Tuesday, August 3, 2021

الليل و النهار

 


لا أعرف إن كان أحد سبقني بهذا، لكن لا أشكّ بوجود من سبقني، دعني أقلها صراحة هنا من غير استحياء، وهو أني أحسب أنّ الليل والنهار مخلوقان غير الشمس والقمر، أي أنهما جواهر لا أعراض، مثلها مثل الشمس والقمر،. فإن تساءلت: ما الفرق بين الجوهر والعرض فإنّ الجوهر هو الموجود القائم بنفسه، ويعنون بذلك الذات والحقيقة والماهيّة مع اختلافات عند علماء الكلام إذ عندهم أنّ الجوهر الموجود القائم بنفسه المتحيّز بالذات، والعرض هو الذي لا يوجد قائماً بذاته. وأبسط مثال أنّ الإنسان جوهر، لكن فرح الإنسان (الفرح) من الأعراض، لأنه لا ثبات له وهو عارض يعرض، ويزول ولا يقوم بنفسه، فليس هناك قائم بنفسه يسمى الفرح، ولا يمكن عادة تخيل الفرح كهيئة ماهية أو ذاتية أو جوهرية بخلاف إن قلت الإنسان فإنك تتخيل الهيئة المعروفة للإنسان، وهكذا.


الناس يقولون: إنّ الليل والنهار أعراض، وجوهرها الشمس، فإنّ وجود الشمس يلزم وجود عارض النهار، وغياب الشمس يلزم اختفاء النهار ومجيء الليل، وهكذا. أما أنا فأقول إنّ الليل والنهار جوهران كما أنّ الشمس والقمر جوهران، ولا يمنع أن يكون هناك سبب بينها جميعا كما جعل الله الأسباب بين الكثير من مخلوقاته. قال الله عزّ وجلّ في سورة الأنبياء: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) من ظاهر الآية والمتبادر إلى الذهن أنها أربعة أشياء مخلوقة خلقها الله، وظاهر الآية وسياقها أنّ كلًّا في فلك يسبحون عائدة إلى الأربعة، الليل والنهار والشمس والقمر، ولا أرى دليلا قويا لمن قال إنها عائدة فقط على الشمس والقمر.


 هذا يعني أنّ الليل له فلك يدور فيه، كذلك النهار، كذلك الشمس، كذلك القمر، وكون وجود فلك لكلّ من الليل والنهار يتوافق مع قوله عزّ وجلّ: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۖ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۗ أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ). وإنّ المتأمّل في الآيات القرآنية يجد لما يذكر الله سبحانه وتعالى سيجد بعدها جواهر كالسماوات وكالأرض والإنسان والشمس والقمر وغيرها من الجواهر لا الأعراض، فما الذي جعلهم يقولون: إنّ الليل والنهار هما أعراض؟ فإن قلت ماذا ستقول عن قول الله سبحانه وتعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) أقول الإجابة في قوله :(أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ) والذي يظهر لي أنها ليست مجرد أعراض، وفي الحديث المتفق عليه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي يَا أَهْلَ النَّارِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ، ثُمَّ يَقُولُ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، ويَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ)، وَهَؤُلَاءِ فِي غَفْلَةٍ أَهْلُ الدُّنْيَا (وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) " والله أعلم.


هناك آية أخرى شبيهة بهذه الآية، وهي قوله سبحانه وتعالى: (لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) وقال في سورة الأنعام: (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) وقال في سورة إبراهيم: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) كذلك ذكر في سورة النحل: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فذكر تسخير الشمس والقمر وفي نفس الآية ذكر تسخير الليل والنهار سبحان الله وكأنها أشياء أربعة مختلفة. وقال من آياته: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ۚ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) فهذا يدلّ أنّ آياته أربع مذكورة في هذه الآية إذ قال الليل والنهار والشمس والقمر.


