Tuesday, August 3, 2021

ترتيب خلق السماوات و الأرض

 

السماوات والأرض، أيها خُلقت أولا؟ قال الله عزّ وجلّ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) {البقرة ٢٩} وملاحظتي هي أنّ السماوات السبع سوّاهن الله بعد خلقه الأرض، وهذا ما لن يرتضيه أي إنسان يؤمن بنظريات العلم الحديث، وذلك عندهم أنّ الأرض كانت إحدى نتائج نظرية الانفجار العظيم، وبعد خلق السماء والفضاء! فإن قالوا إنّ نظرية الانفجار العظيم تخصّ فقط ما بين السماء والأرض، علينا أن نسألهم: ماذا كان خارج الوجود؟ هل كان عدما ثمّ جعل الله سبع سماوات أم ماذا؟ الإجابة الشافية عندهم في هذا الموضوع تكاد تكون مستحيلة.


من وجهة نظري الشخصيّة أنّ السماء كانت مخلوقة، كيف كانت لا أدري، لعلها دخان! والسبب في ذلك قال سبحانه: (استوى إلى السماء) فأثبت وجودها، ولم يقل بعدها خلقهن سبع سماوات بل (فسواهن) وإن أنت قرأت القرآن فلابدّ أنك قرأت (الذي خلقك فسواك فعدلك) وكذلك قوله عزّ وجلّ: (الذي خلق فسوى) الخلق سابق، فإن فهمت في تلك الآيات المراحل والاختلافات فَهِمْتَ هنا أيضًا، وعرفت أنّ السماء لها عدّة معان غير المعنى اللغوي الشائع! بل حتى المعنى اللغوي، لا يستقيم معنى العلو لولا وجود السفل، والله أعلم.


أُحبّ أن أنوّه أنّ مسألة خلق السماء والأرض وأيها خُلقت أولا هي من مسائل الخلاف وقبل التعرّض للخلاف. يجدر بي أن أذكر أنّ كثيرا من المُغرضين والشانئين الإسلام يشككون في هذا القرآن العظيم ويستهجنونه بسبب أنّ ظاهر القرآن الكريم يدلّ على أنّ الأرض خلقت قبل السماوات، وذلك يعني أنه يخالف ما توصل إليه العلم الحديث من أنّ الأرض تعتبر حديثة مقارنة بالسماء والمجرات والنجوم، فأطلقوا سهامهم المسمومة في قلوب بعض ضعاف المسلمين الذين يُسلّمون لكلّ ما يتوصل إليه الغرب، فقام بعض الشباب المسلم الغيور على دينه فراح يردّ هذه الشبهات متخيلا دحضها، مستخدما سلاح التغيير، بمعنى تغيير ظاهر المعنى وذلك لإثبات أنّ القرآن يتفق مع العلم الحديث. ونجحوا عند أنفسهم أنهم استطاعوا قلب الشبهة إلى نقطة من نقاط الإعجاز العلميّ في القرآن، لكن المسألة ليست كما قال المغرّض ولا المتحمّس، المسألة أنّ الأول انطلق من منطلق باطل، وقرأ قراءة صحيحة، أما الثاني فانطلق من منطلق صحيح، وقرأ قراءة خاطئة. أسأل الله أن يعيننا على هذا الجهل المحيط بنا، الشاهر رأسه في كلّ اتجاه ما إن تقطعه يتضاعف الجهل، ويشهر رؤوسه مجدّدا كأنه مخلوق الهايدرا الأسطوريّ المعروف في الأساطير الإغريقية، والله المستعان. 


أما من يأخذ بظاهر القرآن ويكون مؤمنا بأنّ الله حقّ وكلامه حقّ لما شقّ عليه البتّة ولقال: ما المشكلة أن يخلق الله الأرض قبل السماء، فهل الإنسان عندما يبني البيت يبدأ من السقف أولا أم من الأرض؟ هذا المثال يفهمه الفلاح في مزرعته والخباز في مخبزه والعالم في مختبره والراهب في صومعته.


