ توقفت عند كتلة معينة ولم تأخذ الأرض كلّها؟ لو أنك منذ البداية فسّرت الآية بظاهرها لوصلت إلى النتيجة الحقيقية.


لنعد إلى ما كنّا فيه، نجد في تفسير ابن عطية المتوفّى سنة ٥٤٦ ه عند تفسيره لقول الله سبحانه: (وإلى الأرض كيف سطحت) قال ابن عطية: "و ظاهر هذه الآية أن الأرض سطح لا كرة، وهو الذي عليه أهل العلم، والقول بكريتها وإن كان لا ينقص ركنا من أركان الشرع فهو قول لا يثبته علماء الشرع" ومعروف من هو ابن عطية، وقد زعم أنه لا يثبته علماء الشرع، هل كان سيخفى عليه إجماع علماء الأمة قاطبة أنّ الأرض كروية ويدّعي هذا الادعاء الكبير!؟ كلا لم يكن ليفعل ذلك! و أيضا قال في موضع آخر كلاما يثبت أن الأرض ليست كروية و ذلك عند وقوفه عند الآية من سورة نوح: (والله جعل لكم الأرض بساطا) فقال: يقتضي ظاهره أن الأرض بسيطة كروية واعتقاد أحد الأمرين غير قادح في نفسه اللهم إلا أن يتركب على القول بالكروية نظر فاسد، وأما اعتقاد كونها بسيطة فهو ظاهر كتاب الله تعالى، وهو الذي لا يلحق عنه فساد البتة. واستدل ابن مجاهد على صحة ذلك بماء البحر المحيط بالمعمور، فقال: لو كانت الأرض كروية لما استقر الماء عليها. و قلّده حرفيا الثعالبي في تفسيره الجواهر الحسان في تفسير القرآن فقال: وظاهر الآية: أن الأرض بسيطة غير كُرِيَةً، واعتقاد أحد الأمْرَيْنِ غَيْرُ قَادِح في الشرْعِ بنفسِه، اللهم إلا أنْ يترتبَ على القولِ بالكُرِيَّةِ نَظر فاسد، وأما اعتقاد كونها بسيطةً، فهو ظاهر كتاب الله تعالى، وهو الذي لا يلحق عنه فساد أَلْبَتَّة.


و قريب منهما استدل الماوردي صاحب تفسير النكت و العيون على أن الأرض مبسوطة فقال عند وقوفه عند الآية المذكورة من سورة نوح فقال: أي مبسوطة، وفيه دليل على أنها مبسوطة. و كذلك نجد أن القرطبي قال في تفسيره: مبسوطة و مثله النسفي و ابن عادل عند توقفهما عند هذه الآية. حتى أبو حيان صاحب تفسير البحر المحيط قال عند وقوفه عند هذه الآية: تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه. وظاهره أن الأرض ليست كروية بل هي مبسوطة و أما مقاتل ابن سليمان فقال عند تفسيره لهذه الآية: مسيرة خمسمائة سنة من تحت الكعبة


نجد في تفسير الجلالين عند تفسير قوله سبحانه وتعالى: (وإلى الأرض كيف سطحت) "و قوله (سطحت) ظاهر في أنّ الأرض سطح، وعليه علماء الشرع، لا كرة كما قاله أهل الهيئة وإن لم ينقض ركنا من أركان الشرع. كذلك قال الثعالبي في تفسيره. 


حتى الفخر الرازي عندما أراد إثبات كروية الأرض قال في تفسيره: (ومن الناس من استدل بهذا على أنّ الأرض ليست بكرة) ثمّ راح يردّ عليهم، فهو على الأقلّ يثبت أنّ هناك خلافا في المسألة لا كما جعلنا البعض نتوهم بإكثارهم من دعاوي الإجماع! 


قال السمرقندي في تفسيره المسمى بحر العلوم عند توقفه عند آية سورة البقرة: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) {البقرة ٢٢} قال أهل اللغة: الأرض بساط العالم. و قال  إسماعيل حقي مثل هذا الكلام: الأرض بساط العالم وبسيطها من حيث يحيط بها البحر الذي هو البحر المحيط و قد نقلت هذه الأقوال في فصول سابقة.


