السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... كتبت في هذه المدونة مشاركات علقت فيها
على بعض الأخبار الواردة بأن إبراهيم عليه السلام لم يكذب إلا ثلاث كذبات. وعلقت
على خبرين وخصصت لكل خبر مشاركة مستقلة أتساءل عن أسانيد المرويات في الباب. قرأ
الأستاذ الباحث الإسلامي حسن فرحان المالكي ما كتبته في المدونة فعقب بمقالة يحاول
فيها تبرئة نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام من الكذب. وجدت مقاله نافعا فقلت
أنقله لكم من باب الفائدة. تجدون مقالات وكتابات الشيخ حسن فرحان المالكي في موقعه
الشخصي ويمكنكم قراءة مقاله بالضغط هنا. أحب أن
أنوّه بأني قد لا أتفق مع بعض الأشياء في مقال الشيخ ولكني أنقله للأمانة من غير
تحريف أو تبديل وربما تطرقت إلى هذه الأشياء في مشاركات أخرى. لا أريد أن أطيل
عليكم بالمقدمات, قال الشيخ حسن:
"أحسن الأستاذ عبد العزيز في دراسة الحديث إسنادياً، وأنه من قول أبي هريرة،
فهذا هو الصواب.. ولي بحث أسميته "لرواية القديمة" كشفت فيه على
أن الرواية القديمة موقوفها على الصحابة والتابعين أكثر بكثير من موصولها ومرفوعها
إلى النبي، وباستطاعة الباحثين أن يطالعوا المؤلفات القديمة في الحديث كالموطأ ومصنف
عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة، ستجدون 90% من أحاديثهم آثار موقوفة، ولكن هذه الموقوفات
في الموطأ أصبحت مرفوعة - غالباً - في المصادر اللاحقة (كالبخاري ومسلم والسنن ..الخ)،
وهذا له علة لا ينتبه لها دارسو الحديث، فهذه النقلة (من الموقوفات إلى المرفوعات)
لها أسباب سياسية ومذهبية، أما السياسية فمرحلة المتوكل الذي شجع الحديث وأهله وأغدق عليهم الأموال.
وأما المذهبية الخصومية فأهل الحديث أرادوا بالمرفوع أن يجبهوا أهل الرأي (كالأحناف
وغيرهم) بأن يجعلوهم في مواجهة رسول الله مباشرة! فكان أهل الحديث - كالبخاري ونحوه
- قد تجنبوا الموقوف - إلا نادراً - وكثفوا المرفوع، فهذه وظيفتهم في مؤلفاتهم، لذلك
فعيونهم على (الصحيح المسند) فقط! وهذا يعني أنهم إن وجدوا حديثاً قد رواه خمسة موقوفاً
على أبي هريرة ثم وجدوا أن الحديث نفسه قد روي مسنداً من طريق واحد سيأخذون المسند
فقط! وكان الأولى أن يتركوا ما ترجح وقفه حماية لجانب النبي من التقول عليه بالظن،
ولذلك اخترعوا ما يسمونه (زيادة الثقة) ليسدوا بها هذه المشكلة. ومن أراد أن يشعر بهذه
المشكلة فليراجع موطآت مالك للدراقطني، وسيجد العجب العجاب من اختلاف أهل الحديث عن
مالك في وصل الحديث و وقفه!
على كل حال.. هذا الخلل الروائي كان قديماً، بدأت بوادره من أيام النبي نفسه برواية بعض الصحابة
عن أشرار أهل الكتاب لا خيارهم، فكانوا يحبونهم، وإذا كان في الصحابة من هم ((سمّاعون))
للمنافقين، فمن باب أولى أن يكون فيهم سماعون لليهود، وقد حذر الله من هؤلاء وهؤلاء،
ولكن لم ينته بعضهم. ولكن يبقى السؤال: قد يقول بعضهم : وماذا تقول في الآية الكريمة ((بل فعله كبيرهم
هذا)) أليس هذا كذباً؟ وقوله ((إني سقيم)) أليس كذباً؟ وبقيت الكذبة الثالثة التي زعم
أبو هريرة أن إبراهيم كذبها، وهي قوله عن امرأته أنها أخته حتى يرسلها لملك جبار يخشى
أن يقتله ويأخذها منه! حسناً سنجيب باختصار، وحسن الظن بالأنبياء مقدم إذا وجدنا
تأويلاً مقبولاً في الآيات.
