(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) {سورة الرعد ٣}
ظاهر هذه الآية يوحي أنّ الأرض مسطّحة، إذ لم نسمع عن كرة ممدودة، هل سمعت من يقول عن الكرة التي يركلها الصبيان، أو التي يلعب بها لاعبو كرة القدم أنّها ممدودة؟ لكن لما كثر المؤمنون بنظرية الأرض الكروية، وانتشرت في العالم أجمع، وصدّقها الناس صغارًا وكبارًا، وصارت النظرية تُدرس في المدارس على أنّها حقيقة علمية لا مراء فيها اضطرّ بعض المفسرين أن يجدوا مخرجًا لأنّهم توهموا أن القرآن سيكون في ورطة، و راحوا يُوفقون بين آيات القرآن وأقوال أصحاب الهيئة، فجاؤوا بتوفيق لا بأس به كما فعل الفخر الرازي من قبل. كل إنسان يفهم ما يقرأ و يفقه اللسان العربي يعرف أنّ توفيقهم يُخرج الآيات من ظاهر معانيها. ماذا كان عليهم لو جعلوا ظاهر القرآن متفقا مع الحقيقية الكونية وهي كون الأرض مسطّحة؟ لِمَ لمْ يجعلوا لكون الأرض مسطّحة احتمالًا واحدًا!؟ للأسف بسبب الضغوطات النفسية التي واجهتهم من كلّ جهة كما الحال اليوم، شقّ عليهم بل كَبُرَ أن يقولوا: "ما ذهبتم إليه خطأ!“ و كان الأولى أن يُقدّموا القرآن ثم يطوعوا النظريات العلمية لها، لا العكس. حقا إن الرهبة النفسيّة تضرب حُجُبا على عقل المرء.
المهمّ دعنا نستعرض بعض ما قاله المفسرون في تفاسيرهم للآية. أولا بعض المرويات منسوبة للصحابي ابن عباس المُلقّب بترجمان القرآن قال: "بسطها على الماء". وفي بعض المرويات غير المحققة في الحلية لأبو نعيم، عن وهب بن منبه، قال: "ما العمارة في الدنيا في الخراب إلا كفسطاط في البحر". وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "الأرض سبعة أجزاء: ستة أجزاء فيها يأجوج ومأجوج، وجزء فيه سائر الخلق.". وفي تفسير مقاتل بن سليمان: "يعني بسط الأرض من تحت الكعبة، فبسطها بعد الكعبة بقدر ألفي سنة، فجعل طولها مسيرة خمسمائة عام، وعشرها مسيرة خمسمائة عام“. وقال الأصمّ: "إنّ المدّ هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه".
وقال ابن جرير الطبري: "والله الذي مدّ الأرض، فبسطها طولاً وعرضاً". قال القرطبي: "أي بسط الأرض طولاً وعرضاً" وقال بعدها: "في هذه الآية ردّ على من زعم أنّ الأرض كالكرة، وردّ على من زعم أنّ الأرض تهوِي أبوابها عليها؛ وزعم ابن الرَّاوندي أنّ تحت الأرض جسماً صَعَّاداً كالرِّيح الصعَّادة؛ وهي منحدرة فاعتدل الهاوي والصعادي في الجِرْم والقوّة فتوافقا. وزعم آخرون أنّ الأرض مركبة من جسمين، أحدهما منحدر، والآخر مصعد، فاعتدلا، فلذلك وقفت. والذي عليه المسلمون وأهل الكتاب القول بوقوف الأرض وسكونها ومدّها، وأنّ حركتها إنما تكون في العادة بزلزلة تصيبها."
قال الفيروز آبادي في تفسيره: "بسط الأرض على الماء". و قال الطبراني: "بسَطَها طُولاً وعَرضاً" وقال ابن كثير رحمه الله: "أي جعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض" وقال الفراء بسطها طولاً وعرضاً. و قال السمرقندي في بحر العلوم: "بسط الأرض من تحت الكعبة على الماء، وكانت تكفي بأهلها كما تكفي السفينة فأرساها الله بالجبال“. وقال الماوردي: "أي بسطها للاستقرار عليها، رداً على من زعم أنها مستديرة كالكرة".
