السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... هذه المشاركة تابعة للتي قبلها والتي كنت
خصصتها لدراسة حديث التي فيها أن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاثا وقد بينت في المشاركة
بأن الإنسان لا ينبغي له أن يتعجّل فيصدر الأحكام ويقطع بأن الرسول صلى الله عليه
وسلم نسب الكذب إلى إبراهيم عليه السلام أو ما شابه ذلك بل ينبغي أن نتأدب مع
الأنبياء عليهم الصلاة و السلام. كما ذكرت في المشاركة السابقة, بأنني في نقاشي مع
شيخي الفاضل والإخوة الذين كانوا معه, زعموا بأن نسبة الكذب إلى إبراهيم ثابتة
وذلك لأنه مروي في البخاري ومسلم, وقد تطرقت إلى الحديث الأول في المشاركة السابقة
والحديث الآخر هو حديث الشفاعة الطويل والمعروف لدى معظم الناس. لقد صدق ظني,
سبحان الله, قلت في المشاركة السابقة بأنني أكاد أجزم بأن حديث الشفاعة الذي فيها
أن إبراهيم عليه السلام كذب سيكون من مرويات أبو هريرة, وهذا ما وجدته فعلا و أنا
أبحث في أحاديث الشفاعة! ملاحظة سأستثني الروايات التي ليس فيها اعتراف إبراهيم بكذبه
أو دلالة على كذبه. وإليكم نص الحديث كما في البخاري:
"أُتيَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بلحمٍ ، فرُفِعَ إليه الذراعُُ
، وكانت تُعجبُه ، فَنَهسَ منها نهسةً ثم قال: (أنا سيدُ الناسِ يومَ القيامةِ، وهل
تدرون مم ذلك ؟ يجمعُ اللهُ الناسَ الأولين والآخرين في صعيدٍ واحدٍ ، يَسمعُهم الداعي
ويَنفُذُهم البصرُ، وتدنو الشمسُ، فيبلغُ الناسُ من الغمِّ والكربِ ما لا يطيقون ولا
يحتملون ، فيقولُ الناسُ: ألا ترون ما قد بلغَكم، ألا تنظرون من يشفعُ لكم إلى ربِّكم
؟ فيقولُ بعضُ الناسِ لبعضٍ: عليكم بآدمَ، فيأتون آدمَ عليه السلام فيقولون له : أنت
أبو البشرِ، خلقَك اللهُ بيدِه، ونفخَ فيك من روحِه، وأمرَ الملائكةَ فسجدوا لك، اشفعْ
لنا إلى ربِّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقولُ آدمُ: إن
ربي قد غَضِبَ اليومَ غضبًا لم يغضبْ قبلَه مثلَه، ولن يغضبَ بعدَه مثلَه، وإنه نهاني
عن الشجرةِ فعصيتُه ، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري,اذهبوا إلى نوحٍ . فيأتون نوحًا
فيقولون: يا نوحُ، إنك أنت أولُ الرسلِ إلى أهل الأرضِ ، وقد سماك الله عبدًا شكورًا
، اشفعْ لنا إلى ربِّك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ فيقولُ: إن ربي عز وجل قد غضبَ اليومَ
غضبًا لم يغضبْ قبلَه مثلَه، ولن يغضبَ بعدَه مثلَه، وإنه قد كانت لي دعوةٌ دعوتُها
على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيمَ. فيأتون إبراهيمَ
فيقولون: يا إبراهيمُ، أنت نبيُّ اللهِ وخليلُه من أهلِ الأرضِ, اشفعْ لنا إلى ربِّك
، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ فيقولُ لهم: إن ربي قد غضبَ اليومَ غضبًا لم يغضبْ قبلَه
مثلَه، ولن يغضبَ بعدَه مثلَه, وإني قد كنتُ كذبتُ ثلاثَ كَذَباتٍ - فذكرهن أبو حيَّانَ