على كلّ دعنا نستعرض ما قاله أهل التفسير بشأن هذه المسألة، قال البعض إنّ الأرض خُلقت أولا وآخرون قالوا السماء وآخرون قالوا خلق جرم الأرض أولا ثمّ خلقت السماوات ثمّ دحى الربّ الأرض فتمّ التوفيق بين الآيات التي توحي أنّ فيها اختلافا لضعيفي الفهم والعلم باللغة. وهذا الأخير هو الذي استروح إليه أكثر المفسرين المعاصرين. وأهمّ من نُسِب إليه هذا التوفيق هو ابن عباس إذ يُنسب إليه مقولته: "أنّ الله خلق السماوات والأرض، فلما فرغ من السماوات قبل أن يخلق أقوات الأرض فيها بعد خلق السماء، وأرسى الجبال، يعني بذلك دحْوَها الأقوات، ولم تكن تصلح أقوات الأرض ونباتها إلا بالليل والنهار، فذلك قوله: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) ألم تسمع أنه قال: (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا)".


قال عبد الله بن سلام: "إنّ الله بدأ الـخـلق يوم الأحد، فخـلق الأرضين فـي الأحد والاثنـين، وخـلق الأقوات والرواسي فـي الثلاثاء والأربعاء، وخـلق السموات فـي الـخميس والـجمعة، وفرغ فـي آخر ساعة من يوم الـجمعة، فخـلق فـيها آدم علـى عجل، فتلك الساعة التـي تقوم فـيها الساعة." وهذه الرواية المنسوبة إلى الصحابي عبدالله بن سلام تدلّ على أنّ خلق الأرض كان قبل السماوات. وقال مجاهد: "خـلق الأرض قبل السماء، فلـما خـلق الأرض ثار منها دخان، فذلك حين يقول: (ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) قال: بعضهنّ فوق بعض، وسبع أرضين بعضهنّ تـحت بعض" وعن الحسن خلق الله الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر، عليها دخان ملتزق بها، ثمّ أصعد الدخان، وخلق منه السماوات، وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض، فذلك قوله (كَانَتَا رَتْقاً) {الأنبياء ٣٠} وهو الالتزاق.


ذكر ابن جرير الطبري عدة أخبار عند توقفه عند هذه الآية التي نحن بصددها، أنقل لك إحداها، قال ابن جرير: "حدثنـي مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، قال: قال مـحمد بن إسحاق: كان أوّل ما خـلق الله تبـارك وتعالـى: النور والظلـمة، ثمّ ميز بـينهما فجعل الظلـمة لـيلاً أسود مظلـماً، وجعل النور نهاراً مضيئاً مبصراً، ثمّ سمك السموات السبع من دخان يقال والله أعلـم من دخان الـماء حتـى استقللن ولـم يحبكهن، وقد أغطش فـي السماء الدنـيا لـيـلها وأخرج ضحاها، فجرى فـيها اللـيـل والنهار، ولـيس فـيها شمس ولا قمر ولا نـجوم، ثمّ دحى الأرض، وأرساها بـالـجبـال، وقدّر فـيها الأقوات، وبثّ فـيها ما أراد من الـخـلق، ففرغ من الأرض وما قدّر فـيها من أقواتها فـي أربعة أيام. ثمّ استوى إلـى السماء وهي دخان كما قال فحبكهن، وجعل فـي السماء الدنـيا شمسها وقمرها ونـجومها، وأوحى فـي كلّ سماء أمرها، فأكمل خـلقهنّ فـي يومين. ففرغ من خـلق السموات والأرض فـي ستة أيام، ثمّ استوى فـي الـيوم السابع فوق سمواته، ثمّ قال للسموات والأرض: (ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) [فصلت: ١١] لـما أردت بكما، فـاطمئنا علـيه طوعاً أو كرهاً، قَالتَا: (أَتَيْنَا طَآئِعِينَ) [فصلت: ١١] ثمّ أردف قائلا: " فقد أخبر ابن إسحاق أنّ الله جلّ ثناؤه استوى إلـى السماء بعد خـلقه الأرض وما فـيها وهنّ سبع من دخان، فسوّاهنّ كما وصف.