قال ابن عطية: " يقتضي أنّها بسيطة لا كرة - وهذا هو ظاهر الشريعة" وصدق في كلامه بالرغم من محاولة الآلوسي المفسّر المعروف ردّ هذه المقولة، وبالتأكيد لم يكن لِيَرُدّ الآلوسي ذلك لولا أنه يُقلّد الفخر الرازي في كثير من الأمور، وهذه إحداها، وكان بالتأكيد تحت وطأة نتائج ما كان يُبَث من أخبار بشأن شكل الأرض في أيامه.
أما الفخر الرازي الذي راح ينصر قول كروية الأرض نقل قبلها أقوال الناس: "قال قوم كانت الأرض مدورة فمدها ودحا من مكة من تحت البيت فذهبت كذا وكذا. وقال آخرون: كانت مجتمعة عند البيت المقدس فقال لها: اذهبي كذا وكذا" موضع الشاهد أنّ هناك عددا يبدو أنهم الأكثرية كانوا يقولون: إنّ الأرض مسطّحة ومفهومهم عن الأرض أنّها مسطحة حتى جاء الفخر الرازي الذي تأثر بما انتشر في عصره عن هذه النظرية، فلم يستطع دفعها بسبب الضغط الواقع عليه الذي تمليه النظرية وترويج منظريها على أنّها حقيقة، فقام بتأويل ظاهر الآيات كما يحدث اليوم تماما من مقلدة الغرب، كلّ ما جاءهم خبر عن المجتمع العلمي راحوا يُغيرون ظاهر القرآن، ليتوافق مع ما تمليه مُخرجات الجمعيات العلمية، والله المستعان.
قال ابن جزي الغرناطي: "يقتضي أنها بسيطة لا مكورة، وهو ظاهر الشريعة، وقد يترتب لفظ البسط والمدّ من التكوير؛ لأنّ كلّ قطعة من الأرض ممدودة على حدتها، وإنما التكوير لجملة الأرض".
وفي تفسير أبي الليث: "بسطها من تحت الكعبة على الماء، وكانت تكفأ بأهلها كما تكفأ السفينة بأهلها فأرساها بالجبال الثقال." وفى بعض الآثار الصوفية أنّ الله تعالى قبل أن يخلق السموات والأرض أرسل على الماء ريحا هفافة، فصفقت الريح الماء، أي ضرب بعضه بعضا، فأبرز منه خشفة بالخاء المعجمة، وهي حجارة يبست بالأرض في موضع البيت كأنّها قبة، وبسط الحقّ سبحانه من ذلك الموضع جميع الأرض طولها والعرض، فهي أصل الأرض وسرتها في الكعبة وسط الأرض المسكونة، أما وسط الأرض كلها عامرها وخرابها فهي قبة الأرض، وهو مكان تعتدل فيه الأزمان في الحر والبرد، ويستوى الليل والنهار فيه أبدا لا يزيد أحدهما على الآخر ولا ينقص. وأصل طينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من سرة الأرض بمكة، ولما تموج الماء رمى بتلك الطينة إلى محل مدفنه بالمدينة، فلذلك دفن عليه السلام فيها. قال بعضهم الأرض مضجعنا، وكانت أمنا فيها معايشنا، وفيها نقبر.“
قال الماتريدي في تأويلات أهل السنة: "(مَدَّ الأَرْضَ) أي: بسطها، وجعل فيها رواسي؛ ذكر أنها بسطت على الماء؛ فكانت تكفو بأهلها وتضطرب؛ كما تكفو السفينة؛ فأرساها بالجبال الثِّقال؛ فاستقرت وثبتت. وذُكر أنّها مدت وبسطت على الهواء؛ ثمّ أثبتها بما ذكر من الجبال، ولكن لو [كان أنها] ما ذكر؛ لكان يجيء ألا يكون بالجبال ثباتها واستقرارها؛ لأنّ الأرض والجبال من طبعها التسفل والانحدار في الماء والهواء؛ وكلما زيد من ذلك النوع كان في التسفل والانحدار أكثر وأزيد، فلا يكون بها الثبات والاستقرار؛ بل إنما يكون الثبات والاستقرار بشيء من طبعه العلو والارتفاع؛ فيمنع ذلك الشيء الذي من طبعه العلو عن التسفل والانحدار؛ إلا أن يقال: إنها كانت لا تتسفل ولا تتسرب؛ ولكن تضطرب وتميد بأهلها؛ على ما ذكره عز وجل: (وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ) {الأنبياء: ٣١} فإن كان على هذا؛ فيكون بالجبال ثباتها واستقرارها؛ ومنعها عن الاضطراب والميلان. أوذكر هذا ليعلم لطفه وقدرته؛ حيث أمسكها بشيء من طبعه التسفل والانحدار، وهي في نفسها كذلك؛ ليعلم قدرة الله ولطفه في كلّ شيء. والله أعلم بذلك. وقوله عز وجل: (مَدَّ الأَرْضَ) أي: أنشأها ممدودة؛ لا أنها كانت مجموعة في مكان فبسطها؛ على ما ذكر من رفع السماء ونحوه.“
و في تفسير فتح البيان في مقاصد القرآن لمحمد صديق خان قال: ”والله أخبر أنه مد الأرض و أنه دحاها و بسطها و أنه جعلها فراشا و كل ذلك يدل على كونها مسطحة كالأكف و هو أصدق قيلا و أبين دليلا من أصحاب الهيئة“.
