السلام عليكم
ورحمة الله وبركاته... سألني أحد المشايخ الفضلاء وهو من أعز وأحب أصحابي بل هو من
أقرب الناس إلى قلبي, فقال لي ما منهجك في البحث العلمي. وهل درست الأصول على شيخ
أو حفظتها قبل تدوين ما تقوم بتدوينه؟ فقلت له الإجابة على ذلك يطول و وعدته بأني
سأكتب رأي الشخصي في المسألة. وقد سألني بعضهم فقال ما الفائدة المرجوة من بحثك في
مسائل تكلم فيها العلماء من قبل؟ باختصار الفائدة المرجوة أن أختار عقيدة عن
اختيار شخصي واقتناع وليس تقليدا لغيري, فإنه يغلب على ظني بأن التقليد لن يغنيني
ولن تكون لي حجة يوم القيامة. ولتفصيل ما ذكرت أدعوكم لقراءة ما كتبته سابقا في
المدونة بعنوان: "الاختيار
والتقليد" لأني فصلت رأي في مسألة التقليد.
أما عن منهجي في
طلب العلم هو الطلب الحر, أقصد بذلك بأني لا أتقيد بمنهج من المناهج التي وضعها
العلماء بل أقرأ بشكل متنوع, فمثلا إن قرأت في التفسير قد تجدني أقرأ بعد قراءتي للتفسير
الميسر أقرأ التفسير الكبير للرازي, أو تفسير الطبري. ومن ثم أعود إلى تفسير ابن
كثير أو تفسير الجلالين. وقد تجدني أيها القارئ, أقرأ في تفسير سورة سنة بأكملها
كما فعلت مع سورة البقرة, فقرأت تفسير الرازي والطبري والشعراوي و ابن كثير
والزمخشري والقرطبي و وقتها لم أنتهي بعد من قراءة تفسير سورة الرعد من تفسير الجلالين
أو تفسير السعدي. فأنا أقرأ عندما أحتاج إلى قراءة وفهم مسألة معينة, ولا أقرأ
بالطريقة الكلاسيكية أو ما يسمونه بمناهج العلماء, بالتدريج, فيقولون قبل قراءة
تفسير الطبري وأخذ الفوائد لابد أن تقرأ مثلا تفسير الجلالين أو الميسر ومن بعده
تفسير السعدي ومن بعده تفسير ابن كثير ومن بعده أضواء البيان وأخيرا الطبري, وقد
يضيع من عمري سنوات وأنا لم أقرأ ولا أي شيء من كتابات ابن جرير الطبري رحمه الله.
وهكذا قل مع كتب أبو حامد الغزالي أو الرازي أو ابن تيمية, يضعون منهجية تدرج فيها
ربما سنوات فقط لتقرأ الذي ترجو قراءته.
من أشهر الأمثلة, يقولون
قبل أن تفسّر القرآن الكريم لابد أن يكون عندك من العلوم ما يتجاوز العشرة, بل لا
أبالغ إن قلت بأن بعضهم قد أورد 15 علما قبل الخوض في تفسير القرآن. وعلماء
اشترطوا أكثر أو أقل, كل هذا فقط قبل ابداء فهمك لكلام الله سبحانه وتعالى. وهم في
الحقيقة يهولون ويبالغون في ذلك, فيشترطون على المسلم قبل أن يبدي ما فهمه من
القرآن أن يتمكن من النحو والصرف واللغة والناسخ والمنسوخ والحديث والفقه وأصول
الفقه و التاريخ و أشعار العرب وغير ذلك وهذا في الحقيقة لا برهان لهم فيه. فلا
نجد في كتاب الله سبحانه وتعالى هذه الشروط ولا في سنة محمد صلى الله عليه وسلم.
بل يُنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأنه قال: "ما بال أقوام يشترطون
شروطا ليست في كتاب الله فمن اشترط شيئا ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مائة شرط
وشرط الله أحق وأوثق". إنما كان يكفيهم أن يقولوا لا ينبغي لمسلم أن يتكلم بغير علم سواء في
الأمور الدينية أو الدنيوية كما قال الله سبحانه وتعالى: ((وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ
لَكَ بِهِ عِلْمٌ)). ملاحظة: أنا لا أعترف بشيء اسمه تفسير القرآن, إنما دراسة
شخصية لكلام الله أو على الأقل فهم نسبي, أما أن يأتي من يُسمونه المفسر اليوم
ويسرد الآيات ويقول تفسير هذه الآية كيت وكيت, ويأتي آخر ويقول يريد الله أن يقول,
وبعضهم يقول: تأويل هذه الآية...الخ ولا يقولون لعل, وربما, مقتضى فهمي كذا وكذا.
