قال الله الذي لا إله إله هو، رب العالمين، الرحمن الرحيم، العزيز الحكيم: (وَتَرَى الجِبالَ تَحسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ ۚ صُنعَ اللَّـهِ الَّذي أَتقَنَ كُلَّ شَيءٍ ۚ إِنَّهُ خَبيرٌ بِما تَفعَلون) {النمل ٨٨}
اختلف أهل التفسير في معنى الآية و هل هذا في الدنيا أم آخر الزمان؟ أيًّا كان الأمر فقد استدلّ بعض المعاصرين بهذه الآية على كروية الأرض و دورانها حول محورها، واستدلالهم ليس في محلّه وغير صحيح، وذلك لأنّ الله هنا يتكلم عن الجبال، ولم يتكلم عن الأرض و ليس في الآية ذكر الأرض أساسا.
و حتى بعض الذين يؤمنون بالنموذج المسطّح للأرض انغلق عليهم فهم الآية و ارتبكوا إذ خُيّل إليهم أنهم في ورطة، إذ كيف تتحرك الجبال والأرض ثابتة؟ هل هذا يعني أنّ كلام المؤمنين بالنموذج الكروي للأرض هو الأصحّ؟ في الحقيقة هذه الرهبة هي أحد الأسباب التي جعلتنا نصل إلى ما نحن فيه، للأسف إن شعر الناس بالخوف تجاه مسألة ما ولم يجدوا تفسيرا مُقنعا يحلّ المسألة، تركوا ظاهر القرآن، وأخذوا بتفاسير بعيدة. كأنّ الإنسان يريد أن يفهم كلّ شيء بشرط ألا يكون جاهلا في شيء، فإن شعر بأنه يجهل المعنى فسيأخذ أيّ معنى آخر ليغطي به جهله! لكن ما يحدث أنهم عندما يأخذون المعنى، ولِنَقُل المعنى الخاطئ فإنهم يزيدون جهلا فوق جهلهم، كان الأولى بهم أن يقولوا: ”آمنا بكلام الله، وقد قال الله إنّ الجبال تمرّ مرّ السحاب، فهي تمرّ ولم نصِلْ بعد إلى فهم المعنى، وما جئت به من تفسير أيها ”الكروي“ ليس بمُقنع، و حتى يجيء اليوم الذي نكتشف فيه معنى الآية سنكتفي بأنّ الجبال تمرّ مرّ السحاب“. لو فعل الناس مثل الذي ذكرت لكان في ذلك خير عظيم لكن هذا للأسف لا يحدث إلا قليلا، هذه الشجاعة بحاجة إلى إيمان قوي جدًّا بآيات الكتاب العزيز.
من خلال قراءتي أحسب أنّ أحسن ما قرأت من أقوال الناس في هذه الآية قولين، قول من محمد الأمين الشنقيطي صاحب تفسير أضواء البيان و الثاني من قول الطاهر ابن عاشور صاحب تفسير التحرير والتنوير.
قال الشنقيطي عند تفسيره لهذه الآية: "قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أنّ من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، ويكون في الآية قرينة تدلّ على بطلان ذلك القول، وذكرنا في ترجمته أيضاً أنّ من أنواع البيان التي تضمنها الاستدلال على المعنى، بكونه هو الغالب في القرآن، لأنّ غلبته فيه، تدل على عدم خروجه من معنى الآية، ومثلنا لجميع ذلك أمثلة متعددة في هذا الكتاب المبارك، والأمران المذكوران من أنواع البيان قد اشتملت عليهما معاً آية النمل هذه. وإيضاح ذلك: أنّ بعض الناس قد زعم أن قوله تعالى: (وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ) [النمل: ٨٨] يدلّ على أنّ الجبال الآن في دار الدنيا يحسبها رائيها جامدة: أي واقفة ساكنة غير متحركة، وهي تمرّ مرّ السحاب، ونحوه قول النابغة يصف جيشاً:
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم وقوف لحاج والركاب تهملج
والنوعان المذكوران من أنواع البيان يبينان عدم صحّة هذا القول. أما الأول منهما: وهو وجود القرينة الدالة على عدم صحته فهو أنّ قوله تعالى: (وَتَرَى ٱلْجِبَالَ) معطوف على قوله: ففزع، وذلك المعطوف عليه مرتب بالفاء على قوله تعالى: (وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ) [النمل: ٨٧] الآية. أي ويوم ينفخ في الصور، فيفزع من في السماوات، وترى الجبال، فدلت هذه القرينة القرنية الواضحة على أنّ مرّ الجبال مرّ السحاب كائن يوم ينفخ في الصور لا الآن. أما الثاني: وهو كون هذا المعنى هو الغالب في القرآن فواضح، لأنّ جميع الآيات التي فيها حركه الجبال كلها في يوم القيامة، كقوله تعالى: (يَوْمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوْراً وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْراً) [الطور: ٩-١٠] وقوله تعالى: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً) [الكهف: ٤٧] وقوله تعالى: (وَسُيِّرَتِ ٱلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً) [النبأ: ٢٠] وقوله تعالى: (وَإِذَا ٱلْجِبَالُ سُيِّرَتْ) [التكوير: ٣] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل: ٨٨] جاء نحوه في آيات كثيرة كقوله تعالى: (فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ) [المومنون: ١٤] وقوله تعالى: (مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتِ) [الملك: ٣] وتسيير الجبال وإيجادها ونصبها قبل تسييرها كل ذلك صنع متقن. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ).“ انتهى كلام الشنقيطي.
