Saturday, July 2, 2022

المقابلة بين السماوات و الأرض

 (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (٧) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (١٠) ) {سورة الرحمن ٧-١٠}


تأمّل أسلوب المقابلة في الآيات السابقة: (والسماء رفعها ووضع الميزان) وقال: (و الأرض وضعها للأنام) شيء مقابل شيء، السماء مرفوعة والأرض موضوعة، مقابلة بين ما يشبه الضدين، ولا يفهم من هذا السياق إلا أن تكون الأرض متباينة عن السماء، تحتها، لا أنها تسبح فيها وحجمها كحجم الذرة في مجرتها بل هي مقابلة للسماء. وماذا تفهم من كلمة وضعها؟ هل تجدها مثل معنا جعلها في السماء؟ أو أن المتبادر إلى الذهن أخفضها وجعلها ثابتة مستقرة ومخصصة للأنام؟ بالتأكيد الثاني. ولهذا نقرأ في تفسير ابن كثير: "أي كما رفع السماء، وضع الأرض ومهدها، وأرساها بالجبال الراسيات الشامخات لتستقر لما على وجهها من الأنام، وهم الخلائق المختلفة أنواعهم وأشكالهم وألوانهم وألسنتهم في سائر أقطارها وأرجائها" وفي تفسير الزمخشري هذا: "خفضها مدحوّة على الماء" وقال الفخر الرازي: "أن الأرض موضوعة لكل ما عليها" وقال المفسر الشيعيّ الطبطبائيّ في الميزان: "وفي التعبير في الأرض بالوضع قبال التعبير في السماء بالرفع لطف ظاهر" وقال الماوردي: "أي بسطها ووطأها للأنام ليستقروا عليها ويقتاتوا منها". 


أيضا قوله عزّ وجلّ: (والسماء رفعها) ولو أنّ السماء كما يقولون اليوم أنها تحيط بالأرض، أقول ما المفهوم من رفعها؟ رفعها عن ماذا؟ ما المرفوع عنه؟ هل يصحّ أن تقول بطن الأمّ مرفوع عن الجنين الذي فيه؟ لا يقول ذلك أحد، وذلك لأنّ البطن يحتوي الجنين ويحيط به، لكن إذا جعلت الأرض مقابلة للسماء فهنا قوله عزّ وجلّ: (و السماء رفعها) يكون مفهوما من دون ذكر الأرض. وهذا ما يفهمه كلّ من يفقه العربية. قال الخازن في لباب التأويل في معاني التنزيل: "والسماء رفعها أي فوق الأرض". 


للبقاعي كلام جميل في كتابه "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" إذ قال فيه: "والسماء رفعها أي حساً بعد أن كانت ملتصقة بالأرض ففتقها منها وأعلاها عنها بما يشهد لذلك من العقل عند كلّ من له تأمل في أنّ كلّ جسم ثقيل ما رفعه عما تحته إلا رافع، ولا رافع لهذه إلا الله فإنه لا يقدر على التأثير غيره، ولعظمها قدمها على الفعل تنبيهاً على التفكر فيما فيها من جلالة الصنائع وأنواع البدائع، ومعنى بأنه جعلها منشأ أحكامه ومصدر قضاياه ومتنزل أوامره ونواهيه ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه." وقال أيضا: "ولما ذكر إنعامه الدال على اقتداره برفع السماء، ذكر على ذلك الوجه مقابلها بعد أن وسط بينهما ما قامتا به من العدل تنبيهاً على شدة العناية والاهتمام به فقال: (والأرض) أي ووضع الأرض: ثم فسر ناصبها ليكون كالمذكور مرتين إشارة إلى عظيم تدبيره لشدّة ما فيه من الحكم فقال: (وضعها) أي دحاها وبسطها على الماء (للأنام) أي كلّ من فيه قابلية النوم أو قابلية الونيم، وهو الصوت بعد أن وضع لهم الميزان الذي لا تقوم الأرض إلا به.


و تذكّر أن الخالق العظيم ذكر لنا رفعه السماء بغير عمد نراها في سورة الرعد: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)، فإن كانت الأرض كروية و السماء كروية محيطة به، ما وجه الآية في ذكره عز من قائل (بغير عمد ترونها)؟ لا يكون ذلك مفهوما إذ الشكل الدائري لا يحتاج إلى أعمدة بخلاف النموذج المسطّح للأرض.


نجد في سورة الزخرف هذه الآية العظيمة: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) {سورة الزخرف ٨٤} إن المتدبّر للقرآن يجد في هذه الآية ما يدل على عظيم مكانة الأرض، و ذلك لأنه قابل بين السماء و الأرض، فقال و هو الذي في السماء إله و في الأرض إله، أكّد ذلك بقوله (في السماء) و (في الأرض) و بهذا نعرف أن للأرض مكانة لا تقل عن السماء بدرجة كبيرة، أعني أنها ليست ذرة حقيرة تسبح في الفضاء. و إن كانت السماء محيطة بالأرض، و أن الأرض كالذرة في الفضاء لا تكاد تُذكر، كيف قال الله عز و جل (و في الأرض إله). و ذلك لأنه لا وجود للسماء في المنظور العلمي الحديث، إنما الفضاء، و هذا الفضاء تم تحويله إلى سماء من قبل الذين يريدون التوفيق بين القرآن و المخرجات العلمية الحديثة، على كل فالسماء  أو الفضاء تحتوي الأرض. إن كان ما يقولونه حقا، ألا يكفي أن يقول و هو الذي في السماء إله بدلا من إضافة الأرض؟ 


بالتأكيد سيقولون المقصد العبرة و الاتعاظ بهذه الآية و هذا يستقيم إن قلت و هو في الأرض إله و إن كانت الأرض حقيرة مقارنة بالسماء. أقول لهم، الواحد منكم لا يقول أنا ربّ هذا البيت و ربّ الطاولة الصغيرة في البيت. و ذلك لأنك إن قلت أنا ربّ البيت يُفهم من كلامك البيت كلّه. و بما أن الله فصّل فقال (في السماء إله) و (في الأرض إله) فهمنا أنه يتكلم عن شيئين منفصلين غير متصلين. و نتخلّص من هذا الفهم أن السماء ليست بداخل الأرض و لا الأرض بداخل السماء، و ليس أي منهما محيط بالآخر. و هذا جلي واضح في أكثر الآيات التي فيها ذكر السماء و الأرض أو السماوات و الأرض. 