وكأن كل منهم يوحى إليه! وفي واقع الأمر لا يوحى لهم بشيء, قد يدخل ما يفعلونه في
القول على الله بلا علم وهم لا يشعرون. وكم رأيت في المفسرين من يتنطّع ويحاول أن
يحدد الشجرة التي أكل منها آدم, فيقول هي شجرة كذا و قيل شجرة كذا...الخ وليس لهم
حديث صحيح في هذا الباب, فما يكون قولهم؟ مجرد ظن منهم! فلماذا يهولون ويخيفون
المسلمين ثم هم لا يتقيدون بذلك؟ ألا نجدهم يكررون الروايات التي ينسبونها لأبو
بكر الصديق رضي الله عنه أو غيره من الصحابة من تهويل أمر القول في كتاب الله! قد
تجدهم يستدلون بالرواية ربما في غير محلها كما يفعل بعضهم في قوله تعالى: ((ويتبع
غير سبيل المؤمنين)).
قال لي صاحبي,
قبل أن تخوض هذه المسائل لابد أن تجلس مع شيخ, وتفهم الأصول ثم تحفظها ثم
تعرف أدلة هذه الأصول وأخيرا تفهم لماذا الأدلة التي يستدلونها في أصولهم صحيحة.
كم تظنون يستغرق هذا من الوقت؟ ربما سنوات! ويأتي في النهاية ليكتشف أن الأدلة
التي يستدلون بها لبناء أصل معين, أدلة غير قوية وغير كافية, وبهذا ضاع من عمرك
هذه سنوات بلا فائدة. مثال ذلك, أنا قرأت في أدلة القائلين بالناسخ والمنسوخ في
القرآن, و في واقع الأمر لم أجدها مقنعة, فهل علي الآن أن أحفظ أصول وقواعد الناس
والمنسوخ, وأحفظ الآيات المنسوخة وغير ذلك ثم أخيرا أبدي رأي الشخصي وانتقد أدلة
القائلين بالناسخ والمنسوخ؟ قد يرضى ذلك بعضهم, ولكني لا أرضاه لنفسي, فالوقت عندي
ثمين, وما كنت لأضيعه على مثل هذا. ثم بعضهم يشترط حفظ العلم ويسردون لك روايات من
علماء السلف لبيان أهمية الحفظ ومن لم يحفظ لا يُعتبر بقوله! إني سائلهم الآن؟ متى
وجدتم في كتاب الله أمرا بحفظ القرآن تلاوة؟ إنما وجدت بأن الله سبحانه وتعالى يأمرنا
بتدبر آياته هذا مع القرآن فكيف مع بقية العلوم التي فيها الغث والسمين. لا شك أن
حفظ كتاب الله أمر طيب, ولا شك بأن الحفظ له فوائده للاستشهاد وغير ذلك, ولكن ليس
شرطا أن نحفظ قبل إبداء آرائنا في مسائل معينة وخاصة أن اليوم الأحاديث موجودة مع
خاصية البحث في درجة صحة الحديث, و أقوال العلماء متوفرة ويحصل عليه العامي اليوم
بكل سهولة ويسر. ولهذا نجد كثيرا من عوام الناس اليوم يردون على المشايخ في مسائل
معينة, لأن الحفظ ليس كل شيء و الفهم أهم.