وفي تيسير التفسير لاطفيش الإباضي المعروف: "والآية دليل على أَنّ الأَرض بسيطة، وكذا قوله: (والأَرض بعد ذلك دحاها) [النازعات: ٣٠] ومثله ولا داعي أنها كرة وأنّ ما يظهر من بسطها إنما هو لعظمها حتى أنّ كلّ قطعة منها تشاهد سطحها، ودلائِل الفلاسفة في ذلك كله مدخولة، ثمّ إنّ ظاهر قوله: (مد الأرض) أنّ الأَرض موجودة بلا مد ثمّ أَوقع عليها المد، ولا مانع من ذلك، وعلى أنها خلقت بسيطة من أَول الأَمر فالمعنى أَنّ البسط الذى فيها من أول وجودها فعل الله عزّ وجلّ أَو خلقها بسيطة كضيق فم البئْر".
و أختم هذه الوقفة بكلام جميل للخازن في تفسيره المسمى لباب التأويل في معاني التنزيل، قال فيه: "أي بسطها على وجه الماء، وقيل: كانت الأرض مجتمعة فمدها من تحت البيت الحرام، وهذا القول إنما يصحّ إذا قيل إنّ الأرض منسطحة كالأكف، وعند أصحاب الهيئة: الأرض كرة، ويمكن أن يقال: إنّ الكرة إذا كانت كبيرة عظيمة فكلّ قطعة منها تشاهد ممدودة كالسطح الكبير العظيم، فحصل الجمع، ومع ذلك فالله تعالى قد أخبر أنه مد الأرض، وأنه دحاها وبسطها، وكلّ ذلك يدلّ على التسطيح، والله تعالى أصدق قيلاً وأبين دليلاً من أصحاب الهيئة".
كما ترى عزيزي القارئ، جُلّ المفسرين فهموا من ظاهر الآية أنّها مسطّحة وليست كروية تسبح في الفضاء الشاسع.
و في آية أخرى يذكر الله عز و جل أنه مد الأرض، نجدها في سورة الحجر: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) {سورة الحجر ١٩} تقدم أقوال المفسرين بخصوص موضوع مدّ الأرض عندما توقفنا عند آية سورة الرعد. لكن لا بأس أن نستعرض شيئًا من أقوالهم بخصوص هذه الآية من سورة الحجر.
قال قتادة: "بسطت من مكة لأنها أم القرى" وقال مقاتل: "يعني بسطناها، يعني مسيرة خمسمائة عام طولها وعرضها وغلظها مثله، فبسطها من تحت الكعبة." وقال ابن جرير: "والأرض دحوناها فبسطناها" وقال القرطبي: " هذا من نعمه أيضاً، ومما يدل على كمال قدرته. قال ابن عباس: بسطناها على وجه الماء؛ كما قال: (وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) {النازعات: ٣٠} أي بسطها. وقال: (وَٱلأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ ٱلْمَاهِدُونَ) {الذاريات: ٤٨}. وهو يردّ على من زعم أنها كالكرة. وقد تقدّم“.