أحب أن أقف في هذا الفصل عند آية عظيمة تثبت ما نحن فيه: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ) {سورة الزمر ٦٧} 


أذكر مرة أخي الذي يصغرني قال لي كون الأرض في قبضة الله عز و جل، فإن هذا يدل على أن الأرض كروية، قلت له لا، ليس الأمر كما ظننت، و ذلك لأن القبضة إن كانت عظيمة يمكنك قبضها في يدك حتى لو كان الشيء المقبوض مسطحا أو مربّعا أو مستطيلا. قال الفخر الرازي في تفسيره: يعني أن الأرضين مع ما لها من العظمة والبسطة لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته.


ما يهمني الإشارة إليه في في الآية دلالة على أن السماوات شيء و الأرض شيء آخر. بمعنى أن السماوات منفصلة عن الأرض. إن قلنا أن الأرض ما هي إلا ذرة تسبح في الفضاء و أن الفضاء أو السماء يحتويها، فإن الله تبارك و تعالى يوم يقول (و السماوات مطويات بيمينه) كان ينبغي أن تشمل هذه السماوات الأرض على حسب المنظور العلمي، أليس كذلك؟ فإن كان كذلك ستتحطم الأرض يوم يطوي العزيز الجبار المتكبّر السماوات بيمينه، أليس كذلك؟ لكن الحقيقة غير ذلك إذ نجد في هذه الآية أن الله جعل الأرض قبضته يوم القيامة في حين السماوات مفصولة عن الأرض و مطويات بيمينه.


و في رواية عبيدالله بن مقسم في صحيح مسلم: أنَّهُ نَظَرَ إلى عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ كيفَ يَحْكِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قالَ: يَأْخُذُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ بيَدَيْهِ، فيَقولُ: أَنَا اللَّهُ، وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا، أَنَا المَلِكُ حتَّى نَظَرْتُ إلى المِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِن أَسْفَلِ شيءٍ منه، حتَّى إنِّي لأَقُولُ: أَسَاقِطٌ هو برَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ؟ وفي رواية : رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، علَى المِنْبَرِ وَهو يقولُ: يَأْخُذُ الجَبَّارُ، عَزَّ وَجَلَّ، سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ بيَدَيْهِ. 


و حتى إن قلنا إن السماوات و الأرض كلها في يمينه فهذا يدل دلالة أكبر أن السماوات و الأرض متقابلة متوازية غير متصلة بسبب الاستئناف في الآية. قال الطبري في تفسيره: وقوله: (وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يقول تعالى ذكره: والأرض كلها قبضته في يوم القيامة (وَالسَّمَاوَاتُ) كلها(مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه) فالخبر عن الأرض مُتَنَاهٍ عند قوله: يوم القيامة, والأرض مرفوعة بقوله (قَبْضَتُهُ) , ثم استأنف الخبر عن السموات, فقال: (وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) وهي مرفوعة بمطويات. و بما أنها مطوية فإنها كانت منشورة كالسجل كما يدل عليه آية سورة الأنبياء: ((يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)). 


في الحقيقة آية سورة الزمر (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تدل على عظيم مكانة و هيئة الأرض، و ذلك لأن الله جعلها في قبضته و السماوات مطويات بيمينه، يعني الأرض في مكان و السماوات في مكان آخر وهذا الذي يُفهم من ظاهر هذه الآيات. يُمكن أن يُقال أن في هذه الآية السماوات أعظم مكانة و شأنا من الأرض بدليل قوله (مطويات) و ذلك لأنك عندما تطوي أمرا لا يكون يدك أو قبضتك محيطة بالشيء المطوي و سيكون هناك أطراف من الشيء الذي طويته بيمينك خارج القبضة أليس كذلك؟ أقول نعم هذا صحيح لكن ليس الاستشهاد هنا لمقارنة الأرض بالسماوات أيهما أعظم مكانة إنما الإشارة إلى عظيم أمر الأرض كونها في قبضة الله الرحمن، الرب العزيز، الواحد القهّار. و إلا فلو أنّها كانت كالذرة، و حقيرة حجمها مقارنة بالشمس، كان الأولى أن يقول مثلا و الشمس قبضته يوم القيامة خاصة أن الحديث عن يوم القيامة. فلما قابل بين السماوات و الأرض دلّ أن الأرض عظيمة بخلاف المقررات العلمية المعاصرة.


ثم إن هناك أمر آخر يُفهم من الآية، بالتحديد قوله: (و الأرض جميعا) لماذا لم يكتفي الرحمن بقوله الأرض؟ أقول السبب الذي يظهر لي أن الأرض جميعا قد تعني السبع الأراضي، و قد تعني الأرض المعمورة و أطرافها و الماء المحيط بها و ما تحت الثرى و غير ذلك من الأمور التي فهمنا القليل منها و غابت عنا الكثير من الأشياء التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، عالم الغيب و الشهادة اللطيف الخبير. 

No comments:

Post a Comment