في الحديثِ - نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى موسى . فيأتون موسى فيقولون:
يا موسى، أنت رسولُ اللهِ ، فضلك اللهُ برسالتِه وبكلامِه على الناسِ، اشفعْ لنا إلى
ربِّك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ فيقولُ: إن ربي قد غَضِبَ اليومَ غضبًا لم يغضبْ
قبلَه مثلَه ، ولن يغضبَ بعدَه مثلَه، وإني قد قتلتُ نفسًا لم أومرَ بقتلِها، نفسي
نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى . فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت
رسولُ اللهِ ، وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منه، وكلَّمتَ الناسَ في المهدِ صبيًا
، اشفعْ لنا، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ فيقول عيسى : إن ربي قد غَضِبَ اليومَ غضبًا
لم يغضبْ قبلَه مثلَه قطُّ ، ولن يغضبَ بعدَه مثلَه - ولم يذكر ذنبًا - نفسي نفسي نفسي،
اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم . فيأتون محمدًا صلى الله عليه
وسلم فيقولون : يا محمدُ أنت رسولُ اللهِ ، وخاتمُ الأنبياءِ ، وقد غفر اللهُ لك ما
تقدمَ من ذنبِك وما تأخرَ ، اشفعْ لنا إلى ربِّك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ فأنطلق
فآتي تحتَ العرشِ ، فأقعُ ساجدًا لربي عز وجل ، ثم يفتحُ اللهُ عليَّ من محامدِه وحسنِ
الثناءِ عليه شيئًا لم يفتحْه على أحدْ قبلي ، ثم يُقالُ: يا محمدُ ارفعْ رأسَك ، سلْ
تُعطَه ، واشفعْ تُشَفَّعْ ، فأرفعُ رأسي فأقولُ : أمتي يا رب ، أمتي يا رب ، فيقال
: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، وهم شركاء
الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ، ثم قال : والذي نفسي بيده ، إن ما بين المصراعين من
مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير ، أو : كما بين مكة وبصرى"
بعد دراستي المبدئية للحديث في أكثر من 35 كتابا, اكتشفت بأن الحديث لا
يرويه عن أبي هريرة إلا أبو زرعة بن عمرو بن جرير البجلى و عمارة بن القعقاع بن شبرمة
ولا يرويه عن أبو زرعة بن عمرو بن جرير البجلي إلا أبو حيان التيمي ولا يروي عن
عمارة بن القعقاع إلا جرير بن عبد الحميد بن قرط الضبى ولا يروي عن جرير بن
عبدالحميد إلا اسحق بن راهويه و أبو خيثمة وهذا مما يعزز الرواية عن جرير بن
عبدالحميد. أما أبو حيان التيمي, فالظاهر بأن الحديث اشتهر من بعده, حيث روى عنه
كل من عبدالله بن المبارك و أبو أسامة حماد بن أسامة بن زيد القرشى و محمد بن عبيد
بن أبى أمية الكوفى و محمد بن بشر بن الفرافصة و جرير بن عبد الحميد بن قرط الضبى
و يحيى بن سعيد القطان وعن هؤلاء رووا أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد. أما البخاري
فأخرج ثلاث روايات بينه وبين أبو حيان التيمي اثنان, أما مسلم فأخرج حديثان وبينه
وبينه أبو حيان التيمي اثنان أيضا. يغلب على ظني بأن الرواية قد تكون ثابتة عن أبو
حيان التيمي.