قال النسفي في تفسيره مدارك التنزيل وحقائق التأويل: "بسطناها من تحت الكعبة، والجمهور على أنه تعالى مدها على وجه الماء" وقال الشوكاني في تفسيره فتح القدير: "أي بسطناها وفرشناها، كما في قوله (وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) {النازعات ٣٠}، وفي قوله (وَالأَرْضَ فَرَشْنَـاهَا فَنِعْمَ ٱلْمَـاهِدُونَ) {الذاريات ٤٨} وفيه ردّ على من زعم أنها كالكرة."
قال الماتريدي: "وقوله - عزّ وجلّ: (وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ) [ق: ٧] وقال في آية أخرى: (وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ) [الأنبياء: ٣١] يعني الجبال، في ظاهر هذا أنّ الأرض كأنها تضطرب وتنكفئ بأهلها، فأثبتها بالجبال، وإلا من طبعها التسفل والانحدار، وكذلك الجبال من طبعها التسفل والانحدار، فكيف كان ثباتها بشيء كان طبعه التسفل والتسرب؟ إلا أن يقال: إنّ طبعها كان الاضطراب والانكفاء فأثبتها بالجبال عن الاضطراب والانكفاء؛ أو أن يقال: من طبعها ما ذكرنا: التسفل والانحدار؛ إلا أن الله - بلطفه - أثبت ما هو طبعه التسفل، بما هو طبعه كذلك؛ ليعلم لطف الله وقدرته، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم."
قال الخازن في تفسيره: "يعني بسطناها على وجه الماء كما يقال: إنها دحيت من تحت الكعبة ثمّ بسطت هذا قول أهل التفسير، وزعم أرباب الهيئة أنها كرة عظيمة بعضها في الماء، وبعضها خارج عن الماء، وهو الجزء المغمور منها، واعتذروا عن قوله تعالى: والأرض مددناها بأنّ الكرة إذا كانت عظيمة كان كلّ جزء منها كالسطح العظيم، فثبت بهذا الأمر أنّ الأرض ممدودة مبسوطة، وأنها كرة، وردّ هذا أصحاب التفسير بأنّ الله أخبر في كتابه بأنها ممدودة، وأنها مبسوطة، ولو كانت كرة لأخبر بذلك، والله أعلم بمراده، وكيف مدّ الأرض“.
و في تفسير محمد صديق خان عندما فسّر الآية قال: ”أي بسطناها و فرشناها على وجه الماء كما في قوله و الأرض بعد ذلك دحاها و في قوله و الأرض فرشناها فنعم الماهدون و في رد على من زعم أنها كالكرة“.
والرازي كعادته حاول أن ينتصر لنظرية الأرض الكروية فقال: " فإن قيل: هل يدلّ قوله: (وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا) على أنها بسيطة؟ قلنا: نعم لأنّ الأرض بتقدير كونها كرة، فهي كرة في غاية العظمة، والكرة العظيمة يكون كلّ قطعة صغيرة منها، إذا نظر إليها فإنها ترى كالسطح المستوي، وإذا كان كذلك زال ما ذكروه من الإشكال" فهو يعترف أنّ ظاهر الآية تدلّ على أنها بسيطة، لكن ثم يُقدّر أنّ الأرض كروية في غاية العظمة، وذلك فقط ليزيل الإشكال بين الآيات القرآنية، وما انتشر في عصره والعصور التي تلت عصره من كون الأرض كروية وإلا فالظاهر أنّها بسيطة أي مسطّحة.
قال الشعراوي في تفسيره: "وهذه هي اللفتة التي يلفتنا لها الحق سبحانه فلو كانت الأرض مُربّعة أو مستطيلة أو مُثلثة لوجدنا لها نهاية وحَافّة، لكِنّا حين نسير في الأرض نجدها مُمْتدة، ولذلك فهي لا بُدّ أن تكون مُدوَّرة" وبكلّ بساطة يمكن الردّ على الشعراوي ونقول له ومن يدري ما حدود الأرض؟ فإنه يصح إطلاق لفظ أنّها ممتدة إن كانت في غاية الامتداد كما في كلمة الخلود. فلا يُسلّم للشعراوي رحمه الله مقولته. إن كانت للأرض حافة أو نهاية لا ينفي هذا أن تكون ممتدة لا يصل نهايتها الإنسان.
No comments:
Post a Comment