وذكر في سورة الشمس ما يتبادر إلى الذهن من ظاهره أنّ النهار يُجلي الشمس: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا) فهذه أشياء تتعلق بالشمس على ظاهر الآية، فالقمر تتلوها والنهار يجليها والليل يغشاها. هذا يعني أنّ النهار من وظائفه أنه يجلي الشمس والليل يغشاها. ومن تأمّل حالات الليل المذكورة فقط في الجزء الثلاثين جزء عمّ وجد ست حالات مذكورة أقسم الله بها، يصعب جدًّا معها أن نعتبر الليل مجرد عرض بل ظاهره أنه مخلوق مستقلّ، فإنّ الله قال في كتابه: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) (وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا) ستة كاملة بعدد أيام خلق السماوات والأرض في ستة أيام كلّها تثبت أنّ الليل هي الفاعلة وهي المتحركة، وهي التي تسبح كما قال الله، وليست ناتجة عن دوران الأرض حول الشمس كما زعموا. والله المستعان.


تأمل في أكثر من آية يجيء ذكر الليل والنهار قبل الشمس والقمر. إضافة إلى ما سبق ذكره تأمّل معي: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) وقال في سورة لقمان: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وقال في سورة فاطر: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۚ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ) وقال في سورة الزمر: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۖ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۗ أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) وقال في سورة فصلت: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ۚ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).


هذا الترتيب لا يمكن أن يكون عبثيا، ولابدّ من حكمة بالغة خلف الترتيب. والذي يظهر لي أنّ خلق الليل والنهار متقدّم على خلق الشمس والقمر، والحمد لله. ما جعلني مطمئنًّا لهذا الرأي أكثر وجود هذه الحقيقة في التوراة ساطعة في أول سفر من أسفار التوراة وهو سفر التكوين. لأن الله خلق الليل والنهار في أول يوم بينما خلق الشمس والقمر في اليوم الرابع. وبالتأكيد استخدم المؤمنون بالعلم الحديث هذه الحقيقة في الطعن في التوراة، وأنه كتاب متخلف علميًّا، لكن يبدو لي أنّ القرآن يصدق ذلك بالإشارة في هذه الآيات أنّ خلق الليل والنهار متقدم على خلق الشمس والقمر. سبحان الله، كلما بحثت في القرآن أو التوراة في شأن خلق السماوات والأرض والليل والنهار والشمس والقمر وجدت توافقا عجيبا أعجز إلا أن أقول كما قال النجاشي: (ليخرج من مشكاة واحدة) وأن التحريف المزعوم وإن تنزلنا وأخذنا بأنها محرفة حرفيا فإنّ هذه الجزئيات المتعلقة بخلق السماوات والأرض لم تُفسدها أيدي التحريف.


تأمل معي -عزيزي القارئ- قول الله سبحانه وتعالى في سورة النازعات: (أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ۚ بَنَاهَا (٢٧) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا (٣٠)) تأمل الرابط بين الليل والنهار والسماء، ثمّ تأمل ثانيا كيف أنه ذكرهما قبل خبر دحو الأرض، فهذا يدل على أنّ الليل والنهار من أبناء السماء إن صح التعبير وجوهر وليس بعرض من أعراض شروق الشمس أو غروبها.


يبدو من هذه الآية أنّ آيتي الليل والنهار أعظم وأعجب وأدلّ على قدرة الله سبحانه وتعالى من الشمس والقمر. ولعله لهذا السبب نجد ذكر أنّ الليل والنهار من آياته، في حين ذكر أنّ الشمس والقمر من آياته قليلة جدًّا، وقد تكون آية وحيدة أو آيتين، إن لم تخنّي الذاكرة. 


