السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
هذه المشاركة تابعة للمشاركة السابقة في المدونة والتي كانت بعنوان "الاختيار
والتقليد" سأحاول أن أفصل بعض الشيء عن موضوع الاختيار لعله يفيد البعض. أحب
أن أقول أن ما ستجدونه في المدونة من مشاركات وكلمات عن الاختيار والإيمان وغير
ذلك, كل ذلك نتيجة دراستي ومن ثم فهمي لهذه الأمور, قد يكون البعض منها موافقا
لأقوال العلماء وقد يكون بعضها مخالف لهم, فعلى الإنسان أن يختار من الآراء ما هو
أقرب إلى كلام الله ورسوله أي أقرب إلى الحق. ومسألة الاختيار تحديدا قد اختلف فيها
كثير من العلماء, فأهل السنة لهم آراء, والأشاعرة آراء مختلفة, والشيعة والصوفية
والاباضية لهم آراء مختلفة, وكذلك غير المسلمين, فالهندوس عندهم رأي, واليهود رأي
والنصارى رأي آخر. بل حتى في الطائفة الواحدة تجد آراء متباينة, فمن علماء أهل
السنة لهم رأي يخالف رأي عالم آخر من أهل السنة. هذا الموضوع أعني موضوع الاختيار
والقدر ليست بالمواضيع السهل وإنما بحاجة إلى تفكّر عميق وحذر, فمن رأى في نفسه
أنه غير مؤهل لقراءة هذه المواضيع فعليه أن يؤجل قراءتها إلى أن يصبح مؤهلا.
أما عن موضوع الاختيار, فأحب أولا أن أجيب على أحد أشهر الأسئلة وهي:
"إن كان كل شيء مكتوب في اللوح المحفوظ ومقدّر فلماذا نختار, مهما اخترنا
فالنتيجة واحدة؟" وهذا السؤال كان قائما في الماضي والحاضر سواء من
المسلمين وغير المسلمين. والحقيقة أنا أجبت على هذا السؤال عدة مرات وستجدون
اجاباتي منثورة في هذه المدونة ولكنها باللغة الإنجليزية وذلك في معرض مناقشتي
لغير المسلمين, سأحاول هذه المرة أن أجيب باللغة العربية مع بعض الاختلافات والاضافات
ليكون لكل مشاركة فائدتها المستقلة. للإجابة على هذا السؤال لابد لشيء من التفصيل
فمن لا يحب الاطالة ومعرفة رأيي في الموضوع فلا يستمر في القراءة.
لا يوجد مسلم يشك بأن كل ما كان و ما هو الآن كائن وما سيكون فهو في اللوح
المحفوظ, ويدخل في هذا, كل حركة نفعلها, كل فعل, وكل قول, وما تسقط من ورقة ولا
طائر يطير بجناحيه وتفاصيل هذه الأمور كلها معلومة لله سبحانه وتعالى. لكن السؤال الذي
لابد أن نسأل أنفسنا: "هل نعلم ما في اللوح المحفوظ؟" لا يمكن
لبشر أن يدّعي ذلك ومن ادعى ذلك فقد كذب ولا حاجة لي لمناقشة كذّاب. فلا أحد منا
يعرف ما الذي كتبه الله في اللوح المحفوظ من الأمور المتعلقة بحياتنا ولا مجال
للعلم في هذه الحياة فقول أنه لمَ نختار إن كان كل شيء مكتوب فليس بحجة. ولعله ما
ذكرته سر من أسرار قول الله سبحانه وتعالى: ((قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ
فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)) هذه الآية فيها رد على كل من يظن بأنه
لا اختيار له أو هو مجبور, فإن كان مجبورا كما يدّعي لأجبرهم على الهداية وما استطاع
واحد منهم أن يضل وذلك بالخروج عن الهداية واصبحوا كالملائكة لا يعصون الله سبحانه.
ولكن الواقع يشهد بخلاف ذلك فنرى المطيع والعاصي, وذلك لأن الله لم يشأ أن يجبرهم
إنما أعطاهم حرية الاختيار والقدرة على الاختيار وقد فصلت ذلك في المشاركة
السابقة.
