(أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا) {سورة الفرقان ٤٥}
هل سبق و توقّفت عند هذه الآية من قبل؟ هل سألت نفسك ما معنى مدّ الظل؟ ربّما لا و ربما نعم غير أهل التفسير من شدّة وقوفهم عند هذه الآية و الكلام فيها اختلفوا اختلافا عظيما، إذ اختلفوا في معنى الظل، و اختلفوا في معنى مد الظل، و اختلفوا في معنى لجعله ساكنا و اختلفوا في معنى (جعلنا الشمس عليه دليلا) و اختلفوا في الآية التي بعدها أيضا في معنى (قبضناه) و في معنى (يسيرا).
الظل بحسب التعريف المعاصر هو الظلام الذي يسببه جسم ما عندما يحجب الضوء من الوصول إلى سطح ما. إذن الظل غير موجود إن انعدمت الإضاءة، أليس كذلك؟ هذا ما يقوله الناس و لكن أنا أرى أن الظل موجود و له كيانه الخاص بدلالة الآية من سورة الفرقان. إذ قال الله عز و جل فيها: (مد الظل) و قال تبارك و تعالى: (و لو شاء لجعله ساكنا) إذن الظل هذا موجود لكن المفهوم من القرآن أن الله عز وجل دلّنا على وجوده عن طريق الشمس بدلالة قوله: (ثم جعلنا الشمس عليه دليلا) و بدلالة الآية التي بعدها: (ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً).
و هذا الذي فهمته من الآية من أن الظل له وجوده الخاص فهمه غيري من الناس. فمن العلماء المتقدمين و أهل التفسير فهم ذلك الطبري إذ يقول في تفسيره المعروف عند حديثه عن هذه الآية: ”يقول جلّ ثناؤه: ثم دللناكم أيها الناس بنسخ الشمس إياه عند طلوعها علـيه، أنه خـلْق من خـلق ربكم، يوجده إذا شاء، ويفنـيه إذا أراد والهاء فـي قوله «علـيه» من ذكر الظلّ. ومعناه: ثم جعلنا الشمس علـى الظلّ دلـيلاً. قـيـل: معنى دلالتها علـيه أنه لو لـم تكن الشمس التـي تنسخه لـم يعلـم أنه شيء، إذا كانت الأشياء إنـما تعرف بأضدادها، نظير الـحلو الذي إنـما يعرف بـالـحامض والبـارد بـالـحارّ، وما أشبه ذلك“.
و كذلك الفخر الرازي في تفسيره الكبير قال: ”أي خلقنا الظل أولاً بما فيه من المنافع واللذات ثم إنا هدينا العقول إلى معرفة وجوده بأن أطلعنا الشمس فكانت الشمس دليلاً على وجود هذه النعمة، ثم قبضناه أي أزلنا الظل لا دفعة بل يسيراً يسيراً فإن كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الظل في جانب المغرب، ولما كان الحركات المكانية لا توجد دفعة بل يسيراً يسيراً فكذا زوال الإظلال لا يكون دفعة بل يسيراً يسيراً، ولأن قبض الظل لو حصل دفعة لاختلت المصالح، ولكن قبضها يسيراً يسيراً يفيد معه أنواع مصالح العالم، والمراد بالقبض الإزالة والإعدام هذا أحد التأويلين“. و من المتأخرين و المعاصرين الذين انشغلوا بدراسة القرآن لاحظ أن الظل ليس مجرّد عارض من عوارض الضوء أو الشمس، من أشهرهم الدكتور محمد شحرور و الدكتور علي منصور الكيالي.