لاحظ كذلك أنّ آية الليل والنهار قد تشمل على من عند الله من الملائكة، فإنّ الله عزّ وجلّ قال في كتابه في سورة الأنبياء: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) قال ابن جرير الطبري: "يسبح هؤلاء الذين عنده من ملائكة ربهم اللـيـل والنهار لا يفترون من تسبـيحهم إياه" وقال ابن كثير: "فهم دائبون في العمل ليلاً ونهاراً، مطيعون قصداً وعملاً". وقال الله عزّ وجلّ في آية أخرى في سورة فصلت: (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ) لاحظ أنّ الله امتدحهم بأنهم يسبحون الليل والنهار، والملائكة المتعارف عليه عند الناس أنها لا تعيش على أرض كروية بل الغالب أنها في السماء، ولهذا قال الله: (فالذين عند ربك) وهذا المتبادر إلى الذهن. كذلك في السنة النبوية نجد حديثا مشهورا معروفا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعرفه العامي والعالم، وهو أنّ نبـيّ الله صلّى الله عليه وسلّم بـينـما هو جالس مع أصحابه، إذ قال: " تَسْمَعُونَ ما أسْمَعُ؟ " قالوا: ما نسمع من شيء يا نبـيّ الله قال: " إنّـي لأسْمَعُ أطِيطَ السَّماءِ، ومَا تُلامُ أنْ تَئِطَّ وَلَـيْسَ فِـيها مَوْضِعُ رَاحَةٍ إلاَّ وَفِـيهِ مَلَكٌ ساجِدٌ أو قَائمٌ". 


فأين الليل والنهار في فضاء العلم الحديث؟ وأيّ شمس هي المسؤولة عن الليل والنهار في السماء؟ هذه الآيات تدلّ أنّ الليل والنهار آيتان عظيمتان منفصلتان عن آيتي الشمس والقمر، وليس هناك مانع أن يكون هناك سبب بين هذه الآيات كلها. فإنّ الليل والنهار آيتان، وآية دخول وقت أحدهما طلوع الشمس أو غروبها، فالغرض الأساسي من الشمس والقمر برأيي هو لمعرفة السنين والحساب، وآية على دخول وقت الليل والنهار. وربما لذلك نجد في القرآن الكريم قول الله عزّ وجلّ: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا) وقال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) وقال: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) كذلك في التوراة في سفر التكوين عندما يأتي فيه ذكر الشمس والقمر نجد في النصّ الرابع عشر: "وقال الله: لتكن أنوار في جلد السماء لتفصل بين النهار والليل، وتكون لآيات وأوقات وأيام وسنين". في أكثر آيات الليل والنهار، فإنّ الليل للسكن والراحة والنهار لابتغاء الفضل، فأغراضهما معروفة، كذلك أغراض الشمس والقمر معروفة. وكما قلت سابقا لا يمنع أن تكون الشمس من أغراضها الإضاءة المحدودة، كذلك القمر الإنارة المحدودة، وهذه الآيات المذكورة فيها من العلوم الشيء الكثير. وفي جعبتي كلام كثير عنها لن يستوعبها هذا الكتاب، وأخشى ألا يستوعبه جمهور القراء، لا غرورا والعياذ بالله، لكن خشية الخروج عن مقصد الكتاب، إذ الشرح والكلام سيطول كثيرًا.


قال الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ۚ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) تأمّل قول الله سبحانه وتعالى: (يقدر الليل والنهار) ولم يذكر الشمس والقمر، فإن كان الليل والنهار عرضا لا جوهرا فصعب عليّ فهم سبب ذكره الليل والنهار. وهناك عدة آيات تثبت أنّ الليل فاعل غير مفعول به.


قال الله في سورة القصص: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَه غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لماذا لم يقل في هذه الآيات أمسك الشمس أو شيء له علاقة بالشمس؟ ألا تدلّ هذه الآيات أن الليل والنهار خلق مختلف عن الشمس والقمر وأنها ليست أعراضا لطلوع الشمس أوغروبها؟ 


فإن قلنا إنّ النهار شيء والشمس شيء آخر يتبادر إلى الذهن هل سيكون هناك نهار لولا الشمس؟ الله أعلم. لكن الذي أرجحه أقول نعم، إنما الشمس آية للنهار، وأنّ النهار قد جاء وقته وعلامة والنهار يجلي الشمس. 