المسألة الثانية, لا شك أن كل اختياراتنا يعلمه الله و كل في الكتاب الذي
كتب الله فيه كل شيء, وهنا قد يتساءل أحدكم: "كيف تدعي بأن الله أعطانا
الحرية ومن ثم هو مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن نولد؟" وللإجابة على هذا
السؤال لابد أن يتعلم الإنسان معاني أسماء الله الحسنى, مثل العليم. فالله سبحانه
وتعالى يعلم كل شيء كان وما هو كائن وما سيكون, يعلم ذلك كله, فإنه سبحانه أعطانا
حرية الاختيار ولم يجبرنا ولكن بما أن الله سبحانه وتعالى هو العليم فهو يعلم ما
الذي سنختاره والقدر الذي هو مكتوب لنا هو بناء على علم الله سبحانه وتعالى
باختياراتنا, وإلا لاحتج الإنسان يوم القيامة أمام الله سبحانه وتعالى. سأضرب
مثالا لأوضح ما كتبته, لنفترض الآن أنا ولدت, والله أعطاني الاختيار إما أن أكون
شاكرا أو كفورا, أعطاني هذا الاختيار لكي لا يكون لي حجة يوم القيامة. لنفترض أني
اخترت أن أشكر, فهذا الاختيار الذي اخترته مدون في اللوح المحفوظ من قبل أن أولد و
سيكون في مثل هذا العالم كما هو مكتوب. فكون أن اللوح المحفوظ مكتوب فيه ما
سنختاره ونتيجة ما سنختاره لا يعني أبدا بأننا لم نؤتى حرية الاختيار, بالعكس,
حصلنا عليه وقد وقع لنا نتيجة ما اخترناه أنفسنا, إنما الله سبحانه وتعالى خلق هذه
الأمور في الكون لكي لا نحتج ونلوم الله سبحانه وتعالى بسبب اختياراتنا ولأنه هو
الله الخالق الحق. وطبعا كل هذه الأمور والاختيارات وكل ذلك لا يخرج عن مشيئة الله
سبحانه وتعالى, فلو شاء الله سبحانه وتعالى لم يحدث كل هذا. مثلا إنسان اختار
الكفر فالنتيجة الطبيعة أن يكون في واقع الأمر كافرا, فعند وقوع الكفر حقيقة بناء
على ما في اللوح المحفوظ فهذا يعني أن الله شاء أن يحصل هذا الأمر. وإلا لا يمكن
لأي مخلوق أن يخلق لنفسه أمرا لأن هذا الأمر قدر وانتهى أصلا قبل أن يخلق. بل كل
شيء في هذا الكون شاءه الله, فكل شيء الآن حاصل أو سيحصل كلها نتيجة لمشيئة الله.
لنفترض وجود إنسان في غرفة مغلقة, كل ما سيختاره الإنسان مسجل في هذه
الغرفة, وجدران الغرفة التي تحيط به ولا يمكنه أن يخرج منه هو مثال لمشيئة الله
ولله المثل الأعلى. فالمشيئة الإلهية مظلة الأشياء كلها ومحيطة بكل شيء. فكل ما
نختاره وإن لم يكن يحبه الله سبحانه وتعالى فقد أذن بوجوده مثل الكفر والعصيان,
وهنا يتجلى عدل الله سبحانه وتعالى بحيث أن شاء حصول ما اختاره خلقه من الذين
أعطاهم حرية الاختيار, وسبحان الله بعد كل هذا العدل يصفون الله بالظلم سبحانه
تعالى الله عن قولهم علوا عظيما. ومن فهم هذا لفهم أمرا عظيما لا يفهمه كثير من
خلق الله ولزاد إيمانه وحبه وتوقيره لله زيادة عظيمة.
