السلام عليكم
ورحمة الله و بركاته, هذه أول مشاركة أحوم فيها على ساحل (بسم الله الرحمن
الرحيم). لن أتطرّق في الخلاف الكبير حول البسملة, هل هي آية من القرآن, فإن كانت
آية فهل هي آية من الفاتحة, أم آية في كل السور إلا سورة التوبة؟ أم هي آية مستقلة
تفصل بين السور؟ أم أنها ليست من القرآن كقول المسلم (آمين), أم هي جزء آية من وضع
من جمعوا القرآن فجعلوها كآية مستقلة بداية وتبرّكا واستلهاما من كتاب سليمان عليه
السلام إلى ملكة سبأ ((إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ)) الذي عرفنا من قصتهما في سورة النمل أم
استلهموه من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم عند قراءته للقرآن بعد أن يستعيذ عملا
بأمر الله سبحانه وتعالى في كتابه. تفاصيل كل ذلك ستجدونه في كتب التفسير و الفقه إلا
أن آخر قولين لا أظنكم ستجدونهما في معظم كتب التفسير ربما لأنهم لم يفكروا في
الاحتمالين المذكورين أو ربما لأنها احتمالات بعيدة عندهم والله أعلم.
أما عن معنى بسم
الله أبدأ بذكر اسم الله, يبدأ القارئ
قراءته ويفتتح قراءته بذكر اسم الله الرحمن الرحيم أي يقرأ ما هو من الله و لله
يقرأه وبالله يستعين, فهو منه وله و به. أما قولي ما هو من الله أي ما سيكون
قبل قراءة القرآن وبعد التسمية سيكون من كلام الله وهذا التعبير مألوف عند الناس
إلى اليوم, فإنهم عندما يريدون تنفيذ أمر ملكي أو سلطان يقولون باسم فخامة الملك
فلان أطالبكم بكذا وكذا, أو باسم السلطان فلان آمركم بكذا وكذا. بل إننا نجد حتى
في أمور أبسط من ذلك, كما في مراسلاتنا اليومية في العمل. أحيانا نجد مدير هيئة
حكومية أو ما شابه ذلك يكتب في بداية كتابه: "باسمي مدير دائرة كذا وكذا يطيب
لي أن أقدم لكم جزيل شكري وامتناني على انجازكم...الخ" ولكن قد تقول ما وجه
قول القارئ بسم الله الرحمن الرحيم؟ سأجيب بأن الله هو من خلقك و خلق القدرة فيك
للقراءة و قابلية الفهم و ما إلى ذلك. فأنت في حقيقة الأمر لا تستطيع أن تقرأ لولا
أن الله خلق فيك هذه القدرة وخلق لك لسانا وفهما و عقلا وصوتا وسوّاك على ما أنت
عليه, فإنك نوعا ما تتبرأ من نفسك وتعترف بأن ما ستقرأه هو من الله فالقرآن ليس
كلامك و لست أنت من خلقته أو كتبته أو أتيت به بمجرد أنك تلفظ ما هو مكتوب أمامك, هو
من الله و قدرتك على ذلك هو فضل من الله وهكذا إن تعمّقت قليلا ستدرك ذلك.
وأما قولي (له) أي
لله, فكأنك عندما تبدأ باسم الله تقول هذه القراءة ليست لي ولكني أعمله لوجه الله,
فالمؤمن الحقيقي يكون مقصده هوة الله سبحانه وتعالى دائما وأبدا في حركاته و سكونه,
في جميع أقواله و أفعاله باختصار أن يكون مصداقا لقول الله سبحانه وتعالى: (( قُلْ إِنَّ صَلَاتِي
وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )) فإن ابتدأت أيها
القارئ لكتاب الله بالبسملة فتذكر ذلك جيدا. لا تقرأ ليُقال عنك ما أحسن صوتك أو
ليُقال عنك بأنه متمسّك بكتاب ربه وما أشبه ذلك, فكل هذه الأمور التي تطلبها مجرد
أوهام عما قليل ستدرك بأنها تضر ولا تنفع. أما عن قولي (وبه) فمعنى ذلك أنك تبدأ مستعينا
بالله متبركا باسمه, تعترف بضعفك و لولا الله سبحانه وتعالى لما استطعت أن تقرأ, فإنك أيها الإنسان على قيد الحياة بسبب مدد
من الله وقيوميته ولو انقطع هذا المدد منك لحظة لن أقول ستموت فحسب بل سترجع إلى
العدم وكأنك لم تكن. فكأن في البسملة شيء من معاني (لا حول ولا قوة إلا بالله).
