السلام عليكم و رحمة الله و بركاته... انتهيت في المشاركة السابقة من تدوين
تأملاتي و ملاحظاتي في بعض معاني ((بسم الله الرحمن الرحيم)) و أنتقل اليوم إن شاء
الله إلى كتابة بعض معاني واستخراج الحكم من قول الله سبحانه وتعالى: ((الحمدلله
رب العالمين)). أحب أن أنوّه بأني لن أفصّل في كتابة تأملاتي في الفاتحة كما
فعل بعض المفسّرون رحمهم الله وذلك لأنه أولا بأنني لا أستطيع ذلك, و ثانيا لأني أحاول
التركيز على الآية وما فيها من معاني و التقليل من الاستطرادات. فالفخر الرازي
رحمه الله "فسّر" سورة الفاتحة في مجلد! وتفسيره فيه من الفوائد الشيء
الكثير, ولكن ما كتبه لا يخلو من ثقل. وكذلك ابن قيم الجوزية رحمه الله ألّف في
استخراج معاني ((إيّاك نعبد و إيّاك نستعين)) كتابا ضخما مكون من 5 مجلدات وأسماه:
"مدارج السالكين بين منازل إيّاك نعبد و إيّاك نستعين" وهو من أجمل ما كتب
في مجال تزكية النفس ولكنه استطرد كثيرا والله أعلم. فلهذا من وجد أن في هذه
المشاركات اختصارا فيمكنه أن يرجع إلى ما كتبه الفخر الرازي أو ابن قيم الجوزية و
من صنفوا المجلدات فقط في تفسير سورة الفاتحة, فأنا لست بصدد كتابة المطوّلات لأن
هذا كما كتبت في مقدمة السلسلة, سينفد عمري قبل أن أنتهي من سورة البقرة. على كل
لا أحب أيضا أن أطيل عليكم بالمقدمات لذلك سأشرع بالمقصود.
قال الله سبحانه و تعالى في بداية سورة الفاتحة: ((الحمدلله رب العالمين))
ويعني والله أعلم الثناء التام الكامل وما تشمله الحمد من معاني الثناء و الشكر هو
لله وحده المستحق لجميع أنواع المحامد و المالك لها و هو رب العالمين. و أما (رب
العالمين) فهو خالق الخلق مكوّن الأكوان و مدبّر العوالم كلها وما فيها من عالم
الإنسان و عالم الحيوان و عالم الجمادات و عالم الملائكة و جميع العوالم التي
نعلمها و التي لا يعلمها إلا الله. فأما قولي هو خالق الخلق أي قدّر الخلق
و وضع مخططا للخلق (إن جاز التعبير) قبل أن يُخرجهم من العدم إلى الحياة و ذلك في
علمه الذي وسع كل شيء. و مكوّن الأكوان أقصد به, الذي أخرج هذا الخلق كما
كان مقدرا في علمه وبرأهم و جعل لهم وجودا في هذا العالم, و التكوين يشمل التصوير
فأعطى كل خلق صورته. وأما قولي مدبّر العوالم فقصدت به القائم على جميع
الخلق ومدبّرهم و هو المهيمن على كل شيء, فهو الهادي لكل شيء خلقه وهو القائم
عليهم بما يحتاجونه للبقاء على حسب ما قدّر لهم مسبقا في علمه. وما ذكرت يشمل
عملية الخلق (أقصد هنا المعنى التقليدي الذي يتبادر إلى أذهان الناس اليوم) من
التخطيط إلى التحكّم. فالعملية تبدأ أولا في علم الله و هو التقدير و من ثم
التطبيق و هو الإيجاد و أخيرا الهيمنة و التحكّم. فالله سبحانه و تعالى هو موجد
هذا الوجود والعوالم و الأكوان و مربّيهم بالنعم ومدبّر هذا الوجود وحده. فالثناء
الأكمل لا يكون إلا لله وحده سبحانه وتعالى و ذلك لأنه رب العالمين, رب كل شيء كان
و ما هو كائن و ما سيكون.
والحكمة من قوله (الحمدلله) بدلا من قول (حمدا لله) هو لاستغراق الجنس أو
الأجناس و ذلك بمعنى أن جميع أجناس المحامد و الشكر والثناء التام الكامل لله. وقد
نوّه على هذا المعنى بعض من المفسّرين القدامى رحمهم الله, و هذا معنى دقيق, وذلك
لأنك عندما تُدخل الألف و الام في (حمد) تعطيه معنى إضافيا لا يمكن أن يتأتى في كلمة
(حمد) بدون الألف و اللام. وذلك لأنك لو أسقطت الألف و اللام وقلت (حمدا لله)
فكأنك خصصت و قيّدت وضيّقت, فجعلت نوعا من المحامد لله وهو حمد القائل, ولكن هناك
أنواع كثيرة ودرجات للحمد. فدخول الألف واللام يعني جميع المحامد و أنواع الثناء
الكامل وكأنك جعلت ماهية "الحمد" بجميع أجزائه لله.