عشنا سنوات كثيرة بحمد الله، وعايشنا ظاهرة كسوف الشمس، ولم أسمع يوما حتى الآن من رأى النهار عند حدوث الظاهرة مظلما بسبب كسوف الشمس. فإن قلت إذن ما بالنا نرى النهار مع الشمس بشكل دائم، حسن لا بأس دعني أتنزّل وأقول ذلك حقيقة بالرغم من أني بشكل يومي أرى نور النهار في السماء قبل شروق الشمس، لكن بالتأكيد يقوى نور النهار بشروق الشمس. على كلّ إن قلنا إنّ هناك علاقة كما قلت إنّ النهار والشمس دائما معا كيف إذن تفرق بينهما؟ وتقول إنّ النهار جوهر، كذلك الشمس. هذا ممكن. تخيّل معي أن يكون النهار على شكل دائرة كاملة في فلكها وتدور الشمس تحت أو فوق أو في فلكها، فأينما حلت كان نهار وذلك لأنها بداخل سلطان النهار أو دائرة نطاق النهار. هل تعرف شعار الين يانغ الصيني؟ ألا تجدهم يضعون في اللون الأبيض نقطة سوداء، وفي اللون الأسود نقطة بيضاء، تخيل النهار كاللون الأبيض، والشمس كالنقطة السوداء بداخلها، ولها سرعة وحركة متساوية، وهكذا يكون الاثنان جوهرين مختلفين، لكن من دقة النظام تجد هذا التلازم. حاول أن ترسمها ثمّ احكم بنفسك، أليس هذا محتملا؟ أقول: نعم ممكن بل هو ما يظهر لي أنه الأقرب إلى الصواب.


هناك أمر آخر، وهو أني أحسب أنّ الظلمة أو الليل جاء إلى هذا الوجود قبل النهار أو أنّ أمره أكبر من النهار، ولا يعني أنه أكبر بمعنى أنه أفضل بالضرورة. ذكر الليل في القرآن حوالي ٩٢ مرة في حين النهار حوالي ٥٧ مرة. وكثيرا ما نجد في القرآن عندما يذكر الليل والنهار يبدأ بالليل فقال سبحانه: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ) وقال: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) وقال: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) وقال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) وقال: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً) وهكذا في آيات كثيرة الليل يسبق ذكره ذكر النهار. 


نعم الليل وفضائله كثيرة، لكن هذا يشير أيضا أنّ الليل جاء إلى هذا الوجود قبل النهار كما تشير الآية التالية: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) وهذا يشبه كثيرا ما هو مذكور في التوراة أنّ الظلمة كانت في البداية ثمّ جعل الله النور أو النهار. نجد في التوراة في سفر التكوين أول نصوص فيها: 


"١ في البدء خلق الله السماوات والأرض ٢ وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه  ٣ وقال الله: ليكن نور، فكان نور  ٤ ورأى الله النور أنه حسن. وفصل الله بين النور والظلمة  ٥ ودعا الله النور نهارا، والظلمة دعاها ليلا. وكان مساء وكان صباح يوما واحدا" وكأن الظلمة أُمّ النهار أو إن شئت قل أُم المخلوقات التي جاءت بعد خلقة السماوات والأرض أوهذا الوجود الإنساني. نجد في الحديث النبوي: (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ، ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ يَوْمَئِذٍ) فالذي يظهر لي أنّ الليل أو الظلمة سبقت وجودها النهار وسبق وجودها الشمس والقمر. قال سبحانه: (وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ) فكأن النهار منزوع من الليل أو كأنه جلد على الليل، ولهذا نجد الله يذكر عن الليل: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) وقال: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا). 


تأمّل في قوله سبحانه وتعالى (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) وغشى رأسه يعني غطى رأسه، ويقولون غشّى الشيء أي غطّاه الذي يتبادر إلى الذهن أن يغشى أو يُغشي يغطيه من فوق ويقولون غشي الرجل زوجته أي جامعها وعلاها وكان لها غطاء، وقال الله في سورة الأعراف: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ۖ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ۖ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) ويغشى السّدرة يعني يُغطيها ويسترها وفي سورة النجم: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى) كذلك قوله في سورة النور: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) فمن الآيات المذكورة نستدلّ أنّ الغشيان يكون عادة من فوق، ويكون كالغطاء، كذلك الليل بالنسبة للنهار فهو الذي يغشي النهار ويغطيه. ولعلّ هذا السبب كلما ارتفع الإنسان نحو السماء أظلم العالم بالنسبة إليه، لأنه شارف الخروج من نطاق النهار، ودخل في نطاق الليل العظيم. والله أعلم.



عبدالعزيز النظري

تويتر

انستغرام



No comments:

Post a Comment