وقبل التعمّق في
بعض معاني بسم الله الرحمن الرحيم, أحب أن أفصّل قليلا في أسماء الله "الله"
و "الرحمن" و "الرحيم". أما عن اسم الله فهو الاسم العلم لرب
العالمين, فإن تساءلت: "من هو الله" ففي الحقيقة لا أجد إجابة غير أن
أقول "الله". فاسم الله وإن كان يدل على الذات العلية فإنه ضمنيا يدل
على جميع أسمائه الأخرى ولوازم هذه الأسماء الكمالية فلذلك لم أجد إجابة غير
"الله" يعطي هذا الاسم حقه. ثم إنك عندما تريد أن تُعرّف الله فتقول هو
الرحمن الرحيم أو هو العزيز الغفار العليم ثم عندما يسألك أحدهم عن اسم
"العزيز" فأنت تقول هو من أسماء الله ولم أسمع أحدا يقول بأن "الله"
هو من أسماء العزيز فتأمل! ثم إن هذا الاسم هو من أخصّ الأسماء إذ لا يطلقه أحد
على غيره إلا قليلا ممن يدعون أنهم الرب جهلا وعدوانا. أما عن أصل الاسم وما قيل
في اشتقاقه وثمرات معرفة هذا الاسم و هل هو الاسم الأعظم أو لا فهذه التفاصيل
تجدونها في كتب "الأسماء و الصفات".
أما عن اسم
"الرحمن" فمعظم الناس يقولون بأنه مشتق من الرحمة وهو ذو الرحمة الواسعة
الذي عمّت رحمته كل شيء سواء المؤمن أو الكافر, وأنه قريب من معنى الرحيم و لكن
فرّق ابن القيم رحمه الله تفريقا طيبا أنقله لكم من كتاب تفسير المنار للشيخ محمد
رشيد رضا رحمه الله حيث نقل ذلك: "الرحمن دالّ على الصفة القائمة به سبحانه
أما الرحيم دالّ على تعلقها بالمرحوم وكأن الأول وصف و الثاني الفعل, فالأول دال
على أن الرحمة صفته – أي صفة ذات له سبحانه, و الثاني دال على أنه يرحم خلقه
برحمته – أي صفة فعل له سبحانه فإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى: ((وكان
بالمؤمنين رحيما)) ((إنه بهم رؤوف رحيم)) ولم يجيء قط رحمن بهم, فعلمت
أن رحمن هو الموصوف بالرحمة, و رحيم هو الراحم برحمته". أقول هذا التفريق
الحقيقة من أحسن ما قرأت في التفريق بين المعنى المتعارف لاسم الله
"الرحمن" ولكني بالرغم من ذلك لا أتفق بأن هذا هو معنى اسم الرحمن.
كتبت سابقا في
مدونتي عن معنى اسم الله الرحمن في القرآن, ولا أريد أن أعيد ما كتبته خشية
الإطالة فإن هذا الموضوع بحد ذاته بحاجة إلى عدة مشاركات. تأملت اسم "الرحمن" في القرآن الكريم فوجدت أن هذا الاسم بخلاف
ما يعتقده معظم المفسرين, فإن من تأمل آيات القرآن التي ورد فيها اسم الله الرحمن
وجد بأن في الاسم معاني الهيبة والعظمة والعزة والكبرياء ومعاني الملك وليس فقط
الرحمة. بل إني أظن أن ما قاله العلماء في معنى الرحمن بأنه ذو الرحمة الواسعة
الشاملة قد تكون بعيدة عن حقيقة هذا الاسم أعني "الرحمن", فإن هذا
المعنى أقصد ذو الرحمة الواسعة نجده في اسم الله: "الرحيم" ولكن لا
أدّعي أن معنى الرحمن لا يشمل الرحمة. فكما قلت في اسم "الله" بأنه يدل
على الأسماء الأخرى ولوازمها الكمالية فكذلك اسم الرحمن أو غيره من الأسماء. فبعد
تأملاتي في أكثر من 40 آية ذكرت فيها اسم الرحمن وجدت أن اسم الرحمن في القرآن على
ثلاثة أوجه: الوجه الأول: بيان لعظيم ملك الله وعظمته وكبريائه وهيبته وسعة
ملكه. الوجه الثاني: مناسبة مع الغيب (العالم الآخر أو كما يسميه بعض علماء
السلف الملكوت) و اليوم الآخر والوعيد. الوجه الثالث: متعلق بالقرآن الكريم
وتفصيل ذلك يطول جدا, باختصار أمور تتعلق بالربوبية و لكن سأعطيكم مثالين
لتوضيح ما ذكرت.