من علماء المسلمين المتبنين النموذج المسطحة للأرض الإمام أبو منصور عبد القاهر البغدادي المتوفى سنة ٤٢٩ صاحب كتاب "أصول الدين" وفيه قوله عند شرحه اسمه الباسط: "و الباسط في الدلالة على بسط الرزق لمن شاء وعلى أنه بسط الأرض ولذلك سماها بساطا خلاف قول من زعم من الفلاسفة والمنجمين أنّ الأرض كروية غير مبسوطة. و في كتاب الفرق بين الفِرَق قال: و أجمعوا على أن السماوات سبع طباق، خلاف من زعم من الفلاسفة و المنجمين أنها تسع، و أجمعوا أنها ليست بكرية تدور حول الأرض، خلاف من زعم أنها كرات بعضها في جوف بعض و تدور حول الأرض الكروية التي تقع في وسطها و مركزها. و هذا النموذج هو نموذج بطليموس المعروف و هو ردّها بل زعم الاجماع!


و أيضا إسماعيل الحنفي القونوي صاحب تفسير حاشية القونوي على تفسير الإمام البيضاوي نجد في تفسيره يرد على البيضاوي عندما قال البيضاوي: (و ذلك لا يستدعي كونها مسطحة لأنها كرية شكلها مع عظم حجمها و اتساع جرمها لا يأبى الافتراش عليها مقلدا الفخر الرازي، قال القونوي: بل كونها مسطحة راجحة لأنها مختار ابن عباس عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم و ظاهر قوله تعالى: (و الأرض مددناها) و قوله تعالى (لا ترى فيها عوجا و لا أمتا) و الأرض بعد ذلك دحاها) يدل على كونها مسطحة و ابن عباس و جمع كثير من أهل العلم باللسان و أدرى بالبيان فلا جرم أن الميل إليه مقبول لدى أولي العرفان و الكروية قول الفلاسفة و الظاهر أنها مختار المصنف تبعا للإمام الرازي فإنه قول الوجوه العقلية التي أقيمت على الكروية في تفسيره و المصنف تبعه مع تقرير حدوثها فحينئذ لا محذور في كلا الاحتمالين لكن متابعة السلف أسلم.


أيضا من المؤيدين لنموذج الأرض المسطّحة والقائلين بكرويتها الجغرافي المعروف سراج الدين ابن الوردي المتوفّى سنة ٨٥٢ بالتاريخ الهجري، فنجد في كتابه المعروف "خريدة العجائب وفريدة الغرائب" قوله: "فأعظم جبال الدنيا قاف: وهو محيط بها كإحاطة بياض العين بسوادها وما وراء جبل قاف فهو من حكم الآخرة لا من حكم الدنيا" وجبل قاف مذكور في بعض الآثار ولا علينا من تحقيقها، لكن ابن الوردي اعتبر الجبل كسد حول جميع الأرض، وهو يشبه كثيرا بعض التوجهات الحديثة للأرض المسطّحة وتنفي كروية الأرض التي تسبح في الفضاء كالذرة. أحبّ أن أنوه أنّ الكتاب أحيانا ينسب إلى جده القاضي عمر بن الوردي المتوفّى سنة ٧٤٩ هجري، والجدّ معروف عنه أنه رسم خريطة للعالم ورسمها دائرية محاطة بالجبل المذكور. للعلم لست من الذين يستطيعون اليوم إثبات وجود هذا الجبل حول الأرض، لكن لا يمكنني نفيه بالكامل لعدم قدرتي على ذلك، أما قول بعض المفسرين إنه لو كان موجودا لاستطاع الناس أن يروه أقول ردّا عليهم إنّ الأرض ممتدة و لا يعلم حدود امتدادها إلا الواسع العليم. إذا كان الشيء بعيدا غاية في البعد فلا يمكن للبشر أن ينظروا إليه حتى بالأجهزة الحديثة. الغرض من ذكري لهذه الأقوال لكي أبيّن لك عزيزي القارئ أن هناك جمع من العلماء الذين كانوا يؤيدون النموذج المسطّح للأرض، الأرض الممدودة المبسوطة المفروشة.


أبو عبدالله زكريا القزويني العالم الجغرافي المعروف المتوفّى سنة ٦٨٢ للهجرة كان يؤيد فكرة الأرض المسطّحة كما في كتابه "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" وكيف أنّ الأرض محاطة بسور جبلي، وأنها على ماء كوني تحت الأرض وفوق الحوت العظيم بهاموت وما إلى ذلك.