أما القول الثاني فهو قول الطاهر ابن عاشور، قال في تفسيره: "الذي قاله جمهور المفسرين إنّ الآية حكت حادثاً يحصل يوم ينفخ في الصور فجعلوا قوله (وترى الجبال تحسبها جامدة) عطفاً على (ينفخ في الصور) {النمل ٨٧} أي ويوم ترى الجبال تحسبها جامدة إلخ.. وجعلوا الرؤية بصرية، ومرّ السحاب تشبيهاً لتنقلها بمرّ السحاب في السرعة، وجعلوا اختيار التشبيه بمرور السحاب مقصوداً منه إدماج تشبيه حال الجبال حين ذلك المرور بحال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها فيكون من معنى قوله: (وتكون الجبال كالعهن المنفوش) {القارعة ٥}، وجعلوا الخطاب في قوله (ترى) لغير معين ليعم كلّ من يرى، وجعلوا معنى هذه الآية في معنى قوله تعالى: (ويوم نسير الجبال) {الكهف ٤٧}. فلما أشكل أنّ هذه الأحوال تكون قبل يوم الحشر لأنّ الآيات التي ورد فيها ذكر دك الجبال ونسفها تشير إلى أنّ ذلك في انتهاء الدنيا عند القارعة وهي النفخة الأولى أو قبيلها، فأجابوا أنها تندك حينئذ ثم تسير يوم الحشر لقوله :(فقل ينسفها ربي نسفاً) {طه ١٠٥} إلى أن قال (يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له) {طه ١٠٨} لأنّ الداعي هو إسرافيل وفيه أنّ للاتباع أحوالاً كثيرة، وللداعي معان أيضاً.
قال بعض المفسرين هذا مما يكون عند النفخة الأولى، كذلك جميع الآيات التي ذكر فيها نسف الجبال ودكها وبسها. وكأنهم لم يجعلوا عطف: (وترى الجبال) على (ينفخ في الصور) {النمل ٨٧} حتى يتسلط عليه عمل لفظ يوم بل يجعلوه من عطف الجملة على الجملة، والواو لا تقتضي ترتيب المعطوف بها مع المعطوف عليه، فهو عطف عبرة على عبرة وإن كانت المذكورة أولى حاصلة ثانياً. وجعل كلا الفريقين قوله (صنع الله) إلخ مراداً به تهويل قدرة الله تعالى وأنّ النفخ في الصور وتسيير الجبال من عجيب قدرته، فكأنهم تأولوا الصنع بمعنى مطلق الفعل من غير التزام ما في مادة صنع من معنى التركيب والإيجاد، فإنّ الإتقان إجادة، والهدم لا يحتاج إلى إتقان. وقال الماوردي قيل هذا مثل ضربه الله، أي وليس بخبر. وفيما ضرب فيه المثل ثلاثة أقوال أحدها أنه مثل للدنيا يظنّ الناظر إليها أنها ثابتة كالجبال، وهي آخذة بحظها من الزوال كالسحاب، قاله سهل بن عبد الله التستري. الثاني أنه مثل للإيمان تحسبه ثابتاً في القلب، وعمله صاعد إلى السماء. الثالث أنه مثل للنفس عند خروج الروح، والروح تسير إلى العرش. وكأنهم أرادوا بالتمثيل التشبيه والاستعارة.
