Saturday, December 20, 2014

على ساحل القرآن - الرحمن الرحيم




السلام عليكم و رحمة الله و بركاته... في المشاركات السابقة انتهيت من كتابة بعض الحكم و الفوائد المتعلقة بقول الله سبحانه و تعالى: ((الحمدلله رب العالمين)) و أنتقل اليوم إلى الحديث عن قوله بعد الحمد: ((الرحمن الرحيم)). و قد سبق وأن فصّلت في معنى اسم الله "الرحمن" و "الرحيم" و ذلك في مشاركاتي عن البسملة وما كان هناك فلن أكرره في هذه المشاركة إن شاء الله. لكن أدعو كل قارئ يقرأ هذه المشاركة أن يرجع إلى ما كتبته في البسملة ليفهم التصور العام الذي عندي لمعنى (الرحمن الرحيم) ليسهل عليه فهم هذه المشاركة. على كل قد تسأل كما سأل كثيرون, ما الحكمة من تكرار (الرحمن الرحيم) مرة في البسملة و مرة بعد (الحمدلله رب العالمين)؟

أقول للإجابة على السؤال, من رأى بأن البسملة ليست آية من سورة الفاتحة فلا يرد عليه هذا السؤال أصلا, أما من يرى أن البسملة آية من سورة الفاتحة أو آية مستقلة فنعم. وقبل أن أفصّل في إجابتي أحب أولا أن أنقل حكمة جميلة وجدتها في تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا أنقلها كما هي: "إن معنى الرحمة في بسملة كل سورة, هو أنّ السورة منزلة برحمة الله و فضله, فلا يعدّ ما عساه أن يكون في أوّل السورة أو أثنائها من ذكر الرحمة مكررا مع ما في البسملة, وإن كان مقرونا بذكر التنزيل كأوّل سورة فصلت ((حم تنزيل من الرحمن الرحيم)) لأن الرحمة في البسملة للمعنى العام في الوحي و التنزيل, و في السور للمعنى الخاص الذي تبيّنه السورة" و هذه ملاحظة جميلة من الشيخ رحمه الله, و أحب أن أضيف بعض الحكم.

أقول من الحكم في ذلك والله أعلم أنه تعريف عن الله سبحانه و تعالى, فالله أولا عرّف عن نفسه بأنه (رب العالمين) وفي المشاركة السابقة شرحت بشيء من التفصيل عن معنى (رب العالمين) فإن قرأت ما كتبته, فيكون هذا مثل رد على سؤال: (ومن هو رب العالمين) وتعريف آخر لله سبحانه وتعالى فأتى الجواب بأنه الرحمن الرحيم. وذلك لأني كما ذكرت سابقا بأن اسم "الرحمن" هو اسم علم خاص بالله, و اسم "الرحيم" اسم من أخصّ أسماء الله الدالة على جميع أسماء وصفات الجمال. والرحمن يدل على جميع أسماء الله وصفاته ولكن بشكل أخص يتعلق بأسماء الجلال, وفهم ذلك يبعث في قلب المؤمن الرغبة و الرهبة, هذه واحدة. أما الثانية فكما ذكرت سابقا بأن اسم الله "الرحمن" يدل على جميع أسماء الله ضمنيا وبيّنت أن الرحمن يأتي على أوجه في القرآن, فواحدة منها تدل على ربوبيته و صلته بجميع خلقه, و هذه ثانية. و الثالثة, أنه بعد أن ذكر الاسم العلم الدال على جميع الأسماء (الله) ذكر بداية الاسم الدال على أفعاله المتعلقة بالمخلوقات و هو اسم "الرب" و بعد أن ذكر ذلك, جاء باسم (الرحمن الرحيم) ليدل على صفات الله ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بعد معرفة أفعاله و صفاته (إن جاز التعبير).

وهناك معنى آخر, عندما يسألك أحدهم عن شيء له أسماء كثيرة, فتذكر اسمه فإن لم يعرف ذكرت من أفعاله, ثم تذكر اسمه فإن لم يعرف ذكرت من صفاته. فلما عرّف الله نفسه بأنه (رب العالمين) ذكر اسم العلم الأشهر بعد الله و هو اسم (الرحمن) ثم ذكر بعدها اسم "الرحيم" الدال على أخص صفة من صفات الله و هذا معروف عند الناس. فمثلا إن سألت أحدهم: من الرب؟ فإما أن يذكرون بأنه البارئ (أقصد بالبارئ هنا المعنى المتبادر لاسم "الخالق" عند الناس و هو الذي أوجد من عدم) المبدع فاطر السماوات والأرض و إما أن يقول: الرحيم. واختبر ذلك قديما بقراءة الكتابات القديمة أو اختبر ذلك اليوم مع الناس. فعوام الناس يعرفون الله إما بكونه رب العالمين و إما بكونه "الرحيم", يعرفون من الله ما يرون من آثار أسمائه في أنفسهم أو في المخلوقات من حولهم. وقد بيّنت سابقا بأن اسم الرحمن و الرحيم أصل لهذه المعاني الذي ذكرت.