قال ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: " ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولاً، ثمّ خلق السموات سبعاً، وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله، ثمّ أعاليه بعد ذلك، وقد صرح المفسرون بذلك


قال الزمخشري: "جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء". قال الفخر الرازي: "خلق بعد الأرض السماء ولم يجعل بينهما زمانا ولم يقصد شيئا آخر بعد خلقه الأرض" وقال الفخر الرازي أيضا: "قوله تعالى: (هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَاء) مفسر بقوله:(قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَـالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وَبَـارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ) [فصلت: ٩-١٠] بمعنى تقدير الأرض في يومين وتقدير الأقوات في يومين آخرين كما يقول القائل من الكوفة إلى المدينة عشرون يوماً، وإلى مكة ثلاثون يوماً يريد أنّ جميع ذلك هو هذا القدر ثمّ استوى إلى السماء في يومين آخرين ومجموع ذلك ستة أيام"


قال القرطبي: "يظهر من هذه الآية أنه سبحانه خلق الأرض قبل السماء؛ وكذلك في "حم السجدة". 

وقال في النازعات:(أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا) [النازعات: ٢٧] فوصف خلقها؛ ثم قال: (وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) [النازعات: ٣٠]. فكأنّ السماء على هذا خلقت قبل الأرض؛ وقال تعالى: (ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) [الأنعام: ١] وهذا قول قتادة: إنّ السماء خلقت أوّلاً؛ حكاه عنه الطبريّ. وقال مجاهد وغيره من المفسرين: إنه تعالى أيبس الماء الذي كان عرشه عليه، فجعله أرضاً وثار منه دخان فارتفع؛ فجعله سماء فصار خلق الأرض قبل خلق السماء، ثمّ قصد أمره إلى السماء فسوّاهنّ سبع سموات، ثمّ دحا الأرض بعد ذلك، وكانت إذ خلقها غير مَدْحُوّة.  قلت: وقول قتادة يخرج على وجه صحيح إن شاء الله تعالى، وهو أنّ الله تعالى خلق أوّلاً دخان السماء ثمّ خلق الأرض، ثم ٱستوى إلى السماء وهي دخان فسوّاها، ثمّ دحا الأرض بعد ذلك. 


ومما يدل على أنّ الدخان خلق أوّلاً قبل الأرض ما رواه السُّدِّي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ٱبن عباس، وعن مُرّة الهَمْدانيّ عن ٱبن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله عزّ وجلّ: (هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) قال: إنّ الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئاً قبل الماء؛ فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخاناً فارتفع فوق الماء، فسَما عليه، فسمّاه سماء؛ ثم أيبس الماء فجعله أرضاً واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين، في الأحد والاثنين. (هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّهُنَّ سَبْعَ سَمَاواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فجعل الأرض على حُوت ـ والحُوت هو النُّون الذي ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن بقوله: (نۤ وَٱلْقَلَمِ) [القلم:١] والحوت في الماء والماء على صَفاة، والصفاة على ظهر ملَك، والملَك على الصخرة، والصخرة في الريح ـ وهي الصخرة التي ذكر لقمان: ليست في السماء ولا في الأرض - فتحرّك الحوت فاضطرب؛ فتزلزلت الأرض؛ فأرسل عليها الجبال فقرّت؛ فالجبال تفخر على الأرض، وذلك قوله تعالى: (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ) [النحل: ١٥] وخلق الجبال فيها، وأقوات أهلها وشجرها، وما ينبغي لها في يومين، في الثلاثاء والأربعاء، وذلك حين يقول: (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ) [فصلت ٩-١٠] يقول: من سأل فهكذا الأمر، (ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ) [فصلت: ١٢] وكان ذلك الدخان من تنفّس الماء حين تنفّس؛ فجعلها سماء واحدة، ثمّ فتقها فجعلها سبع سموات في يومين، في الخميس والجمعة؛ وإنما سُمّي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض، (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا ) [فصلت: ١٢] قال: خلق في كل سماء خَلْقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البَرَد وما لا يُعلم؛ ثم زَيّن السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زِينة وحِفْظاً تحفظ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحبّ ٱستوى على العرش؛ قال فذلك حين يقول: (خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) [الحديد: ٤] ويقول: (كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا)" 