كذلك الأخوان علي ومحمد أبناء أحمد بن محمد الشرفي الصفاقسي كانا يعتقدان بالأرض المسطّحة الدائرية الشكل، وعلي هو جغرافي ورياضي وفلكي توفّي سنة ٩٥٨ للهجرة، ومحمد هو جغرافي كذلك وعالم نبات، وعلي هو صاحب كتاب الطبلة، وستجدون فيه خرائط أنّ الأرض محيطة بالماء، والماء محيط بسلاسل جبلية تحيط الأرض كلها، وهذا يدعم النموذج الحديث للأرض المسطحة الذي يتبنّاه كثير من الناس في الغرب، و الخريطة بلا شك تخالف فكرة الأرض الكروية التي تسبح في الفضاء كالذرة! 


إن من يسمع لبعض أهل الإعجاز العلمي قد يتوهّم بسببهم أنّ الأمة الإسلامية جمعاء بشتى طوائفها متفقة على أنّ الأرض كروية، وهذا غير صحيح، ما ذكرته في هذا الفصل كان بعض أهل السنة، و إن قرأنا في كتب علماء المذاهب الأخرى لوجدنا مثل رأي علماء أهل السنة. فمثلا العالم الشيعي الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان العكبري المتوفّى سنة ٤١٣ هجري، صاحب كتاب "الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد" أنه كان يقول: إنّ الأرض مبسوطة وينكر على القائلين إنّها كروية وأنها تخالف القرآن والسنة والتراث الشيعي! كذلك ابن عجيبة صاحب التفسير الصوفي المعروف كان يميل للأرض المسطّحة. 


حتى عند الإباضية هناك خلاف، فمنهم من قال: إنّ السماء محيطة بالأرض أو إنها مسطّحة وأطراف السماء على أطراف الأرض (أي شكل القبة). و كذلك ابن حزم الذي الذي يستشهد به كثير من الناس اليوم في إثباته كروية الأرض، قال في بعض كلامه في هذا الموضوع أن القائلين بالأرض المسطّحة هم العوام، أما الأئمة المعروفون بالعلم فإنهم يقولون: إنّها كروية، أقول أولا قبل أن أتعرض لكلام ابن حزم بالتفصيل: أليس العامة من المسلمين؟ ومن أين أخذ العامة أنّ الأرض مسطّحة؟ ألم يأخذوها من القرآن أو من مشايخ ووعاظ وعلماء آخرين؟ فإنهم مقلدون في أكثر الأحوال، أليس كذلك؟ قل لي لماذا ارتضى العوام لأنفسهم أنّ الأرض مسطّحة، وخالفوا الأئمة المعروفين بالعلم؟ هذا غريب! و إن أنت تفكّرت في كلامي لعرفت أن هذه وحدها تكفي للردّ على من زعم أن هناك إجماعا في المسألة للمتأمّل!


من درس ولاحظ الخرائط التي رسمها علماء المسلمين، أعني العلماء الذين صُنّفوا من القائلين بكروية الأرض سيجد أنهم يرسمون الأرض بشكل دائري و حول الأرض قرص أو سلسلة جبال محيطة بالأرض ويحددون في الشمال مكان يأجوج ومأجوج وهذا ستجده في أكثر من خريطة، وابحث في محركات البحث وستجد وسترى ما أقصده بعينيك. من يدري حتى العلماء المحسوبين من المنتصرين للأرض الكروية، ربما في حقيقتهم كانوا متبنين النموذج المسطح للأرض.


مما سبقو تبيّن لنا أنه من المسلمين علماء جغرافيا وهيئة ورياضيات كانوا يعتقدون أن الأرض مسطحة فضلا عن علماء الفقه و التفسير. ومن يقرأ التفاسير بموضوعية ويقرأ الآثار المرفوعة و الموقوفة في تفاسيرهم لا يمكنه البتة أن يقول هناك إجماع على كروية الأرض بل سيعرف أن هذا الإدّعاء كذب فاحش. و إن قلنا إن هناك من العلماء من انتصر لنظرية الأرض الكروية أقول هذا وحده لا يكفي ليكون دليلا على صحة النظرية، فالعلماء في نهاية الأمر بشر، وكلامهم ليس بوحي، يُؤخذ منه و يردّ.



عبدالعزيز النظري

تويتر

انستغرام



No comments:

Post a Comment