ولا يخفى على الناقد البصير بعد هذه التأويلات الثلاثة لأنه إن كان الجبال مشبهاً بها فهذه الحالة غير ثابتة لها حتى تكون هي وجه الشبه وإن كان لفظ الجبال مستعاراً لشيء وكان مر السحاب كذلك كان المستعار له غير مصرح به ولا ضمنياً. وليس في كلام المفسرين شفاء لبيان اختصاص هذه الآية بأن الرائي يحسب الجبال جامدة، ولا بيان وجه تشبيه سيرها بسير السحاب، ولا توجيه التذليل بقوله تعالى: (صنع الله الذي أتقن كل شيء) فلذلك كان لهذه الآية وضع دقيق، ومعنى بالتأمل خليق، فوضعها أنها وقعت موقع الجملة المعترضة بين المجمل وبيانه من قوله: (ففزع من في السماوات ومن في الأرض) {النمل ٨٧} إلى قوله: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون) {النمل ٨٩} بأن يكون من تخلل دليل على دقيق صنع الله تعالى في أثناء الإنذار والوعيد إدماجاً وجمعاً بين استدعاء للنظر، وبين الزواجر والنذر، كما صنع في جملة: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه) {النمل ٨٦} الآية. أو هي معطوفة على جملة: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه) {النمل ٨٦} الآية، وجملة :(ويوم ينفخ في الصور) {النمل ٨٧} معترضة بينهما لمناسبة ما في الجملة المعطوف عليها من الإيماء إلى تمثيل الحياة بعد الموت، لكن هذا استدعاء لأهل العلم والحكمة لتتوجه أنظارهم إلى ما في هذا الكون من دقائق الحكمة وبديع الصنعة.
وهذا من العلم الذي أودع في القرآن ليكون معجزة من الجانب العلمي يدركها أهل العلم، كما كان معجزة للبلغاء من جانبه النظمي كما قدمناه في الجهة الثانية من المقدمة العاشرة. فإن الناس كانوا يحسبون أنّ الشمس تدور حول الأرض، فينشأ من دورانها نظام الليل والنهار، ويحسبون الأرض ساكنة. واهتدى بعض علماء اليونان إلى أنّ الأرض هي التي تدور حول الشمس في كلّ يوم وليلة دورة تتكون منها ظلمة نصف الكرة الأرضي تقريباً، وضياء النصف الآخر، وذلك ما يعبر عنه بالليل والنهار، لكنها كانت نظرية مرموقة بالنقد وإنما كان الدال عليها قاعدة أنّ الجرم الأصغر أولى بالتحرك حول الجرم الأكبر المرتبط بسيره وهي علة إقناعية، لأنّ الحركة مختلفة المدارات، فلا مانع من أن يكون المتحرك الأصغر حول الأكبر في رأي العين وضبط الحساب وما تحققت هذه النظرية إلا في القرن السابع عشر بواسطة الرياضي غاليلي الإيطالي. والقرآن يدمج في ضمن دلائله الجمّة وعقب دليل تكوين النور والظلمة دليلاً رمز إليه رمزاً، فلم يتناوله المفسّرون أو تسمع لهم ركزاً. وإنما ناط دلالة تحرك الأرض بتحرك الجبال منها، لأنّ الجبال هي الأجزاء الناتئة من الكرة الأرضية، فظهور تحرك ظلالها متناقصة قبل الزوال إلى منتهى نقصها، ثم آخذة في الزيادة بعد الزوال. ومشاهدة تحرك تلك الظلال تحركاً يحاكي دبيب النمل أشدّ وضوحاً للراصد، كذلك ظهور تحرك قممها أمام قرص الشمس في الصباح والماء أظهر مع كون الشمس ثابتة في مقرها بحسب أرصاد البروج والأنواء. لهذا الاعتبار غير أسلوب الاستدلال الذي في قوله تعالى: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه) {النمل ٨٦} فجعل هنا بطريق الخطاب: (وترى الجبال). والخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم تعليماً له لمعنى يدرك هو كنهه، لذلك خصّ الخطاب به، ولم يعمّم كما عمّم قوله: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه) {النمل ٨٦} في هذا الخطاب، وادخاراً لعلماء أمته الذين يأتون في وقت ظهور هذه الحقيقة الدقيقة. فالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم أطلعه الله على هذا السرّ العجيب في نظام الأرض كما أطلع إبراهيم عليه السلام على كيفية إحياء الموتى. خصّ الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بعلم ذلك في وقته وائتمنه على علمه بهذا السرّ العجيب في قرآنه، ولم يأمره بتبليغه إذ لا يتعلق بعلمه للناس مصلحة حينئذ حتى إذا كشف العلم عنه من نقابه وجد أهل القرآن ذلك حقًّا في كتابه، فاستلوا سيف الحجة به، وكان في قرابه.