أما سبب تقديم الرحمن على الرحيم, فقد ذكرت ذلك أيضا في ما كتبته عن البسملة و لكن أحب أن أضيف هنا فائدة أخرى لن تجدوها في ما كتبت عن البسملة. وهو أن الله سبحانه و تعالى بدأ كتابه بذكر الاسم العلم (الله) و من ثم عرّف بـ(رب العالمين) و من ثم ذكر الاسم العلم (الرحمن) وعرّف بأنه الرحيم, ففي الأول عرف بأفعاله وآثارها المتعلقة بالخلق أما الثاني فعرّف بذكر صفته (إن جاز التعبير) فهذه نكتة خفية. أما النكتة الثانية فكما قلت أيضا بأن الرحمن متعلق بجميع الخلق بخلاف الرحيم, فقد لا تتبيّن آثار هذا الاسم بالكفار و الشياطين يوم القيامة, أما آثار اسم الرحمن فمتعلقة بهم في الدنيا و الآخرة كما أن آثار اسم "الرب" متعلقة بهم في الدنيا و الآخرة فناسب أن يقدّم "الرحمن" على "الرحيم". وإن رأيت بمنظور آخر و بما أن الآية التي بعدها (مالك يوم الدين) ناسب أن يؤخّر اسم "الرحيم", أعط هذه النكتة حقها من التأمل فإنها دقيقة و تبعث في النفس الانبهار من ترتيب هذا الكتاب العظيم والله أعلم.

في المشاركة السابقة كتبت بعض معاني (رب العالمين) ومن هذه المعاني أنه المدبّر و السيّد و المربّي و القيّم و المنعم وغير هذه المعاني. والأسئلة عن الله سبحانه و تعالى كثيرة, وهناك سؤال يتكرر باستمرار سواء من المسلمين و غير المسلمين, و السؤال لماذا؟ لماذا الرب يفعل كذا و لماذا فعل ذلك؟ لماذا هو المدبّر؟ و لماذا هو القيّم؟ و لماذا هو المُنعم؟ فوجدنا الإجابة, لأنه (الرحمن الرحيم). فالله سبحانه و تعالى يفعل هذه الأفعال (إن جاز التعبير) لأنه الرحمن, وهذه الأفعال من مقتضيات كونه "الرحمن" سبحانه و تعالى. وهذا مثل ما تقول في العمل, لماذا هذا المدير يقوم برفع التقارير المالية و المحاسبية و الأمور المتعلقة بارشاد الانفاق و الموازنة و ما إلى ذلك, تجيبه بأنه المدير المالي ولذلك من مهامه و واجباته أن يقوم بذلك. لماذا الإنسان بحاجة إلى الأكل و الشراب؟ للبقاء, فإن لم لم يحتج إلى الطعام و الشراب لم يكن إنسانا بل كان خلقا آخر. وهنا كذلك ولله المثل الأعلى, لأنه هو الرحمن يفعل هذا و ذاك, فإن لم يكن هو المدبّر و لم يكن هو القيّم و لم يكن هو المنعم إذا هو ليس الرحمن و ليس أهلا أن يُعبد ولكن شيئا آخر غير المفهوم المتعارف للرب سبحانه و تعالى.

ولكن قد تتساءل فتقول, المدير المالي يفعل ذلك لأنه يحتاج إلى راتب, و الأب يُربّي الطفل و يُنعم عليه لأنه ينتظر منه أن يخلفه أو يعينه فيما بعد أو ربما ينتظر الأجر و الثواب من الله سبحانه و تعالى. و لكن الأمر يختلف مع الرحمن لأن مقتضيات الرحمن أنه الغني المطلق, ليس بحاجة إلى شيء مهما صغر أو كبر و بأي حال من الأحوال, ولعلّ هذا أيضا من أسباب تقديم الرحمن على الرحيم هنا. ولكن بما أن الإنسان يحب أن يتساءل, فيقول وهل لأنه الرب الأعلى يفعل هذا بخلقه الضعفاء, جاءت الإجابة على هذا السؤال في اسمه (الرحيم). أي إن الله سبحانه و تعالى يفعل هذه الأفعال ليس فقط لأنه المدبّر على الحقيقة و المنعم على الحقيقة و لكنه أيضا رحيم بخلقه. كل ما يفعله لا يخلو من خير في ضمنه والإنسان الحكيم يدرك ذلك تماما فإنه يعلم تماما بأنه ليس في الوجود شر إلا و في ضمنه خير.

و يحسن بي أن أنقل هنا كلمات لأحد العلماء الحكماء في هذا الموضوع و هو أبو حامد الغزالي رحمه الله حيث ذكر سؤالا وإجابة للسؤال و ذلك في كتابه النافع "المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" وسأنقل كلامه مع بعض التصرف. قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: " لعلك تقول ما معنى كونه تعالى رحيما وكونه أرحم الراحمين والرحيم لا يرى مبتلى ومضرورا ومعذبا ومريضا وهو يقدر على إماطة ما بهم إلا ويبادر إلى إماطته! والرب سبحانه وتعالى قادر على كفاية كل بلية ودفع كل فقر وغمة وإماطة كل مرض وإزالة كل ضرر والدنيا طافحة بالأمراض والمحن والبلايا وهو قادر على إزالة جميعها وتارك عباده ممتحنين بالرزايا والمحن؟