أما زعم أبي هريرة أن إبراهيم كذب فأبو هريرة أولى بالكذب. تعالوا نجيب
على الآيتين، وأما الكذبة الثالثة التي زعهما أبو هريرة فلا تهمنا (هي من كعب الأحبار)،
أما الآية الأولى فخذوها من سياقها واسمعوا: أما قول إبراهيم عليه السلام ((بل فعله كبيرهم هذا)) فهو
مشروط بكونهم ينطقون، وسنذكر السياق كله، فاسمعوه جيداً! وتمهلوا حتى أجيب. وسيتبين لكم
إن شاء الله كلام إبراهيم في سياق الجدل ولم يكذب. قال تعالى: ((قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ
هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62)قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ
إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) )) [سورة الأنبياء[ فكلمة
"فاسألوهم" جملة معترضة، أي إن كانوا ينطقون، إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم.. سأذكر الآية
مع بيان الجملة المعترضة (بل فعله كبيرهم هذا - فاسألوهم - إن كانوا ينطقون) وبحذف
الجملة المعترضة يكون المعنى: (بل فعله كبيرهم هذا -- إن كانوا ينطقون) فالقول مشروط مثل ((قل
إن كان لله ولد فأنا أول العابدين)) ونحن اتفقنا على تقديم حسن الظن بالتأويل السائغ واتفقنا على
أن الجمل العترضة موجودة في القرآن واتفقنا على أن الأقوال المشروطة ليست كذباً.
ومن قرائن أن هذا التأويل هو الصحيح بقية السياق، فبماذا رد المشركون على إبراهيم؟
اسمعوا ((فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ
(64)ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ(65))
[سورة الأنبياء[ انظروا كيف انذلوا
وخضعوا ولم يسخروا ولم يضحكوا! فقد فهموا شرط إبراهيم عليه السلام وفهموا حجته
القوية وعاتبوا أنفسهم ونكسوا رؤوسهم ولم يتهموه بالكذب كما فعل أبو هريرة وكعب الأحبار. لم يقولوا :
بل كذبت، ما يستطيع كبيرهم أن يفعل، ولا تضاحكوا، ولم يحتجوا بأنه كذاب، بل قالوا
: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون! فهم فهموا الشرط تماماً.. فلذلك انطلق معهم إبراهيم في
خضوعهم وذلتهم وعلمهم بأنهم قد خُصِموا فقال: ((قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ
وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)) [الأنبياء [أظن الأمر اتضح. وعجبي ممن يصدق تكذيب نبي من متهم بالكذب ولا يصدق تكذيب
متهم بتكذيبه نبياً!
ذكرنا في الجزء الأول أن الآية ((بل فعله
كبيرهم هذا)) مشروط ب (إن كانوا ينطقون) وللأمانة فهذا المعنى قد ذكره بعض السنة
وبعض الشيعة، وأظن هؤلاء وهؤلاء قد أخذوه من الإمام جعفر الصادق فهو أول من وجدت
نص التبرئة عنه. ورواية الشيعة في عدة مصادر تقول: سُئل
الصادق عن قول الله عز وجل في قصة إبراهيم ((بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا
ينطقون)) ؟ فقال : ما فعله كبيرهم وما كذب إبراهيم! قيل: وكيف؟ فقال : إنما قال ((إن كانوا ينطقون)) أي إن نطقوا فكبيرهم
فعل وإن لم ينطقوا ، فلم يفعل كبيرهم شيئاً فما نطقوا وما كذب إبراهيم) انتهى قول جعفر الصادق) وهو جواب جليل جداً فالفضل يعود إليه في أصل
الجواب الذي نقله محققون سنة وشيعة. وهذا من بركات علوم أهل البيت التي هجرناها
واستغنينا عنها بالروايات الإسرائيلية التي تشين الأنبياء، ليس في حق إبراهيم فقط
بل القصص كثيرة. فإن من يحقق فيما يخص قصص الأنبياء واليوم
الآخر بل وصفات الله .. سيجد معظم مادة أهل الحديث من ثقافة اليهود والنصارى. وهذا موضوع طويل جداً
لكن نصيحتي لطلبة العلم أن يتوقفوا على
الأقل في الأحاديث المسيئة لله وهي كل أحاديث التشبيه أو المسيئة للأنبياء كهذا
الحديث حتى يتبينوا. بقي قوله تعالى عن إبراهيم ((إني سقيم))
وعدها أبو هريرة - تبعاً لأستاذه كعب الأحبار اليهودي الأصل - من كذبات إبراهيم
والسؤال: ما
أدراهم؟ لماذا لا يكون إبراهيم صادقاً بأنه سقيم؟ أين الدليل على أنه كذب في هذا؟
أليس يمرض الأنبياء؟ وهذا لا يمنع كونه كسر أصنامهم فالسقيم يتحرك. الجواب الثاني:
ذكر بعض
أهل السنة والشيعة أن إبراهيم يعرف مرضه من النجوم، وأن السحرة كذبة لأنهم يقلدون
الأنبياء بلا علم بعكس الأنبياء فالنجوم - على رأي هؤلاء - هي علامات ودلالات وليس
لها من الأثر شيء مثلما يستدل المزارعون بالنجوم على مواقيت الزراعة والأمطار فهو
علم صحيح وإنما كان ذم المنجمين لأنهم لا يقتصرون على العلم الصحيح من النجوم بل
يخبطون فيها خبط عشواء وينسبون إليها التأثير المستقل في المخلوقات. وعلى
هذا فخروج قوم إبراهيم لموعد عيد لهم كان في وقت عرف فيه إبراهيم من نظرته في
النجوم أنه سيكون سقيماً في وقت خروجهم ودليل هؤلاء ((فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي
النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ)) (الصافات) فهم ربطوا بين نظرته في
النجوم وعلمه بحلول سقمه.