يحسن بي أن أذكر في هذا المقام الفرق بين الحمد و المدح و الشكر, وقد فعل
ذلك كثير من المفسرين وأراه مناسبا في هذا السياق. وجدت تفريقا جيدا في تفسير ابن
كثير رحمه الله و أنا أنقل كلامه كما كتبه: "اختلفوا أيّهما أعم, الحمد أو
الشكر؟ على قولين, والتحقيق أن بينهما عموما وخصوصا, فالحمد أعم من الشكر من حيث
ما يقعان عليه, لأنه يكون على الصفات اللازمة والمتعدية, تقول: حمدته لفروسيته
وحمدته لكرمه. وهو أخص لأنه لا يكون إلا بالقول, والشكر أعم من حيث ما يقعان به,
لأنه يكون بالقول و العمل والنية, وهو أخص لأنه لا يكون إلا على الصفات المتعدية,
لا يقال: شكرته لفروسيته, و تقول: شكرته على كرمه وإحسانه إلي". و قد فرّق
ابن قيم الجوزية رحمه الله تفريقا ممتازا بين الحمد و الشكر في كتابه النافع:
"مدارج السالكين" فقال: " تفريقا أجمل من ابن كثير فقال: "أن الشكر
أعم من جهة أنواعه وأسبابه ، وأخص من جهة متعلقاته، والحمد أعم من جهة المتعلقات، وأخص
من جهة الأسباب .ومعنى هذا أن الشكر يكون بالقلب
خضوعا واستكانة، وباللسان ثناء واعترافاً، وبالجوارح طاعة وانقيادا .و متعلّقه : النعم دون الأوصاف الذاتية ، فلا يقال : شكرنا
الله على حياته وسمعه وبصره وعلمه ، وهو المحمود عليها كما هو محمود على إحسانه وعدله .والشكر يكون على الإحسان والنعم ، فكل ما يتعلق به الشكر
يتعلق به الحمد من غير عكس ، وكل ما يقع به الحمد يقع به الشكر من غير عكس ، فإن الشكر
يقع بالجوارح والحمد يقع بالقلب واللسان" وهذا تفريق نافع لا داعي عندي لمزيد
إضافة عليه.
وأما الفرق بين الحمد و المدح فقد قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: "أما
المدح فهو أعم من الحمد, لأنه يكون للحي و للميت و للجماد – أيضا – كما يمدح
الطعام و المال و نحو ذلك, ويكون قبل الإحسان وبعده, و على الصفات المتعدية و
اللازمة أيضا فهو أعم". وهذا التفريق دقيق و مفيد و أظن بأنه مُستفاد من تفسير
الفخر الرازي رحمه الله فإن الأخير قد فرّق بين الحمد و المدح من عدة أوجه. بالرغم
من أن ما ذكروه في الفرق بينهما (أقصد بين الحمد و المدح) مفيد ولكن أظنّه نوعا ما
قاصر وأظن بأنهم غفلوا عن معنى دقيق. ولبيان ذلك لابد من فهم معنى الحمد أولا, فإن
أخذنا معنى الحمد بأنه يشمل أنواع الثناء التام فإن المدح أيضا فيه من معاني
الثناء بل هو أعم من الحمد كما ذكر ابن كثير و الرازي رحمهما الله, فلسائل أن
يقول: "إن كان المدح أعمّ من الحمد فلماذا لم يقل الله سبحانه و تعالى:
(المدح لله) بدلا من (الحمدلله) ؟" أقول سبب ذلك أنك قد تمدح إنسانا أو شيئا وأنت
لا تحب هذا الشيء بل أحيانا قد تمدح عدوك فتقول مخطط بارع أو شيء من هذا القبيل,
أما الحمد فلا تقوله إلا لمن تحبه وليس فيه شيء سلبي. فإن كان فيمن تمدحه أمر سلبي
لم يحسن أن تحمده, بل ينبغي أن تمدحه إن كان أهلا للمدح و لذلك نجد في معاجم اللغة
يقولون في معنى: "حمد الشيء" رضي عنه و ارتاح إليه, فأنت قد تمدح إنسانا
لكنك لست راضيا عنه و لا ترتاح إليه. ثم إن المدح قد يكون في الشيء القبيح في ذاته
بخلاف الحمد فلابد أن يكون حسنا. قد تمدح رائحة كريهة ولكنك لن تحمد الرائحة
الكريهة و هذا يحصل كثيرا في الشعراء الذين يثنون على ما لا ينبغي أن يُثنى عليه.
فدائما لاحظ وجود هذا الشيء السلبي أو كما يقال باللغة الإنجليزية Negativity أو النقص فإن وجدت ذلك فلا يحسن لغويا أن تحمده ولكن ربما يجوز
مدحه وهذا المعنى دقيق و اختبره وستجده إن شاء الله صحيحا ولذلك لا يستحق أحدا
"الحمد" التام إلا الله سبحانه و تعالى.