فجوابك: إن الطفل الصغير قد ترق له أمه فتمنعه عن الحجامة والأب العاقل يحمله عليها قهرا, والجاهل يظن أن الرحيم هي الأم دون الأب والعاقل يعلم أن إيلام الأب إياه بالحجامة من كمال رحمته وعطفه وتمام شفقته وأن الأم له عدو في صورة صديق فإن الألم القليل إذا كان سببا للذة الكثيرة لم يكن شرا بل كان خيرا. والرحيم يريد الخير للمرحوم لا محالة وليس في الوجود شر إلا وفي ضمنه خير لو رفع ذلك الشر لبطل الخير الذي في ضمنه وحصل ببطلانه شرا أعظم من الشر الذي يتضمنه. فاليد المتآكلة قطعها شر في الظاهر وفي ضمنه الخير الجزيل وهو سلامة البدن ولو ترك قطع اليد لحصل هلاك البدن ولكان الشر أعظم وقطع اليد لأجل سلامة البدن شر في ضمنه خير ولكن المراد الأول السابق إلى نظر القاطع السلامة التي هي خير محض. ثم لما كان السبيل إليه قطع اليد قصد قطع اليد لأجله فكانت السلامة مطلوبة لذاتها أولا والقطع مطلوبا لغيره ثانيا لا لذاته, فهما داخلان تحت الإرادة ولكن أحدهما مراد لذاته والآخر مراد لغيره. والمراد لذاته قبل المراد لغيره.

فالآن إن خطر لك نوع من الشر لا ترى تحته خيرا أو خطر لك أنه كان تحصيل ذلك الخير ممكنا لا في ضمن الشر فاتهم عقلك القاصر في أحد الخاطرين. أما في قولك إن هذا الشر لا خير تحته فإن هذا مما تقصر العقول عن معرفته ولعلك فيه مثل الصبي الذي يرى الحجامة شرا محضا أو مثل الغبي الذي يرى القتل قصاصا شرا محضا لأنه ينظر إلى خصوص شخص المقتول لأنه في حقه شر محض ويذهل عن الخير العام الحاصل للناس كافة. ولا يدري أن التوصل بالشر الخاص إلى الخير العام خير محض لا ينبغي للغير أن يهمله أو اتهم عقلك في الخاطر الثاني وهو قولك إن تحصيل ذلك لا في ضمن ذلك الشر ممكن فإن هذا أيضا دقيق غامض, فليس كل محال وممكن مما يدرك إمكانه واستحالته بالبديهة ولا بالنظر القريب بل ربما عرف ذلك بنظر غامض دقيق يقصر عنه الأكثرون. فاتهم عقلك في هذين الطرفين ولا تشكن أصلا في أنه أرحم الراحمين وفي أنه سبقت رحمته غضبه ولا تستريبن في أن مريد الشر للشر لا للخير غير مستحق لاسم الرحيم. ولقد نبهت بالرمز والإيماء إن كنت من أهله فتأمل: "لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي" هذا حكم الأكثرين وأما أنت أيها الأخ المقصود بالشرح فلا أظنك إلا مستبصرا بسر الله عز وجل في القدر مستغنيا عن هذه التحويمات والتنبيهات." وهذا من أنفع و أجمل ما قرأته في هذا الموضوع.

وهناك أيضا مسألة قريبة, بما أن معاني الرب أنه المالك و أنه المدبّر والقيّم والمهيمن و ما إلى ذلك من المعاني فإنه ينزل الكتب و يرسل الرسل و يشرّع الشرائع, و يحكم بأن هذا حلال و هذا حرام, وهذا في الجنة و ذاك في النار فهذه الأمور هي من خصائص الله ولا ينبغي لأي إنسان أن يفعل ذلك ويقتحم هذه الأمور فيقول بأنه مدبّر الخلق و القيّم عليهم و المهيمن و أنه مرسل الأنبياء و أن فلان في الجنة و ذاك في النار وهذه أيضا احدى أسرار تقديم الرحمن, أي هذه الأمور خاصة بالرحمن وجاء بهذا الاسم كما ذكرت سابقا لأنه الاسم العلم و لأنه أيضا يدل على أسماء الجلال فيبعث في النفس الرهبة. ولكن بما أن الإنسان قد يرى فيما حرّمه الله عليه تضيق و تقييد للحرية أو قسوة في بعض الحدود مثل القصاص و ما شابه ذلك, ناسب أن يذكر بعده اسمه (الرحيم) لينبه الناس على هذه الحقيقة, فإن لم تفهم ذلك فعد إلى ما نقلته من كلام أبو حامد الغزالي. فالذي أريد أن أقوله بأن هذه الآية (الرحمن الرحيم) قد يقرؤها البار و الفاجر و في هذه الآية ترهيب و ترغيب للأول و الثاني, فإن البار قد يتمرد ولن يردعه إلا ما يعلمه من جلال الرحمن والفاجر قد يترك فجوره إن علم من جمال الرحيم. والبار يحتاج إلى من يطمئنه بأن الله هو الرحيم و يرغبه في ذلك ليحسن الظن بالله و الفاجر يحتاج من يهدده و يتوعده ليقف عند حدوده فهو يحتاج إلى من يذكّره بالرحمن عز و جل.

