إنّ المتأمّل في القرآن يجد أنّ الكتاب العزيز يدعو الإنسان إلى المسير في الأرض للعبرة، فمثلًا قال عزّ وجلّ: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) {آل عمران ١٣٧} وقال العزيز الجبار: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) {سورة الأنعام ١١} كذلك في سورة يوسف: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ) {سورة يوسف ١٠٩} كذلك في قوله عز من قائل: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) {سورة الحج ٤٦} و قال الخالق القدير: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) {سورة العنكبوت ٢٠} و قال الهادي إلى صراط مستقيم: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) {سورة النحل ٣٦} وقال الجبّار المتكبر: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ) {سورة النمل ٦٩} و قال الغفور الحليم: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) {سورة الروم ٩} و قال الذي لا إله إلا هو: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) {سورة الروم ٤٢} و قال العليم الحكيم: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) {سورة فاطر ٤٤} و قال الحي القيوم: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ) {سورة غافر ٢١} و قال الغني الكريم:: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) {سورة غافر ٨٢} و قال الملك الحق: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) {سورة محمد ١٠}
كما رأينا، دائما نجد (سيروا في الأرض) ولن تجد في القرآن من الفاتحة إلى الناس "طيروا في السماء" أو شيء من هذا القبيل الذي يدلّ على الحركة الفيزيائية البشرية في السماوات العلى! أتفهم أن هذه الآيات المقصود منها الأسباب الشرعية مثل الاعتبار والتكليف وما إلى ذلك، لكن يمكن لمتدبّر القرآن من طرف خفي أن يفهم منها أمورا، منها كون الأرض حظّ الإنسان من المسير، أما حظّه من السماوات أو السماء فالنظر والتفكّر مثل قوله: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) {سورة يونس ١٠١} وقول الغفور الرحيم: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) {سورة آل عمران ١٩١} فكما قرأنا من الآيات، الإنسان يسير في الأرض، ويمشي في مناكبها، لكن عندما يتعلّق الأمر بالسماوات فالنظر والتفكّر يعني أنه لا توجد مخلوقات مُكلفة مثلنا، أو نعتبر منها في السماء، أو ليست هناك رسالات بشرية في السماء، ولم ينزل عليهم شيء من السماء!
المضحك في الأمر أنّ بعض المعاصرين استدلّ بهذه الآية على الإعجاز العلمي في القرآن إذ قال أن سيروا في الأرض دليل على وجود الغلاف الجوي، وذلك أنّ الإنسان يعيش على سطح الأرض وليس في داخلها، لكن المقصود بحرف (في) في الآيات التي فيها سيروا في الأرض المراد منها الغلاف الجوي، وبما أنّ الغلاف الجوي يتحرك مع الأرض فهو يعتبر جزء من الأرض. لا يعرف الإنسان المُتدبّر لكتاب الله هل يبكي على مثل هذا التأويل أم يضحك؟ للأسف الشيخ الشعراوي الذي أحبّه كثيرًا قال قولا شبيها، وبالطبع قد ردّ على الشعراوي وغيره بعض العلماء المعاصرين كالدكتور عدنان إبراهيم بارك الله فيه في إحدى خطبه وكثيرون غيره.
حقا ماذا عسانا أن نفعل بتفسير كالذي ذكرت؟ أقول لمن اعتنق المعنى السابق، ماذا تقولون في قول الله عزّ وجلّ في سورة الفرقان: (وَعِبَادُ الرَّحْمَن الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) و ما تقولون في قوله سبحانه وتعالى في سورة الكهف: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)؟ وماذا ستقولون في قول الله عزّ وجلّ في سورة الإسراء: (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) هل المقصود على البحر أو داخل البحر غوصا؟ وماذا تقولون في قصة صلب فرعون للسحرة الذين آمنوا؟ (قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى) تأمل قال (في) جذوع النخل، هل صلبوا داخل النخلة أو عليها أو على الهواء حول جذع النخلة؟ سبحان الله، هذه نتيجة من يحاول أن يُطوّع آيات القرآن لتتوافق مع مخرجات العلم الحديث و لا حول و لا قوة إلا بالله.
ربّ قائل مُتعصّب لفكرة الأرض المسطّحة أن يقول إن الآيات التي فيها (سيروا في الأرض) و التي فيها (في) بدلا من (على) إشارة إلى أنّ الأرض أطرافها مرتفعة، وأنّ المعمور منها أدنى من أطرافها وأنّ المخلوقات التي تدبّ عليها في حقيقتها تسير فيها لأنها غير قادرة على الخروج منها، وذلك لأنّ أطرافها مرتفعة بسبب الدحو.
قد تستغرب هذا لكن صدقني هذا منطقي أكثر بكثير من الذي يقوله المتأثرين بالنظريات الكونية. برأيي، الذي ينبغي أن يُقال هو أنّ المسير شيء والمشي شيء آخر، وهنا لطيفة بلاغية أنقلها عن الدكتور فاضل السامرائي بارك الله فيه: "السير غير المشي في اللغة، و يُقال سار القوم إذا امتدّ بهم السير من جهة إلى جهة معينة في الخصوص. والسير في القرآن الكريم قد يكون لغرض، وفي جهة وهو إما للعظة والاعتبار أو للتجارة أو غير ذلك، كما في قوله تعالى: (فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله) سورة القصص. فالسير هنا ممتد من مدين إلى مصر وهو ليس مشياً. وقد يكون معنى السير، السير لفترة طويلة للعبرة والاتعاظ كما في قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض ثم انظروا) وقد ورد هذا المعنى للسير في ١١ آية قرآنية :(أفلم يسيروا في الأرض) (قل سيروا في الأرض فانظروا) والسير هنا هو الامتداد، وكما قلنا يكون في القرآن الكريم إما لمسافة طويلة بغرض التجارة، وإما لغرض العبرة والاتعاظ. أما المشي فهو مجرد الانتقال، وليس بالضرورة التوجّه إلى هدف محدّد كما في قوله تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا).
No comments:
Post a Comment