ثم كما قلت سابقا أين
تجدون في كتاب الله بأننا بحاجة إلى كل هذه العلوم لنفهم كلام الله؟ أحب أن
أسألهم, هل تؤمنون بأن الله قد يهدي قارئ القرآن بمعنى أنه يفهم أمورا لم يفهمه
غيره من القراء؟ أليس يروون قصة ذلك الرجل الذي سمع الرسول صلى الله عليه
وسلم يتلو سورة الطور فطار قلبه فرحاً بما سمع! لماذا طار قلبه؟ هل كان عالما
بالناسخ والمنسوخ؟ أم هل كان عالما بأصول الفقه وعلوم الحديث من متواتر وغير
متواتر, حديث مرسل ومدلس, بل هل كان يحفظ 300 ألف حديث؟ فإنهم يروون عن الإمام
أحمد بن حنبل بأنه لا يجزئ أن يحفظ أحدهم 300 ألف حديث أن يتكلم في الفقه! وللأسف عندما أقول لهم بأن الكلمات في القرآن
الكريم مفهومة أو يمكن فهمها بسهولة أقصد من الناحية اللغوية عن طريق المعاجم
المتنوعة والإلكترونية منها, يقولون لك: "لا يكفي" لابد أن تعرف أيضا
اختلاف علماء اللغة في المسألة الفلانية, ومسائل دقيقة, فأقول لهم إذا تريدونني أن
أتخصص في اللغة وأكون باحثا ودارسا و مدققا وغير ذلك ثم أبحث في القرآن وأفهم
القرآن وأنشر فهمي لمن أراد أن يقرأ؟ سبحان الله! لعل هذا هو أحد اسباب هجرة
المسلمين للقرآن وقلة نسبة تدبر آيات القرآن, بسبب هذه الشروط التي وضعوها
المشايخ, فلا يتجرأ أحد لنشر فهمه في القرآن إلا هم أي المشايخ! وكان ينبغي أن
يكون لنا عبرة في قصة الصحابي ابن عمر رضي الله عنه وسؤال الرسول صلى الله عليه
وسلم عن شجرة مثلها كالمؤمن. ثم دعونا نفترض بأني ولدت جهميا أو شيعيا أو معتزلي
أو صوفي, ثم أمرنا مشايخ طائفتي بقراءة الأصول والحفظ وغير ذلك وأصول المذهب
الشيعي غير أصول المذهب الأشعري, وأصول الأشاعرة غير عن أصول السلفية, فلولا
منهجية البحث والطلب الحر, لعلي بقيت في مذهب معين لعشر سنوات وأنا أظن بأني على
حق وغيري على باطل وهذا هو الحاصل, وأقول إن كنت محظوظا ربما بعد عشرون سنة أكتشف
بأن ما تبنيته من عقائد ودرست من أصول وحفظت من متون كان باطلا أما إن لم يتداركني
الله برحمة منه, قد أموت وأنا أعتقد في الله عقائد باطلة. فالعمر الذي قد كتب لنا
لا يتسع لتدارك ما أضعناه من أعمارنا بالحفظ ودراسة أصول مذهب معين اكتشفنا خطأه,
بل لابد لنا من اتباع منهجية ابراهيم عليه السلام للوصول إلى الحق المذكورة في
القرآن.
بعد كلامي هذا,
أعيد وأكرر كي لا يسيء فهمي أحد, لا شك بأن التدريج له فوائده, وأن طلب العلم بين يدي
المشايخ أمر مفيد أيضا, ولا شك بأن القول في كتاب الله بغير علم لا يجوز, ولكن هذا
لا يعني بأن المرء لا ينبغي له أيضا عرض فهمه على الناس من غير الزام لهم إن لم
يصل سعة علمه لدرجة ابن جرير الطبري مثلا. ومن يدري, لعل العامي منا يفهم أمرا في
القرآن لم يفهمه ابن جرير, لا أقول فجأة, لكن بسبب قراءة حرة, أو قراءة في كتاب
معين, أو جلسة عند شيخ قال فيه الشيخ بأن ابن جرير أخطأ في المسألة فهو حفظ ذلك أو
موقف معين...الخ ومنهجيتي باختصار منهجية حرة, أقرأ لهذا وهذا وذاك وذاك, فأنا أجلس أحيانا أحاور بعض المشايخ
الفضلاء, وغالبا أجمع العلم عن طريق القراءة الحرة. ثم بعد جمع فكرة معينة أو أمر ما أقوم باختبار ما تعلمته أو أخذته من أفكار, والاختبار يكون عن طريق مقارنته بأقوال الناس من العلماء والمشايخ والدارسين, أو مدى تمسك الفكرة أمام الانتقادات العقلية والمنطقية, وطبعا قبل كل ذلك أعرضه على كتاب الله سبحانه وتعالى. البحث في موضوع ثم الدراسة والفحص ثم التقويم ثم الاختبار ثم القياس ومن ثم العودة إلى البحث والدراسة والطلب من جديد. وفي الأخير أشكر أخي وصاحبي
الشيخ الذي قصدته في هذا المقال على نصيحته, فإني لا أعلم عنه سوى حب الخير لي,
وإني والله أحبه في الله ولكني لا أحب أن أجامل أحدا من الناس إن كان في نفسي شيء
أخالف فيه صحابي, فإن أقول الذي أظنه حقا ولو كان مرا على صاحبي هو خير عندي من مجاملته,
وأخيرا أرجو الله أن يغفر لصاحبي ويرحمه ويرفع قدره ويجعله للمتقين إماما. والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته.
No comments:
Post a Comment