وحظ العبد من اسم الله "الرحيم" أن يرحم الخلق كلهم, وكما أن الله سبحانه و تعالى يرحم المؤمن و الكافر, ويمد خلقه بما يحتاجونه للبقاء, فكذلك المؤمن, يرحم الخلق بغض النظر إن كانوا مسلمين أو غير مسلمين, فلا يقول مسلم: "سأرحم فلانا لأنه مسلم وغير المسلم لا داعي لرحمته" هذا خطأ, بل يرحم الكل. والحقيقة من أراد أن يكون سببا في هداية غير المسلمين فعليه أولا أن يرحمهم. ربما تستغرب هذا الكلام! لكن كيف ستدعو من لا ترحمه إلى الإسلام أساسا؟ لابد من وجود الرحمة في قلبك و من ثم بعد وجود هذه الرحمة في القلب تأتي آثار هذه الرحمة من دعوة إلى الإسلام و الشفقة عليهم وما إلى ذلك. المؤمن رحيم, يرحم طفله وهو في بطن أمه, و من ثم يرحمه بعد خروجه من بطن أمه, و يرحمه وهو صغير فلا يدخر جهده في سبيل راحة ابنه, فإن كبر و أخطأ الابن وبدأ يتمرد فإنه كذلك يرحمه بعد موته. فالإنسان الرحيم لا ينبغي أن تنقطع رحمته, بل رحمته متصلة بالخلق... حتى عند القتال, فهو يقتال ليس طمعا فيما عند الطرف الآخر, لابد أن يكون السبب الأول و الرئيسي الرحمة, رحمة بالمستضعفين من الرجال و النساء و الأطفال. إن انتقد أمرا لابد أن تكون في أصل هذا الانتقاد رحمة, رحمة بالخلق أو رحمة بمن ينتقده, أما أن يستخدم الانتقاد من غير رحمة فلا خير فيه هذا والله أعلم. أتوقف هنا على أمل أن ألقاكم في مشاركة أخرى مع آية أخرى من آيات سورة الفاتحة. أسأل الله أن يفتح لنا أبوابا من العلم فنتعلم و نتقرب إليه بما علمنا, و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته...

Tuesday, December 16, 2014

على ساحل القرآن - الحمدلله رب العالمين - الجزء الثالث




السلام عليكم ورحمة الله و بركاته... هذه هي المشاركة الثالثة ومحاولة جديدة لاستخراج بعض الحكم و الفوائد من قول الله سبحانه و تعالى: ((الحمدلله رب العالمين)) و في هذه المشاركة سأركز نوعا ما على قوله (رب العالمين). فأبدأ مستعينا بالله بتعريف اسم الرب, قال ابن الأثير في كتابه "النهاية في غريب الحديث و الأثر: "الرب يطلق في اللغة على المالك والسيد والمدبِّر والمربّي، والقيِّم والمنعم, ولا يطلق غير مضاف إلى على الله تعالى, و إذا أطلق على غيره أضيف, فيقال: رب كذا". وعن نفسي أرى بأن اسم الرب من أخصّ أسماء الله سبحانه و تعالى, وأراه يقابل الاسم المترجم باللغة الإنجليزية و ما هو معروف عند جميع شعوب العالم بـ God. وذلك لأن الرب أو كما يترجمون اسمه إلى God يدل على أسماء الله. فالرب هو الحي القيوم و هو المالك و السيد و المدبّر و المربّي و القيّم و المنعم,  ولهذا إن سألك أحدهم من هو الله فلعله أفضل إجابة على سؤاله أن تقول: "رب العالمين * الرحمن الرحيم". وبما أن الله رب العالمين و رب السماوات و الأرض و رب كل شيء و خالقه فالمخلوقات كلها من بداية خلقها وحياتها إلى فنائها كلها نتيجة آثار هذا الاسم. فالرب هو رب العالمين الذي خلق كل شيء فأخرج الخلق من العدم إلى الحياة, و بما أنّ من معاني الرب فإنه المدبّر و المربّي و القيّم على خلقه فترة حياتهم و هو كذلك سيدهم و مالكهم بعد مماتهم سواء الجن و الإنس و غير ذلك, يحدد مصير مخلوقاته بحكم كونه المالك و السيّد. مثلا اسم الرحيم قد لا يجد ابليس و هو في النار شيئا من آثار هذا الاسم ولكنه يجد آثار اسم الرب ولا فكاك عنه كما أنه لا ينفك عن آثار اسم الله و الرحمن. و بما أن الله رحمته وعلمه وسعتا كل شيء فكذلك الربوبية وسعت كل شيء.