وفي النهاية توقف القرطبي، وقال: "والله أعلم بما فعل؛ فقد ٱختلفت فيه الأقاويل، وليس للاجتهاد فيه مدخل".


و في تفسير الجلالين: "(هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأَرْضِ) أي: الأرض وما فيها (جَمِيعاً) لتنتفعوا به وتعتبروا (ثُمَّ ٱسْتَوَى) بعد خلق الأرض". وقال الخازن في تفسيره: "خلق الأرض أولاً ثمّ عمد إلى خلق السماء. فإن قلت كيف الجمع بين هذا وقوله تعالى: (والأرض بعد ذلك دحاها) [النازعات: ٣٠] قلت: الدحو البسط، فيحتمل أنّ الله تعالى خلق جرم الأرض، ولم يبسطها ثمّ خلق السماء وبسط جرم الأرض بعد ذلك، فإن قلت هذا مشكل أيضاً لأنّ قوله تعالى خلق لكم ما في الأرض جميعاً يقتضي أنّ ذلك لا يكون إلاّ بعد الدحو. قلت: يحتمل أنه ليس هنا ترتيب وإنما هو على سبيل تعداد النعم كقوله الرجل لمن يذكره ما أنعم به عليه: ألم أعطك؟ ألم أرفع قدرك؟ ألم أدفع عنك؟ ولعلّ بعض هذه النعم متقدمة على بعض والله أعلم". ولعلّ أحسن ما قيل هو قول أبو حيان في تفسيره: " والذي تدل عليه هذه الآية أن خلق ما في الأرض لنا متقدم على تسوية السماء سبعاً لا غير، والمختار أن جرم الأرض خلق قبل السماء، وخلقت السماء بعدها، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء، وبهذا يحتمل الجمع بين الآيات".


وعند الشوكاني كلام مهمّ: وقد استدلّ بقوله: (ثُمَّ ٱسْتَوَى) على أنّ خلق الأرض متقدّم على خلق السماء. وكذلك الآية التي في "حم السجدة". وقال في النازعات: (أأنتم أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَاء بَنَـاهَا) {النازعات ٢٨} فوصف خلقها، ثم قال: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـاهَا) {النازعات ٣٠} فكأنّ السماء على هذا خلقت قبل الأرض، وكذلك قوله تعالى: (ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـاواتِ وَالأرْضَ) {الأنعام ١} وقد قيل إنّ خلق جرم الأرض متقدّم على السماء، ودحوها متأخر. وقد ذكر نحو هذا جماعة من أهل العلم، وهذا جمع جيد لا بدّ من المصير إليه، ولكن خلق ما في الأرض لا يكون إلا بعد الدحو، والآية المذكورة هنا دلت على أنه خلق ما في الأرض قبل خلق السماء، وهذا يقتضي بقاء الإشكال، وعدم التخلّص عنه بمثل هذا الجمع."


قال النسفي في تفسيره: "قوله تعالى: (ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَاء) {فصلت: ١١}، أي أقبل وعمد إلى خلق السموات بعد ما خلق ما في الأرض من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر." وقال أيضا: "لأنّ جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء وأما دحوها فمتأخر". وقال الثعالبي المفسر المعروف: "وهذه الآية تقتضي أنّ الأرض وما فيها خُلِقَ قبل السماء، وذلك صحيحٌ، ثمّ دحيت الأرض بعد خلق السماء، وبهذا تتفق معاني الآيات هذه والتي في سورة «المُؤْمِنِ»، وفي «النازعات»." وفي تفسير البقاعي: "خلق الأرض وتهيئتها لما يراد منها قبل خلق السماء، ودحوها بعد خلق السماء".