وهذا التأويل للآية هو الذي يساعد قوله: (وترى الجبال) المقتضي أنّ الرائي يراها في هيئة الساكنة، وقوله: (تحسبها جامدة) إذ هذا التأويل بمعنى الجامدة هو الذي يناسب حالة الجبال إذ لا تكون الجبال ذائبة. وقوله: (وهي تمرّ) الذي هو بمعنى السير: (مرّ السحاب) أي مرًّا واضحاً، لكنه لا يبين من أول وهلة. وقوله بعد ذلك كله :(صنع الله الذي أتقن كلّ شيء) المقتضي أنه اعتبار بحالة نظامها المألوف لا بحالة انخرام النظام، لأنّ خرم النظام لا يناسب وصفه بالصنع المتقن، لكنه يوصف بالأمر العظيم أو نحو ذلك من أحوال الآخرة التي لا تدخل تحت التصور. و(مرّ السحاب) مصدر مبين لنوع مرور الجبال، أي مروراً تنتقل به من جهة إلى جهة مع أنّ الرائي يخالها ثابتة في مكانها كما يخال ناظر السحاب الذي يعم الأفق أنه مستقرّ، وهو ينتقل من صوب إلى صوب، ويمطر من مكان إلى آخر، فلا يشعر به الناظر إلا وقد غاب عنه. وبهذا تعلم أنّ المر غير السير الذي في قوله تعالى: (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة) {الكهف ٤٧} فإنّ ذلك في وقت اختلال نظام العالم الأرضي. وانتصب قوله (صنع الله) على المصدرية مؤكداً لمضمون جملة (تمرّ مرّ السحاب) بتقدير صنع الله ذلك صنعاً. وهذا تمجيد لهذا النظام العجيب، إذ تتحرك الأجسام العظيمة مسافات شاسعة، والناس يحسبونها قارة ثابتة، وهي تتحرك بهم ولا يشعرون. والجامدة الساكنة، قاله ابن عباس. وفي "الكشاف" الجامدة من جمد في مكانه إذا لم يبرح، يعني أنه جمود مجازي، كثر استعمال هذا المجاز حتى ساوى الحقيقة والصنع.“ انتهى كلام ابن عاشور.
ما سبق محصّل أقوال الأولين، فإن سألتني عن رأيي، فعن نفسي فإني أرى أنّ مسألة مرور الجبال هي كما ذهب إليه الطاهر ابن عاشور و غيره من المفسّرين، أي أنّ مرور الجبال في الدنيا، وهذا لا يمنع من أن تكون الجبال مُسيرة في الآخرة. وسبب اختياري لذلك وضوح قوله سبحانه وتعالى بعدها: (صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) فهذا من صنعه في هذه الدنيا للاعتبار. أما في الآخرة عند حدوث الأهوال المذكورة في القرآن فقد انتهى زمن الاعتبار وانتهت المهلة، فإن الشمس تُكور، ويذهب ضوؤها، والبحار تُسجر، والنجوم تنكدر، أمور عظيمة تدلّ على تبدّل النظام، فقوله صنع الله يدلّ على دقة نظامه وخبرته عز و جل ببواطن الأمور، ولعلّه من أجل ذلك ختمها بقوله: (إنه خبير بما تفعلون).
فإن قالوا: إنّ السياق يدلّ على أنّ مرور الجبال في يوم القيامة، الدليل الآية التي قبلها: (وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي ٱلسماوات وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ) أقول: هذا يبدو صحيحا للوهلة الأولى، لكن إن نظرنا نظرة فاحصة شمولية وجدنا أمرًا آخر. دعنا نعود إلى بضع آيات قبل هذه التي فيها ذِكر النفخة، سنجد التالي:
(وَإِذَا وَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ ٱلأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذَا جَآءُو قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا ٱلْلَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) )
كما تلاحظ تبدأ الآيات بأمور آخر الزمان ثمّ تنتهي أخيرا بقوله: (أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا ٱلْلَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وواضح من السياق أنّ الليل والنهار أمور دنيوية، والمقصود منها الآيات، لكن قبلها أمور لها علاقة بالآخرة. فلابدّ من أنّ الآية التي فيها ذكر الليل والنهار هناك علاقة. كذلك بعدها ذكر أمرا عن الآخرة ثمّ ذكر آية من آيات الله في الدنيا، وهي مرور الجبال كمرّ السحاب. الذي أريد أن أقوله إنّ دراسة نظم و النمطية في القرآن مهمّ كدراسة السياق، ليس فقط دراسة آية قبلها وآية بعدها.