وهناك ملاحظة أخرى و هي أن اسم الرب غالبا مربوط بأفعال الله سبحانه وتعالى (إن جاز التعبير) أو ما يدل على أفعاله المتعلقة بمخلوقاته, بخلاف اسم الله أو الرحمن فإنهما يدلان على الأسماء و الصفات و الأفعال وإن لم تتعلق أحيانا بشكل واضح بالخلق. فعلى سبيل المثال الآية: ((رب اغفر لي و لوالدي)) و قوله: ((قل إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن...)) الآية, و في موضع آخر ((قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم)) و لذلك دعا الأنبياء و الصالحون الله سبحانه وتعالى بهذا الاسم. وهنا دقيقة ربما بحاجة إلى بعض التفصيل, قال الله سبحانه و تعالى: ((الحمدلله رب العالمين * الرحمن الرحيم)) فإن قرأت ما كتبته في مشاركاتي الأربعة عن البسملة وعن اسم الرحمن الرحيم ستدرك ما فائدة تقديم "رب العالمين" على "الرحمن الرحيم".  وذلك لأن الباحث عن الله (إن جاز التعبير) أو الباحث عن الحق, لا يدري ما هي صفات هذا الذي يبحث عنه, و لكنه يبحث عنه ويستدل عليه بآثار أفعاله بالمخلوقات من حوله. فالإنسان أولا يلاحظ آثار الأفعال و من ثم يعرف شيئا من الصفات.

فمثلا إن وجدت إنسانا فقيرا ووجدت آخرا قيل عنه بأنه كريم و رحيم بالفقراء, هل ستصدق ذلك؟ ربما... ولكن إن رأيت إنسانا آخر كل ما وجد فقيرا أعطاه من المال ما يحتاجه و هو في عون الضعفاء أينما كان ما الذي ستفهمه عن هذا الرجل؟ ستفهم بأنه جواد كريم وذلك بسبب ما عاينت من أفعاله. وكم من غير المسلمين عرف الله بعد أن رأى آثار أفعاله (إن جاز التعبير) في الكون. فبعض العلماء رأى هذا النظام العجيب في الكون وهذا الخلق العظيم فقال لابد من فعل ذلك هو حكيم و عليم و قوي و غير ذلك... ولهذا غالبا يدعو الله الناس في كتابه خاصة من لا يؤمنون به أو في شك منه إلى التفكر في مخلوقاته و لا يقول اعبدوني لأني فقط أنا الله! اقرأ مثلا: ((قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ)) و مثل قوله: ((أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)) و ((وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)) و الكثير من الآيات, اختبر ما أكتبه هنا و ستجده صحيحا إن شاء الله.

وبما أن اسم "الرب" يشمل كل هذه المعاني المذكورة, فلذلك أقول والله أعلم بأنه أنسب تعريف لله, فإن قال لك أحد من هو الله تقول: "رب العالمين" أو "الرحمن الرحيم" و نجد كثيرا ما يقرن الله سبحانه و تعالى في كتابه بين اسم الله و رب العالمين. على سبيل المثال قول الله سبحانه و تعالى: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) و قوله: ((مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)) و قوله: ((فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) و قوله: ((قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) و قوله: ((أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) و قوله: ((يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) و غيرها من الآيات. و بما أن الناس لا يعلمون أحيانا من هو "الرحمن" فناسب أن يُعرّف الله نفسه بأنه رب العالمين في بداية السورة. أما قديما فقد سجّل الله عدم معرفة البعض هذا الاسم ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اُسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَن)) وكذلك اليوم جرب و اسأل أكثر الناس اليوم سواء كانوا من الهندوس والبوذيين لن يعرفوا من أو ما هو الرحمن! ولكن إن قلت لهم رب العالمين أو God فحتى الملحد الذي لا يؤمن بوجود إله يعرف مباشرة من المقصود!

وبما أني ذكرت في المشاركات الخاصة بالبسملة بأن اسم "الله" اسم علم خاص بالله, و كذلك اسم "الرحمن" اسم علم خاص بالله, فناسب أن يُعرّف نفسه بأنه رب العالمين. سأعطيك مثالا لأوضح لك ما أقصده, تخيّل بأني أريد أن أخبرك عن "الأسد" و أنت لا تعلم شيئا عن هذا الحيوان فسألتني: و ما هو من هو الأسد؟ أجبتك هو: "حيدرة" فإن قلت لي و من حيدرة؟ أجيب: هو "الكهمس"!؟ فهل سيفهم هذا السائل بأني أقصد الحيوان المعروف؟ لا! ولكن أقول مثلا, الأسد هو حيوان من الثديات وكذا شكله و يلقب بملك الغاب ومن أسمائه "حيدرة" و "الكهمس"...الخ فهناك احتمال أكبر أن يفهم الطرف الآخر المقصود. وكذلك هنا ولله المثل الأعلى, عرّف بنفسه بأنه رب العالمين ومعلوم عند العالمين من هو المقصود برب العالمين وبما أن البشر لا سبيل لهم لمعرفة صفات الله من غير كتاب منزل أو نبي أو رسول إلا بمعرفة آثار أفعاله في الكون الذي هم فيه كما ذكرت سابقا, ناسب أن يذكر اسم الرب و هذه حكمة دقيقة فتأملها...