و هذه الآية التي استفتحت بها هذا المقال، قد يُستدل بها على أن الأرض منبسطة مسطّحة و السماء فوقنا كالسقف، إذ قال الزمخشري المفسّر المعروف صاحب تفسير الكشّاف عند وقوفه عند هذه الآية هذا: ” أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبّكَ } ألم تنظر إلى صنع ربك وقدرته، ومعنى مدّ الظل أن جعله يمتدّ وينبسط فينتفع به الناس (وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً) أي لاصقاً بأصل كل مظلّ من جبل وبناء وشجرة. غير منبسط فلم ينتفع به أحد سمي انبساط الظل وامتداده تحركاً منه وعدم ذلك سكوناً، ومعنى كون الشمس دليلاً أنّ الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها في مسيرها على أحوال الظل، من كونه ثابتاً في مكان و زائلاً، ومتسعاً ومتقلصاً، فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه على حسب ذلك. وقبضه إليه أنه ينسخه بضح الشمس (يَسِيراً) أي على مهل. وفي هذا القبض اليسير شيئاً بعد شيء من المنافع ما لا يعدّ ولا يحصر، ولو قبض دفعة واحدة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعاً. فإن قلت ثم في هذين الموضعين كيف موقعها؟ قلت موقعها لبيان تفاضل الأمور الثلاثة كان الثاني أعظم من الأوّل، والثالث أعظم منهما، تشبيهاً لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت. ووجه آخر وهو أنه مدّ الظل حين بنى السماء كالقبة المضروبة، ودحا الأرض تحتها فألقت القبة ظلها على الأرض فيناناً ما في أديمه جوب لعدم النير، ولو شاء لجعله ساكناً مستقرّاً على تلك الحالة، ثم خلق الشمس وجعلها على ذلك الظل، أي سلطها عليه ونصبها دليلاً متبوعاً له كما يتبع الدليل في الطريق، فهو يزيد بها وينقص، ويمتدّ ويتقلص، ثم نسخه بها فقبضه قبضاً سهلاً يسيراً غير عسير. ويحتمل أن يريد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام التي تبقى الظل فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه، كما ذكر إنشاءه بإنشاء إسبابه، وقوله قبضناه إلينا يدلّ عليه، وكذلك قوله يسيراً، كما قال (ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ)“
و أيضا من الفوائد المُستفادة من هذه الآية أن الشمس ليست سبب وجود الظل إنّما دليل على وجود الظل قوله عز و جل: (و لو شاء لجعله ساكنا) و هذا ما فهمه أهل التفسير، فمثلا في تفسير أبو حيان: ”(ولو شاء لجعله ساكناً) قال ابن عباس وقتادة وابن زيد: كظل الجنة الذي لا شمس تذهبه. وقال مجاهد: لا تصيبه الشمس ولا تزول. وقال الحسن: (لو شاء) لتركه ظلاً كما هو“. و لو كانت الشمس سبب للظل و ليست دليلا عليه فلماذا لا نجد في الآية أي شيء يدل على قبض الشمس أو ذهاب ضوئها أو شيء من هذا القبيل؟ و اعلم أن في الجنة لا وجود للشمس بدليل قول الله عز و جل في سورة الإنسان: (مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ۖ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا) و لكن الظل موجود في الجنة بدليل الآية من سورة الواقعة: (وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ) و في سورة المرسلات: (إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى ظِلَٰلٍۢ وَعُيُونٍۢ) و في سورة يس: (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ) و في سورة النساء: (وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا ۖ لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا) نفهم من الآيات أن الظل له وجود مستقل عن الشمس غير أن الشمس دليل عليه. و حتى إن قلنا أن الظل في الآية التي استفتحت بها هذا المقال هو الظل المعروف عندنا اليوم أو أن المعنى هو الليل أو الوقت ما بين الفجر و طلوع الشمس فإن فيها رد على جميع القائلين أن الليل و النهار أو الظل مجرد عوارض من عوارض الشمس.
و هناك فائدة أخرى، في هذه الآية جعل الله من خصائص الشمس أنها دليل على الظل من دون القمر، بمعنى أنه ليس في الآية ذكر القمر أو أنه جعل القمر عليه (أي على الظل) دليلا. فإن كان القمر انعكاس لضوء الشمس، فلماذا لا يكون القمر دليلا على الظل؟ هل سمعت يوما عن إنسان يرى الظل تحت نور القمر من دون استخدام أدوات الإضاءة؟ عن نفسي لم أسمع بذلك و لم أشهد ذلك حقيقة و لكني شهدت منذ صغري كيف أن الشمس يدل على الظل. فإن قال المُعارض لكن الأدوات التي نستخدمها يمكننا معرفة مكان الظل بها، أقول هذا صحيح و ذلك لأن هذه الأضواء من طبيعة قريبة من طبيعة ضوء الشمس و ليس لها علاقة بنور القمر مما يُقوي الدليل أن نور القمر شيء و ضياء الشمس شيء آخر و بالتالي خطأ نظرياتهم فيما يتعلّق بكون القمر عاكسا لضوء الشمس.
و ملاحظة أخيرة في هذا المقال أنني لاحظت وجود ذكر الظلال مع السجود، مثال ذلك نجده في سورة الرعد: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) و أيضا في سورة النحل: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ) اختلف أهل التفسير في معنى السجود على عدة أقوال و ذلك لأن هذه الآيات تُشعر أن هذه الظلال عاقلة و تسجد و من أجل هذا استشكل البعض هذا. هل سألت نفسك ما السر في كون الظل ليس له جسم ثلاثي البعد؟ اسأل نفسك و تفكّر لماذا هي ليست كذلك؟
و لاحظ أن الله الرحمن الرحيم يمتن على عباده بأن جعل لهم مما خلق ظلالا كما في الآية من سورة النحل: (وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)
عن نفسي عندي رأي لا أراه يصلح نشره في هذا المقال لأسباب كثيرة و أسأل الله أن يعينني على تدوينه في يوم ما لكن ما كتبت هذا إلا لشحذ همّتك أن في آيات الظل من الفوائد و المعاني العميقة التي بحاجة إلى تدبّر عميق فمن يدري قد يدفعك كلامي للبحث بنفسك عن هذه المعاني العميقة في القرآن ثم تراسلني بعد ذلك و تُخبرني بما وجدت والله هو الهادي إلى صراط مستقيم
عبدالعزيز النظري
No comments:
Post a Comment