نجد في سورة مريم
أن اسم الرحمن ذكر مرات كثيرة, مثال ذلك ((قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت
تقيا)) تأمل! استعاذت مريم عليها السلام باسم الرحمن
ولم تقل أعوذ بالله العزيز أو أعوذ بالجبار أو القوي...الخ وهذا واضح لأن في حالة
الخوف والضعف الإنسان يستعيذ بأقوى شيء يعرفه. لعل سبب استعاذة مريم بالرحمن بدلا
من أي اسم آخر هو كونها امرأة ضعيفة. ويفهم من الآية أنه من المتعارف عندهم (في زمن مريم عليها السلام) أن اسم
الرحمن هو ذاك الاسم المهيب العظيم. أما إن أخذنا اسم الرحمن على المعنى المتعارف
عند أهل التفسير والناس عامة, ربما من أراد شرا بمريم سيقول: "نعم إن كان رحمانا
فسيغفر لي و سيسامحني فرحمته وسعت كل شيء...الخ" بخلاف إن ذكر أمامه اسم
يخافه ويهابه الكل. سأضرب لك مثالا لأوضح لك ما أقصده, تخيّل إن كان عندك انسان
حليم ورؤوف ورحيم وآخر قوي جبار قادر فبأي منهما ستخوف وتحذر وتهدد وتتقي؟ إن جاءك
سارق يريد أن يسرق منك, هل تهدده بإنسان رؤوف رحيم أم بالشرطة والمحكمة وغير ذلك؟
هذا واضح لمن تأمله والله أعلم. في نفس السورة نجد اسم الرحمن في الآية: ((يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن)) قالها إبراهيم عليه السلام يُحذّر والده ويذكره بالله فاستخدم الاسم
اللائق لمقام التخويف لأن لهذا الاسم كما قلت له علاقة قوية مع ملك الله وعظمته
ويوم القيامة والوعيد. ثم إن إبراهيم عليه السلام كان حريصا أن يؤمن والده فلم يكن
ليستخدم اسما من أسماء الله فيها معنى الرحمة الواسعة العظيمة فإن المقام مقام
تحذير وتخويف. وإن كان معنى اسم الرحمن كما هو متعارف عليه اليوم بين الناس فربما
كان في قلبه يكون: "هو الرحمن لن يعذبني" كما يقول معظم النصارى اليوم
خاصة عندما تدعوهم إلى الإسلام. ولذلك ذهب الشيخ صلاح الدين أبو عرفة بأن اسم الله
"الرحمن" هو الاسم الذي يخوف الله به عباده استدلالا بمثل هذه الآيات
وله كلام حسن وأدق من جميع ما قاله المفسرون في معنى اسم الله الرحمن ولكني أيضا
أقول بأن ما قاله جزء من معاني اسم الرحمن وسيتبين لكم ذلك.