أما حظ المؤمن من اسم "الرب" فعلى المؤمن الذي عرف ربه و عرف بعض هذه المعاني من معاني هذا الاسم العظيم أن يكون ربانيا ويتصف بهذه الصفات على قدر ما تحتمله إنسانيته ولا يتعدى حدوده. فالمؤمن يعلم أن كل ملوك الدنيا ليسوا ملوكا وأن الملك المالك الحق هو الله سبحانه و تعالى. فلا يذل نفسه لأحد من مخلوقات الله ولا يظهر أو يبطن أي نوع من أنواع العبودية لغير الله ولا يتحكم به أحد أو يُسيطر على إرادته أحد إلا أن يوافق إرادته مراد الله. والمؤمن عليه أيضا أن أن يدبّر أموره بنفسه متوكلا على الله متخذا للأسباب, وكذلك يدبّر ما تحت تدبيره. و كذلك يربّي أبناءه و يقوم على أهله بما فيه صلاحهم ويقوّمهم إن احتاجوا لذلك و ينعم على خلق الله بشتى أنواع النعم, فيعطي هذا مالا و ذاك علما و يعالج هذا...الخ فإن فعل كل إنسان ذلك و حاول أن يتصف بهذه الصفات لقلت بأننا سنعيش في جنة على الأرض... لكن المشكلة عندما يتعدى الإنسان طور إنسانيته فيحاول أن يكون الرب الأعلى كما حاول فرعون فأفسد في الأرض, و كما يفعل طغاة اليوم, فكل واحد منهم يتعدى حظه من معاني صفات الرب, فالأول يحاول أن يكون الرب الأعلى و الآخر يريد كذلك هنا يفسد كل شيء. فعلى سبيل المثال يأتي انسان يريد أن يتصف بمعنى من معاني الرب... لنقل على سبيل المثال: "المالك" فيحاول أن يملك خلق الله ويتصرف فيهم كيفما يشاء متناسيا أنهم أيضا يستحقون أن يتصفوا بشيء من معاني الرب على قدر انسانيتهم, فإن فهم ذلك عرف أن المعنى المتناسب لإنسانيته أن يكون مالكا لنفسه لأفعاله و أن لا يعبد أحدا غير الله و من أمثال هذه المعاني لا السيطرة على الآخرين و خاصة أن الآخر كفؤ له. أما الله فهو أحد ليس كمثله شيء و ليس له كفوا أحد فيحق له السيطرة الكاملة.

وأريدك أيها القارئ أن تتأمل كيف بدأ الله كتابه بهذه الآية العظيمة... ((الحمدلله رب العالمين)) ... قل لي بربك أين تجد مثل هذه البداية العظيمة في الكتب السماوية أو كتب الديانات الكبرى!؟ بداية القرآن خرجت من مفهوم الزمان و المكان! بدأ الله سبحانه و تعالى كتابه ببداية قوية عظيمة مهيبة مشوّقة يذوق جمالها العامي قبل النحوي و المتفنن في اللغة العربية! بل الأجنبي قبل العربي و ذلك بقراءة الترجمة. سأعطيك أمثلة من بدايات بعض الكتب الأخرى ثم قارن بنفسك... بداية التوراة: "في الأول خلق الله السماء و الأرض" وفي التوراة العبرانية: "البداية خلق الله السماوات و الأرض" و في انجيل يوحنا: "في البدء كان الكلمة, و الكلمة كان عند الله, و كان الكلمة الله" واقرأ كتب الهندوس كالرج فيدا أو الباجافادجيتا و كتب البوذية و غيرهم ستجدها لا تخرج عن الزمان و المكان أو بداية ضعيفة مقارنة بالقرآن, ولعل من أحسنها بعد القرآن بداية كتاب كنزرابا: "هو الله... ملك أكوان النور, العزيز الغني الغفور, المياه التي تسيل و الجبال التي لا تميل" ولكن الكتاب كتب بعد القرآن وبالرغم من ذلك لاحظ البون الشاسع بين بداية القرآن وهذه البداية. أما البهائية ففي كتابهم المسمى بالـ(الكتاب الأقدس) فكتب بعد القرآن و البداية كالتالي: " إن أوّل ما كتب الله على العباد عرفان مشرق وحيه ومطلع أمره الذي كان مقام نفسه في عالم الأمر و الخلق من فاز به قد فاز بكل الخير و الذي منع أنه من أهل الضلال ولو يأتي بكل الأعمال" مباشرة تجد الفرق بين هذا الكلام و كلام الله في القرآن و تجد التشابه الكبير بين بداية كتابهم و كتابات أهل التصوف و الوعاظ من المسلمين.

لم يبدأ الله القرآن بإثبات أن الكتاب من عنده أو الرسول حق ولكن تجاوز حدود الزمان و المكان... لم يبدأ كتابه بوعد أو وعيد, ولكن بدأه بالثناء التام الكامل لنفسه... بغض النظر عن إيمان البشر أو كفرهم بالله, يبقى الحمد كله لله رب العالمين ولن ينفعوه و لن يضروه مثقال ذرة... تبارك الله رب العالمين, أشهد بأن هذا القرآن تنزيل من رب العالمين, ما أعظم هذه العزة, رب عزيز و كتاب عزيز نزل به ملك عزيز على قلب رسول عزيز إلى أمة عزيزة إن آمنا و علمنا و عملنا الصالحات. أخيرا, أقول من فهم بعض ما كتبته من معاني (الحمدلله رب العالمين) و إن كان له نفس زكية و قلب سليم, لغلب على ظني بأنه حين يناجي ربه في الخلوات وبدأ بالـ(الحمدلله رب العالمين) لامتلأت عيناه بالدموع تعظيما و حبا وشكرا واجلالا لله رب العالمين... سأكتفي إلى هذا الحد في الكتابة عن (الحمدلله رب العالمين) وإن شاء الله ألقاكم في مشاركة أخرى في سلسلة على ساحل القرآن, أسأل الله لي و لكم التوفيق و السداد و أن يرضى عنا و يغفر لنا و لوالدينا و للمسلمين و المسلمات... والسلام عليكم و رحمة الله و بركاته....