وهنا مسألة, لماذا قال الله سبحانه و تعالى: ((الحمدلله)) و لم يقل مثلا
(الحمد للرحمن) أو (الحمد للرحيم) و غير ذلك من أسماء الله؟ إن كنت قرأت ما كتبته
سابقا في المدونة حول (بسم الله الرحمن الرحيم) ستفهم سبب ذلك. و لكن أقول مختصرا
بأن اسم الله هو الاسم الجامع والدال على جميع أسماء الله الحسنى, فاسم الرحمن
والرحيم و الملك و العزيز و الغفار و البارئ و المصور كل هذه الأسماء داخلة في اسم
"الله", فهذه واحدة. أما الثانية, لأن الله سبحانه و تعالى يستحق الحمد
على جميع أسمائه, فهو يستحق الحمد لأنه الرحمن و لأنه الرحيم و لأنه القدوس ولأنه
السلام فإن أراد المؤمن أن يحمد الله لأنه أنعم عليه, أو انتصر ممن ظلمه أو كفّه
شرّ عدوّه, فبدلا أن يقول الحمد للرحيم الحمد للعزيز الحمد للقوي, فإن بقي يذكر
أسماء الله و موجبات حمده لبقي طيلة حياته ولن يستطيع أن يحمد الله على جميع أسمائه
و صفاته (إن جاز التعبير) و أفعاله (إن جاز التعبير). فقول الله سبحانه و تعالى
(الحمدلله) تعليم للعباد كيف يحمدونه و فيها رحمة لهم و تسهيل عليهم و ذلك لأنهم بهذه
الكلمة يستطيعون أن يحمدوا الله دائما و أبدا إن أرادوا ذلك من غير مشقة.
ثم هناك معنا آخر, فالله عز و جل عندما قال (الحمدلله) فإنه أثنى على نفسه
كذلك, فلا يوجد في الخلق من يستطيع أن يحمد الله ويثني عليه تمام الحمد فمن أراد
ذلك فلابد أن يكون علمه مساويا لعلم الله ليعلم كل شيء عن الله ولكن الإنسان لا
يمكنه أن يحيط بعلم الله ولا حتى الأنبياء و المرسلين, بل لا شيء من خلقه من له
هذا العلم و الإحاطة. يُنسب للرسول صلى الله عليه و سلم بأنه كان يقول في دعائه:
"لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" فإن كان هذا صحيحا
فهذا اعتراف من الرسول صلى الله عليه و سلم بأنه لا يستطيع أن يحصي ألفاظ الثناء
على الله, فإن كان هذا هو قول سيد العارفين بالله فكيف بمن دونه! فكأن في هذه
الكلمة العظيمة: (الحمدلله) تخفيف من الله و فيه معنى أن الله يرضى بالقليل من
عباده و العمل الصالح يرفعه و كأنه والله أعلم أن هذا الثناء بالحمد هو من أحب
الثناء إلى الله فيما أنزله من كتاب من عنده. ومما يُنسب أيضا للرسول صلى الله
عليه و سلم هذا الحديث: "أحب الكلام إلى الله تعالى : أربع لا يضرك بأيهن بدأت
: سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر" وهذا يدلك
على أن صاحب هذه الكلمات إنسان ذو حظ عظيم من العلم. و يشبه هذا المعنى الذي ذكرته
ما كتبه الشيخ أحمد بن محمد بن عجيبة رحمه الله صاحب تفسير "البحر المديد في
تفسير القرآن المجيد" و أحب أن أنقل كلماته كما هي لأنها حرية بأن تُتدبّر,
قال الشيخ: "قال (أي الله) في توحيد نفسه بنفسه مترجما عن نفسه بنفسه, ((الحمدلله
رب العالمين)) فكأنه يقول في عنوان كتابه وسرّ خطابه: أنا الحامد والمحمود, وأنا
القائم بكل موجود, أنا ربّ الأرباب, و أنا مسبب الأسباب لمن فهم الخطاب, أنا رب
العالمين, أنا قيّوم السماوات والأرضين, بل أنا المتوحّد في وجودي, والمتجلّي
لعبادي بكرمي و جودي, فالعوالم كلها ثابتة بإثباتي, ممحوة بأحدية ذاتي" و هذه
الكلمات في قمة الجمال و فيها معاني كثيرة من تعمّق فيها ولكني لست بصدد شرحها فإن
أحتاج إلى كتابة عدة مشاركات لشرحها. أقف هنا و إن شاء الله ألقاكم في الجزء
الثاني من معاني (الحمدلله رب العالمين) , أسأل الله العلي العظيم, رب العرش
الكريم, أن يغفر لي ولوالدي وللمؤمنين و المؤمنات و أن يوفقني و يسددني ويلهمني
رشدي و يقيني شر نفسي و شر الشيطان. والسلام عليكم ورحمة الله و بركاته...
No comments:
Post a Comment