وفي التفسير الإباضي نجد مثلا عند اطفيش: "والآية دليل على أنّ الأرض وما فيها مخلوقان قبل السماء أما على أنّ المراد بالأرض في الآية جهتها فواضح كما مرّ، وأما على أنّ المراد بها هذا الجسم، فلأنّ خلق ما فيها قبل السماء مشعر بخلقها قبل السماء، لأنّ المتبادر أنه خلق ما في الأرض، وجعل الأرض مستقرة، لا أنه مخلوق في الهواء ثمّ جعل له الأرض مستقرا، وإنما استفدنا الأرض من لفظة ثم، لأنها للترتيب والانفصال ولا يشكل على ذلك قوله تعالى: (والأرض بعد ذلك دحاها) أي بعد خلق السماوات، لأنّ المتأخر عن خلق السماوات إنما هو دحوها، أي يبسطها، فالله - جلّ وعلا - خلق الأرض مكورة، ثمّ خلق سبع سماوات، ثمّ بسط الأرض، وإن قلت لا يلائم بحسب العادة وما يظهر لنا أن يخلق لنا ما في الأرض وهى كرة. قلت هو منكر ممكن لعظمها فكوريتها لا تمنع من تمكن الأشياء عليها، ويمكن عود الإشارة في قوله: (بعد ذلك) على وصف السماء، وهو تسويتها سبع سماوات، فجرم الأرض مقدم على جرم السماء، ووصف السماء وهو تسويتها سبعاً، مقدم على وصف الأرض وهو بسطها، وهذا يناسبه أن تجعل السماء في قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إلىَ السَّمآءِ) في فضله جسما علويا. موجودا بعد خلق الأرض في غلظة سبع سماوات، دحا الأرض بعد فتقه سبعاً." وبعد أن استعرض أقوال المفسرين قال: "والتحقيق ما ذكرته لك أولا من أنّ الأرض قبل السماء، وبسط الأرض بعد تسوية السماء جميعاً بين الآيات." 


و أخيرًا في تفسير ابن عرفة هناك فرضية إجابة لهذا السؤال الكبير وأنقله لك للفائدة: "و يمكن أن يقال: "خُلِقت السماوات والأرض ملتصقة، ثمّ خلقت الأرض ودحيت، ثمّ فصلت السماوات وصيرت سبعا والله أعلم؟"


كما ترى أكثر المفسرين أخذا بظاهر القرآن أنّ الأرض مخلوقة قبل السماوات، فمن أجل ذلك أشكل عليهم قول الله سبحانه وتعالى: (والأرض بعد ذلك دحاها) وإلا لو كان ظاهر القرآن أنّ السماوات قبل الأرض لما وجدوا أنفسهم بحاجة إلى التوفيق بين الآيات ودفع إيهام الاضطراب بينها. واعلم أنّ هذه الآيات تضرب ضربة قوية لما يقوله العلم المعترف به اليوم، وهو أنّ الأرض نشأت قبل أربعة ونصف مليار سنة وأما الكون فنشأ قبل قرابة أربعة عشر مليار سنة، فكيف يستقيم هذا مع ظاهر القرآن الكريم والأخبار النبوية وأخبار الصحابة والتابعين والعلماء بشتى طوائفهم والمنطق والعقل السليم؟ حقا إنّ بعض منا قبل أن يفقه ما اختاره رأيا وعقيدة آمن بما تمّ طرحه من غير فحص وتحقيق، وكما أقول دائما، من لم يؤمن بالله وبكلامه فلابدّ أنه آمن بشيء غيره، ولابدّ ولا مفرّ من ذلك. 



عبدالعزيز النظري

تويتر

انستغرام


No comments:

Post a Comment