فأولا الحديث غير متواتر بخلاف ما يظنه بعض طلاب العلم, والذي أستغربه أن
مالكا لم يخرج هذا الحديث الطويل في كتابه, والغريب بأن الروايات عن أبو حيان
التيمي مختلفة, فبعضها فيها تصريح إبراهيم بالكذب وبعضها ليس فيها تصريح, ولكني
لست بصدد دراسة المتن وما فيها من الإشكالات فإن نقد المتن بحاجة إلى مشاركة
مستقلة وخاصة أن هذا الحديث سبب إختلافا بين المسلمين في الماضي والحاضر. أحب أن أنوّه
بأن هناك روايات أخرى في البخاري ومسلم ولكن من دون هذه القصة الطويلة, إنما جزء
منه: "كنا مع النبي صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ في دعوةفرُفِعَ إليهِ الذِّراعُ
، وَكانت تُعجبُهُ ، فنَهَسَ منها نهسة" أخرج البخاري هذا المتن عن طريق اسحق
بن نصر عن محمد بن عبيد عن أبو حيان التيمي عن أبي زرعة عن أبي هريرة وفي الباب
بنفس النص مع بعض الاختلافات عن ابن مسعود وعائشة و عبدالله بن جعفر وأبي عبيدة. فهل
يمكن أن الزيادة الطويلة من عمل أحد الرواة؟ وخاصة أن نص الحديث يشبه كثيرا ما
يروى من قصص وغرائب عن كعب الأحبار و أبو هريرة, لا أعلم إن كان من عمل الرواة أم
لا, ولكن الاحتمال وارد.
رُوي حديث الشفاعة عن جماعة من الصحابة كأنس بن مالك, وحذيفة وأبو بكر
الصديق وعقبة بن عامر الجهني وابن عمر وابن عباس و أبو سعيد الخدري. الغريب في
الأمر أن كل المرويات عن الصحابة غير أبو هريرة ليس فيها أن إبراهيم اعترف بأنه
كذب إلا ما كان من بعض المرويات المنسوبة لابن عباس وأبو سعيد الخدري ولكني وجدت
بأن الروايات المنسوبة لهما ضعيفة وذلك لأن فيهما علي بن زيد بن جدعان الذي قال عنه
يحيى بن معين: "ضعيف في كل شيء" وقال عنه الجوزجاني: "واهي الحديث ،
ضعيف ، فيه ميل عن القصد ، لا يحتج بحديثه".
ويتبين مما ذكرت أن كل المرويات التي ظاهرها الصحة ليس فيها أن إبراهيم عليه
السلام اعترف بكذبه إلا ما هو مروي عن أبو هريرة. و رواية أبو حازم عن أبي هريرة
في موضوع الشفاعة ليس فيها أن إبراهيم اعترف بكذبه, إلا أن رواية أبو حازم عن أبي
هريرة لي فيها مقال لا أريد أن أفصل فيها الآن. الذي أريد أن أقوله بأن كذب
إبراهيم عليه السلام لم يثبت في جميع هذا الروايات إلا ما كان عن طريق أبو حيان
التيمي عن أبو زرعة بن عمرو أو عمارة بن القعقاع عن أبو زرعة بن عمرو. بل حتى لو
ثبت عن أبي هريرة بأنه نسب الكذب إلى إبراهيم عليه السلام فنحن لسنا مضطرين أن
نأخذ كلامه وهناك جمع من الذين رووا حديث الشفاعة وخالفوه, و المرويات عنه هو (أي
أبو هريرة) مختلفة. للعلم لم أقم بدراسة تفصيلية عن أسانيد هذه المرويات أقصد من
ناحية الرجال ولم أقم بدراسة نقدية لمتن هذه المرويات لكن يكفي عند البعض كونها من
الآحاد, وكما هو مشهور ومعلوم عند طلاب العلم بأن طائفة ليست قليلة من العلماء لا
يأخذون بأحاديث الآحاد خاصة في الأمور الغيبية والعقائدية وهذا الحديث مثال. و الذي
يغلب على ظني بعد هذه الدراسة أن اعتراف إبراهيم عليه السلام في حديث الشفاعة لا يثبت
عن النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة بوجود الشبهات التي ذكرتها في المشاركة
السابقة. هذا والله أعلم, وأسأل الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه, ويرينا
الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه وأن يجعل لنا فرقانا نميز به بين الحق والباطل. والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته.
No comments:
Post a Comment