لكن يبقى السؤال، كيف تمرّ الجبال ونحن نراها جامدة؟ الله العليم الخبير أعلم بذلك، لكن الله أثبت أنها أي الجبال تمرّ كمرّ السحاب، وهذا يكفي، ولو كانت المسألة أننا نراها تتحرك لما قال (تحسبها جامدة). إذن كونها تبدو جامدة أمر طبيعي، لكن الله يريد أن يلفتنا لأمر خفيّ وهو أنّ الجبال تتحرك بالرغم من كوننا نراها جامدة.
ما طبيعة مرور الجبال و حركتها؟ لا أدري بالضبط، لكن بالتأكيد لا يمكن أن أقول كما يقول أهل الإعجاز العلمي إنها تمرّ فقط لكون الأرض تدور حول نفسها و تدور حول الشمس. لا يصحّ أن يُقال بدوران الأرض السماء تتحرك، الجبال تتحرك، النجوم تتحرك، الأشجار تتحرك…إلخ فإنه في منظورهم أنّ الأرض هي التي تدور.
ثم هناك فرق كبير في اللغة العربية بين المرور و الدوران و هذا يعرفه من له أدنى دراية بلسان العرب. ثم لاحظ أنه قال تمر مرّ السحاب، و هل دوران الأرض بسرعة ألف ميل في الساعة تقريبا يُسمى مرورا؟ هناك فرق كبير بين مرور السحاب و دوران الأرض حول نفسها، فليس هناك أي وجه للشبه بين مرور السحاب و دوران الأرض، نفهم مما سبق أنه ليس هناك أي وجه للشبه بين مرور الجبال و دوران الأرض.
من مرّ على آيات القرآن و فهم الظاهر من معانيها، فإنه سيكتشف أنها تدلّ على استقرار الأرض، وأنها ثابتة لا تتحرك، فكيف نعمل بهذه الآية ونحن لا نرى الجبال تمرّ؟ الإجابة الأولى كما قلت، المسألة ليس المقصود منها رؤيتنا لها تمر أو تتحرّك إذ قال الله عز و جل عنها (تحسبها جامدة). فإن نحن نظرنا إلى الجبال سنحسبها جامدة. هذه واحدة في الإجابة عن السؤال.
أما الثانية فالإجابة قد تجدها في هذا النموذج الذي سأطرحه. تخيل الأرض على الماء، الماء الذي أحبّ أن أسميه ”البحر الكوني المحيط“، وأنها أول ما خُلقت (أي الأرض) كانت تميد أي تتحرّك، كوضع قطعة خشبية مسطّحة تطفو على وجه الماء، فإنها تطفو غير أنّ حركتها تكون مضطربة بحركة المياه، لكن إن وضعت الأثقال عليها فإنها تثبتها. كذلك يغلب على ظنّي أنّ الله سبحانه وتعالى ألقى الجبال رواسي لتثبيت الأرض. و بما أنّ الجبال والأرض جميعا على الماء، فإنّ أعماق الجبال التي هي للأرض كرواسي السفن، فإنها هي، أعني الجبال، هي التي تتحرك، لأن البحر الكوني المحيط أعمق من أقدام الجبال، وبذلك لا تثبت الجبال على الماء، بل ستمرّ مع ماء البحر الكوني، في حين أنّ الأرض التي على الماء ثابتة لا تميد و حركتها صارت مستقرة بسبب ثقل الجبال. وكما أنّ الرياح تجعل السحاب تمرّ فوقنا حركة بطيئة كذلك ماء البحر الكوني لها دور في جعل الجبال تمرّ كمرّ السحاب و لقائل أن يقول أن كون الأرض على البحر الكوني قد يكون السبب الذي من أجله تتكون الأمواج إن لم نأخذ بالرياح و ما إلى ذلك، لكن تفاصيل هذا المنظور معقّد جدا و لا أظن أن الناس سيستوعبون ما أريد قوله في هذا النموذج إذ الكلام فيه كثير و أظن أني سأفشل في التعبير عن بعض هذه الأفكار بلغة يسيرة يفهمها الناس عني و من أجل هذا سأؤجل الحديث عن هذا المنظور بشكل تفصيلي.
حاول أن تستوعب، وتتخيل ما قلته، ستجد أنني جمعت جميع آيات القرآن في موضوعنا هذا في سلك، وقدّمت إجابة جديدة، لماذا الأرض ثابتة، والجبال رواسي، وهي التي تمرّ مرّ السحاب، ولماذا الأرض ليست كروية و لا تدور حول نفسها.
و تحصّل لدينا من هذا المقال، أن استدلالهم بالآية على كروية الأرض لا تصلح أن تكون دليلا، بل إن الآية دليل على أنها مسطّحة و الحمدلله رب العالمين.
No comments:
Post a Comment