أما الجواب الثالث: فالسقم أنواع، سقم
الجسد وسقم التعب ومنها أنه سقم من عبادتهم الأصنام ومجادلتهم مثلما نقول اليوم :
الغلاة يُمِرضون! فقد تتجادل مع من لا يفهم حتى تقول : تراك
أمرضتني! فأنا مريض.. وتقوم بحظره وأخذ راحة لنفسك فإبراهيم تعب من
هؤلاء ولا يريد صحبتهم، فهذا سقم. جواب رابع:
قيل أن مراد إبراهيم الإخبار عن المستقبل
أنه سيموت موتاً ويسبق ذلك سقم فقوله إني سقيم كقول الله للنبي ((إنك ميت)) أي
بحسب المآل فقول الله للنبي وهو حي ((إنك ميت وإنهم ميتون)) أي إنك ستموت وهم
سيموتون فما الفرق بين ((إني سقيم)) و ((إنك ميت)) ؟ ولكن الجواب الأول أقوى عندي.
فالخلاصة في هذه الكذبة المزعومة أنه لا دليل عليها أنها كذبة سواء كان الإخبار عن
الحال أو المآل عن سقم القلب من هؤلاء الكفار أو سقم البدن.
وأما ما زعمه أبو هريرة من أن إبراهيم قال
عن زوجته إنها أختي فلو صح فليست كذبة، فالجميع أخوة في الدين، والتورية مباحة
للضرورة. فأنت إذا خفت من ظلم ظالم جاز لك التورية بل بعض
العلماء يجيزون- بأدلة- الكذب عند الاضطرار وخشية وقوع الظلم،
ولكن الناس توسعوا في هذا .وعلى كل حال فدلائل براءة إبراهيم من الكذب أقوى
من احتمالاتهم كذبه ولو قيل لأحد هؤلاء: كذب أبو هريرة أو معاوية ثلاث كذبات
لاستنكر ذلك بشدة! وهذه المعاريض تشبه أمر يوسف ((أيتها العير إنكم
لسارقون)) هو يقصد سرقتم يوسف من أبيه وليس صواع الملك. ولهذا التأويل قرائن من السياق
نفسه ومن ذلك قول أصحاب يوسف ((نفقد صواع الملك)) ولم يقولوا (سرقتم صواع الملك) فوصفهم
بالسرقة لأمر سابق ثابت فيهم ولم يتوبوا منه، وهو سرقة يوسف. والخلاصة أن الله قد
أباح الكفر اللساني في حالات - كحالة عمار بن ياسر ((إلا من أكره وقلبه مطمئن
بالإيمان)) فالمعاريض و التوريات من باب أولى نقول هذا تنزلاً وإلا فلم يثبت على
إبراهيم ولا غيره من الأنبياء كذبة. علماً
بأنني لا أقول بالعصمة التي يراها الأخوة الشيعة ولا الأشاعرة. يعني لا أقول بالعصمة من السهو ولا النسيان وخلاف الأولى وما أشبه ذلك
ولكن نعم لا أقول بكذب الأنبياء ولو لمرات يسيرة كما يزعم أبو هريرة. وعلى كل حال فموضوع الأحاديث وكثرتها والتهامها من قبل الروائيين قد
أفسدت علينا تدبر القرآن وتم حشو عقولنا بالمعلومات الروائية دون القرآنية."
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
No comments:
Post a Comment