Monday, December 15, 2014

على ساحل القرآن - الحمدلله رب العالمين - الجزء الثاني



السلام عليكم ورحمة الله و بركاته. هذه المشاركة تابعة للتي قبلها و أحوم فيما حول قول الله العظيم ((الحمدلله رب العالمين)) ولكن قبل أن أبدأ أحب أن أنوّه أني أحيانا أكتب عن أسماء الله و أحيانا أستخدم كلمة "صفاته" و أنا أتحفظ من اطلاق هذه الكلمة و ذلك لأني لم أجد ذلك في كتاب الله, ولكن إن ذكرت فأقصد به ما تعارف عليه العلماء وهي في نظري أسماء أيضا, والعقل لا يمنع من ذلك. ولهذا إما أن أقصد ذلك وإما أن أكتب (إن جاز التعبير), و عودة إلى موضوعنا... ربما تسألني عن موجبات الحمد, فتقول لماذا هذه المبالغة في الثناء على الله و لماذا شُكرنا دائما قاصر؟ و قد يتساءل ضعاف الإيمان لماذا يستحق الله الحمد أصلا؟

في الواقع لا أجد إجابة خيرا من إجابة مستوحاة من كلام الله سبحانه و تعالى, والإجابة هي: لأنه (رب العالمين) فالله بعد أن أثبت الحمد لنفسه وصف نفسه بأنه (رب العالمين) ومن كان رب العالمين أفلا يستحق أن يحمد في كل لحظة من لحظاتنا. فالله سبحانه و تعالى أوجد كل شيء من العدم, فكل ما سواه كانوا عدما ليس لهم كيان و لا وجود ولا شيء يذكر, فكون إيجادهم من العدم مستوجب للحمد, هذا فقط إن اكتفينا بالإيجاد! ولكن الله لم يوجدنا فقط ولكنه ربّانا بالنعم و يمدنا بالحياة في كل لحظة ولو انقطع هذا المدد لحظة لانعدم كل شيء سواه كما فصّلت من قبل في المشاركات السابقة. أليس هو الذي خلقك و من ثم عرّفك بنفسه فقال لك بأنه (رب العالمين) فإن لم يقل ذلك ولم يعرّف نفسه و أخفى آثار أسمائه و صفاته (إن جاز التعبير) لن تعرف ما هو أصلك و كيف أتيت وستبقى حائرا طيلة حياتك و مجرد تساؤلك هو موجب للحمد إن تأملت ذلك ولكن تفصيل هذا بحاجة إلى تعمّق فلسفي لا أريد أن أخوضه لكي لا أغير مسار هذه المشاركة.

أما الكفار الذين يجحدون وجوده أساسا فهؤلاء قبل أن نثبت لهم بأن الله هو وحده المستحق للحمد على الحقيقة لابد أن نثبت لهم بأن الله موجود ولكن ليس هذا موضوعنا اليوم. وبما أني شرحت من قبل بأن نعم الله تحيط بالإنسان قبل ولادته و قبل خروجه من العدم و دخوله إلى هذا العالم فأصبح مدينا لله سبحانه و تعالى. وليس الإنسان فحسب, بل كل من خرج من العدم إلى الوجود سواء كان إنسانا أو ملكا أو عالما أو عرش الرحمن فإن كل هذه المخلوقات في عمق المسألة مدينة لله سبحانه و تعالى ولهذا ناسب أن يقول (رب العالمين) بعد الحمدلله و هذه حكمة دقيقة فأعط حقها من التأمل واقرأ ما كتبته مرة و مرتين لتفهم! وموجبات الحمد أكثر و أعظم من أن يحصيه البشر, فمن أراد بعضا منها فليقرأ ما كتبه العلماء في هذا الباب و من الذين فصلوا في موجبات الحمد كأبو حامد الغزالي في كتابه "أسرار الحكمة" و أيضا ابن قيم الجوزية في كتابه: "مفتاح دار السعادة" و الفخر الرازي في تفسيره و الشعراوي في خواطره حول القرآن, كل نفس و كل ثانية رزقتها فهي موجبة للحمد.