كيف نعرف ما الاختيار الذي اخترناه أهو صحيح أم لا؟ نوزن ذلك بتعاليم الله
سبحانه وتعالى في كتابه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. فالله سبحانه وتعالى
أخبرنا ما الذي يحبه وما الذي لا يحبه, فإن كان اختيارك ناتج عن اختيار ما يحبه
الله فهو الاختيار الصحيح, وإن كان اختيارك ناتج عن اختيار ما لا يحبه الله فهو
اختيار خاطئ. لنفترض أن أحدا منا اختار الاختيار الخاطئ, فهل انتهى كل شيء؟ لا, بل
بمجرد اختياره هناك اختيار جديد مباشرة, هل يستمر في اختياره الخاطئ أم يختار
الاختيار الصحيح, هكذا إلى أن ينتهي حياة الإنسان فهو معرض للاختيار في كل لحظة. كما
أني معرض للاختيار الآن, هل استمر بالكتابة أم أتوقف, لنفترض أني اخترت أن استمر
في الكتابة ثم توقفت فيأتي الاختيار مجددا, هل أستمر أم أغلق الجهاز وهكذا. لم
اخترت مثال الكتابة؟ لأن بمثال الكتابة لا يتبين الاختيار الصحيح من الخاطئ بوضوح,
فالإنسان لابد أيضا أن يختار ولا يمكن أن يأتي مرحلة ليس فيها اختيار. بل حتى عدم
الاختيار في واقع الأمر هو اختيار: "عدم الاختيار", فكيف يعرف الإنسان
بأن اختياره هو الاختيار المناسب. هذا يحدده كل منا بنفسه فربما أنظر إليه بمنظور
فأراه الاختيار المناسب, ثم أرى ما اخترته بمنظور آخر فأرى أن ما اخترته غير صحيح
وهنا يحتار المرء وهنا أيضا يأتي دور دراسة نتيجة الاختيار. هل الذي نتج هو شيء
يحبه الله أم لا؟ فربما اختياره قد نتج عنه هم وحزن, وبغضاء وحقد...الخ هذه الأمور
غير مطلوبة, وربما اختياره نتج عنه حب ورحمة وشفقة...الخ فهذه أمور مطلوبة, لكن
كما قلت هذه الأمور نسبية, لأن نفوس البشر مختلفة وتفصيل أن هذه الأمور نسبية يطول
جدا وبحاجة إلى مشاركة مستقلة ولا أظنكم تريدون ذلك فإن الأمر يزداد تعقيدا ولا
أشك أن كثير منكم الآن قد تعقّد من هذه التفاصيل التي ذكرتها آنفا. على كل, من لم
يتبين له فهو إن شاء الله في خير إن كان لله حامدا, فدور الحمد لابد أن يكون في
جميع الحالات.
وهناك مسألة مهمة أخرى, طبعا كما ذكرت في المشاركة السابقة, ليس كل ما نختاره
صحيح فربما نختار الاختيار الخطأ أو الاختيار الذي لا يرضي الله سبحانه, فقد
يصيبنا الندم أو شيء من هذا القبيل كدرس لنا في المستقبل هذا إن كان لنا ضمير حي.
بالرغم من أن المسلم يعلم بأن كل شيء من عند الله، لكن لا يعني ذلك أن يعجز. مثال ذلك,
رجل يعيش مع زوجة جعلت من حياته جحيما وتدعوه إلى عصيان الله سبحانه فلا ينبغي له
أن يقول أنا سأبقى هكذا راضيا لما قضاه الله واختاره لي, لأن هذا الرجل في واقع
الأمر لا يعلم ما الذي اختاره الله له أو قدّر عليه, فربما الطلاق كان مما كُتب له
فهو لا يعلم لا هذا ولا ذاك فلابد له من الاختيار. لا ينبغي لهذا الرجل أن يقول أنا
راض بقضاء الله و قدره وهذا ما اختاره الله لي فإني سأبقى معها في هذا الجحيم إن
كان الله يريد ذلك لأن فعله يدخل فيمن قال على الله بلا علم وهو من أعظم الذنوب.
وبناء على ما سبق, الرجل العاقل يختار الاختيار الذي يرضي الله أو يقربه من رضوان
الله وقد ذكرت في هذه المشاركة كيف يعلم ذلك, فهو يطلب الطلاق إن كان لابد من
الانفصال وبعد فشل جميع الحلول, ويعيش مع امرأة أخرى أو يبقى وحده, المهم أن لا
يقع في سخط الله أو يظلم نفسه فقط لأوهام صنعها بنفسه ثم قيد نفسه بهذه الأوهام.