المثال الثاني, قال الله سبحانه وتعالى في سورة يس ((إِنَّمَا تُنذِرُ
مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ
بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ)) تأمل! بما أن الموضوع فيه الغيب و خشية واتباع
للذكر فناسب استخدم الرحمن فهذا مناسبة وجهين وأيضا قال في سورة ق ((مَنْ
خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ)) و كما قلت في
البداية هناك وجه آخر متعلق بالقرآن والذكر, فقال الله من اتبع الذكر و قال في نفس
السورة ((قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَن
مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ)) تأمل قوله ما أنزل الرحمن وكأن
هناك مناسبة. وتأمل الوجه الثالث أقصد المناسبة بين اسم الرحمن ويوم القيامة تأمل
في نفس السورة قول الله سبحانه ((قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا
مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)) وكأن أخص اسم لله في يوم القيامة هو الرحمن,
تأمل ما قال الله سبحانه وتعالى في سورة النبأ ((يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ
وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لّا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ
وَقَالَ صَوَابًا)) هذا يوم القيامة, و تأمل ذكر الروح والملائكة وكلهم لا
يتكلمون من هيبة الله وعظمته وهذا يشبه آية سورة طه ((وخشعت الأصوات للرحمن)). هناك أمثلة
كثيرة غير الذي ذكرت, فمن أراد أن يفصّل في هذه المسألة فليرجع إلى مقالتي التي
كانت بعنوان: "كلمات عن معنى اسم الله الرحمن".
فإن قلت ما معنى اسم الله الرحمن, قلت لك مثل ما قلت في اسم "الله"
بأنه اسم علم ومخصوص لله سبحانه وتعالى. ويغلب على ظني بأنه الاسم علم لرب
العالمين ولذلك كان يعرفه كل من قوم ابراهيم و قوم مريم بنت عمران. فأقل ما يمكن
أن يُقال بأن هذا الاسم كان معروفا عندهم بخلاف العرب حيث عُرف عندهم اسم
"الله". بل حتى اسم إله الهندوس عندهم Brahman احذف أول حرف ويكون رحمن و هو عندهم بالرغم من شركهم وكثرة الآلهة
عندهم إلا أن الذي خلق السماوات والأرض والإله الأحد الذي ليس كمثله شيء هو الذي
ذكرت اسمه. فعندي على الأقل بأن اسم "الرحمن" هو اسم علم لرب العالمين
وليس المقصود به ما قاله المفسرون رحمهم الله.
أما عن اسم الله الرحيم فأقول بأنه يشمل ما قيل في اسم الرحمن سابقا و ما
قيل في اسم الرحيم. بأنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة والمتعلقة بخلقه, وأضيف و أقول
بأنه كما أنه يدل على الذات فإنه يدل على لوازم الاسم كذلك, فإن الرحيم يدل على
منشأ الرحمة وعلى أنها من الأسماء الثابتة. للعلم جعل الشيخ محمد عبده رحمه الله "الرحيم"
الصفة القائمة بالله سبحانه وأما الإمام ابن القيم رحمه الله جعل من الرحمن الصفة
القائمة بالله سبحانه وهذا الاختلاف نتج عندهم بسبب الاعتقاد المسبق في معنى اسم
الله "الرحمن" أما إن فهموا من اسم الرحمن كما فهمت أظن بأنهم لم يكونوا
ليفترقوا بل كانوا سيجمعون فيقولون بأن الرحيم الاسم الذي يدل على الصفة القائمة
بالله و كذلك الاسم الدال على تعلّقه بالمخلوقات ولهذا رحمة الله تامة وعامة و
الله أعلم.
أحب أن أقف هنا إلى أن أكمل في الجزء الثاني لاستخراج معان وحكم من
البسملة. أتمنى أن تصبروا و لا تزهدوا فيما أكتبه بسبب الإطالة فإنكم ستجدون فوائد كثيرة
ربما لن تجدوها في أي كتاب آخر, وطلب العلم بحاجة إلى صبر. وأقف أيضا لكي لا أثقل عليكم أيها القراء, فالهدف
من ما أكتبه في النهاية ليس طلبا للشهرة أو تبجحا بالعلم والعياذ بالله, إنما
أكتبه ليستفيد الناس مما أكتبه رجاء رضوان الله وبما أن النفس ملولة وأحيانا كسولة
ففضلت الوقوف. في المشاركة القادمة سأواصل إن شاء الله في استخراج بعض معاني بسم
الله الرحمن الرحيم و سيتبين لكم الفرق بين هذه الأسماء الثلاثة (الله, الرحمن,
الرحيم) أكثر, والحكمة من البسملة و مواضيع أخرى متعلقة بالبسملة. فما كان من صواب
فمن الله و ما كان من خطأ فمن نفسي, والله سبحانه وتعالى أعلم, والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته...
No comments:
Post a Comment