الرضاء بقضاء الله يكون بشيء لا يمكن تغييره سواء كان مما فات أو مما هو
قائم الآن. ففي المثال السابق, هذا الرجل الذي كان متزوجا امرأة سيئة بالرغم من
أنه انفصل وجعلت حياته جحيما, يقول الحمدلله ورضيت بالله ربا لأنه يرى أن ما وقع
فيه كان ابتلاء أو اختبار لصبره أو تعلم دروسا جديدة وخبرة وغير ذلك, وطبعا هنا
هذه النظرات الإيجابية لحدث غير ايجابي هو الذي يغير حياة الإنسان إلى عبد شكور
وحكيم وهذا في الواقع هو الذي يميز بين الحكيم والجاهل. فالجاهل يبدأ بالسخط ويضع
اللوم على الله سبحانه وتعالى, أما الحكيم فبالعكس من ذلك, يعلم بأنه لا لا يصيبه
شيء من مكروه إلا وحمد الله, وذلك لأنه لم يصبه هذا المكروه إلا من قبل نفسه سواء
لسوء اختياراته في السابق أو لذنب اقترفه أو غير ذلك, أما الأشياء التي لا يستطيع
تغييرها فيحمد الله عليه لأنه اختبار لإيمانه, أما غير المؤمن والذي ظاهر كفره
وعناده فلا داعي لاختباره أساسا, أما أنك أيها الإنسان قد ابتليت بمرض أو غير ذلك,
هذا بحد ذاته يدل أنك تستحق أن تجرب محنة الإيمان. ((يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ
وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً))
ولا ينبغي للمسلم أن يخلط, فيقول هذا الشيء لم يكن باختياري وإنها من
المصائب وفي واقع الأمر يمكن أن يغيرها وتحت مقدوره. الأشياء التي لا يمكن للإنسان
أن يغيرها أمور محدودة, كمكان الولادة, و الموت, وتاريخ الولادة وبعض الأمراض, أو
إيقاف الوقت, أو معرفة الغيب فيمنع وقوع صخرة عليه أو ما شابه ذلك, أما بقية
الأمور فالله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان القدرة على التغيير وذلك لكي لا يكون له حجة.
الأشياء التي لم يعطينا الله القدرة على تغييرها فيها حكم عظيمة جدا من اختبار
للإيمان أو تطهير للنفس البشرية أو صلاح للبدن وما شابه ذلك وكل هذه الأمور بل
أصغر الأشياء لها صلة بقدر الله سبحانه وتعالى الكوني والخطة الإلهية للخلق, وإن
ذكرت ذلك بالتفصيل فسأكون بحاجة إلى كتابة كتاب بأكمله. من أراد أن يتوسع أنصحه
بقراءة كتب لمؤلفين كرروا من ذكر هذه المواضيع في كتبهم مثل ابن قيم الجوزية و أبو
حامد الغزالي و أحمد بن عبدالرحيم الدهلوي رحمهم الله جميعا.
أما بالنسبة للاختيارات الصعبة والمصيرية, فهو واقع ولا أحد ينكر ذلك, مثل
الاختيارات المصيرية كاختيار الإيمان أو الكفر والاختيارات المهمة في حياة الإنسان
كالزواج أو الهجرة من بلد إلى بلد. فمثل هذه الاختيارات لا ينبغي أن تكون عبثا, بل
لابد من التفكر في عواقب هذه الاختيارات, واستشارة ذوي الخبرة والأمانة, واستخارة
الله سبحانه وتعالى وبعد هذه الدراسات وهذه الاستشارات والاستخارة, يعزم المسلم
ويتوكل على الله سبحانه وتعالى وليكن ما يكن. ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ))
وليعلم الإنسان بأنه وإن اختار ومن ثم وجد المصائب وغير ذلك, فإن بمقدوره أن يختار
من جديد, فمن اختار الكفر ثم ذاق شؤم الكفر والبعد عن الله لا نثبطه ونقول هذا
اختيارك وانتهى الأمر, بل نقول له, تب إلى الله سبحانه, وعندك فرصة لتعود, وهكذا
المتزوج وهكذا الدارس والمهاجر...الخ فالله يعطي الإنسان الفرصة إلى النهاية, فإن
مات فانتهت الفرص ويأتي الحساب. أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد في جميع أمورنا
و أسأله حسن الخاتمة, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
No comments:
Post a Comment