و هناك من قسّم أنواع المحامد و صنفها تحت تصنيفات فبعضهم قال خمسة و بعضهم قال أكثر أو أقل. ولكني أقول بأن جماع أقسام الحمد في سورة الفاتحة, فمن أنواع المحامد حمده سبحانه وتعالى على تفرده بالربوبية وأنه رب العالمين وهذا النوع من المحامد سيجرّنا بالضرورة على حمده عز و جل على ما له من أسماء و صفات (إن جاز التعبير) و هذا النوع الثاني سيضطرنا إلى حمد الله كونه ذا الألوهية على الخلق أجمعين فإنه المستحق للعبادة وحده. و أما النوع الرابع فحمده على أوامره و نواهيه و شرعه و دينه الذي ارتضاه لخلقه. ومن حمد الله على ألوهيته لفهم أن حمده ذاك موجب لحمد الله على أوامره و نواهيه و هذا الرابع سيؤدي إلى النوع الخامس و هو حمده على قضائه و قدره و ما يتعلق بها من أمور الآخرة. وتحت هذه الأنواع محامد لا يمكن لمخلوق من مخلوقات الله أن يحصرها أو يحصيها. النوع الأول من المحامد الذي ذكرته فهو مُستلهم من قول الله: (رب العالمين) و النوع الثاني من قوله (الرحمن الرحيم) وقد فصّلت سابقا بأن الرحمن يشمل ويدل على جميع أسماء الجلال أما الرحيم فيشمل ويدل على جميع أسماء الجمال و للتفصيل يرجى قراءة ما كتبته في المشاركات السابقة من السلسلة. وأما النوع الثالث فهو مستلهم من قوله (مالك يوم الدين) و (إياك نعبد و إياك نستعين). و أما النوع الرابع فمستلهم من قول الله عز و جل (اهدنا الصراط المستقيم) و أما النوع الخامس فمستلهم من قوله عز من قائل: (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين) وكل هذه المحامد مرتبطة بعضها ببعض و يلزم بعضها بعضا وكل نوع من أنواع المحامد يؤدي إلى الأنواع الأخرى وبهذا يثبت أن الله وحده هو المستحق للحمد ولهذا ناسب أن يبدأ بـ: (الحمدلله). ما ذكرته يعتبر مفاتيح هذه المحامد فمن فهمها و عمل بما عرف لرجوت الله أن يفتح عليه من أبواب العلم ما كان يخفى عليه سابقا هذا والله أعلم و أعلم أن ما كتبته قد يبدو مجملا و لكني إن شاء الله سأحاول أن أفصّل ما كتبته عندما أكتب عن مجمل ما في سورة الفاتحة وإنما الغرض في هذه المشاركة التركيز على قوله: (الحمدلله رب العالمين).

كتبت في المشاركة السابقة بعض الحكم في كون الثناء و الشكر لله في كلمتين (الحمدلله) و تذكرت بأن الشيخ الشعراوي رحمه الله قد أتى بحكمة لم أجدها عند أي مفسّر آخر ولم يخطر في بالي, فأحب أن أنقل كلامه فإن فيه فائدة وحكمة دقيقة, قال الشيخ الشعراوي: "ولعلنا نفهم ان المبالغة في الشكر للبشر مكروهة لأنها تصيب الانسان بالغرور والنفاق وتزيد العاصي في معاصيه... فلنقلل من الشكر والثناء للبشر.. لأننا نشكر الله لعظيم نعمه علينا بكلمتين هما: الحمد لله، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه علمنا صيغة الحمد. فلو أنه تركها دون أن يحددها بكلمتين.. لكان من الصعب على البشر أن يجدوا الصيغة المناسبة ليحمدوا الله على هذا الكمال الالهي.. فمهما أوتي الناس من بلاغة وقدرة على التعبير. فهم عاجزون على أن يصلوا الى صيغة الحمد التي تليق بجلال المنعم. . فكيف نحمد الله والعقل عاجز أن يدرك قدرته أو يحصي نعمه أو يحيط برحمته؟ ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أعطانا صورة العجز البشري عن حمد كمال الالوهية لله، فقال: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"

وكلمتا الحمد لله، ساوى الله بهما بين البشر جميعا، فلو أنه ترك الحمد بلا تحديد، لتفاوتت درجات الحمد بين الناس بتفاوت قدراتهم على التعبير. فهذا أمي لا يقرأ ولا يكتب لا يستطيع أن يجد الكلمات التي يحمد بها الله. وهذا عالم له قدرة على التعبير يستطيع ان يأتي بصيغة الحمد بما أوتي من علم وبلاغة. وهكذا تتفاوت درجات البشر في الحمد. . طبقا لقدرتهم في منازل الدنيا. ولكن الحق تبارك وتعالى شاء عدله أن يسوي بين عباده جميعا في صيغة الحمد له. . فيعلمنا في أول كلماته في القرآن الكريم.. أن نقول (الحمد للَّهِ) ليعطي الفرصة المتساوية لكل عبيده بحيث يستوي المتعلم وغير المتعلم في عطاء الحمد ومن أوتي البلاغة ومن لا يحسن الكلام"

عند كتابتي حول (بسم الله الرحمن الرحيم) كتبت السبب في كون " كلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأُ فيه ببسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ أقطعُ" وينسب أيضا للرسول صلى الله عليه و سلم قوله: "كلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدَأُ فيهِ بالحمدِ أقْطَعُ" بالرغم من اختلاف العلماء في الحكم على الحديث (وشخصيا لا يطمئن قلبي لسند الحديث) إلا أني أرى هذا المعنى صحيح وإن لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وذلك لأنك حينما تبدأ أمرا بالـ(الحمدلله) و كأنك أثنيت على الله الثناء و قدّمت له الشكر على نعمه العظيمة, فهذا اعتراف منك بأن الأمر الذي تريد أن تبدأ به ليس بمقدورك لولا فضل الله عليك و نعمه المحيطة بك. وأيضا فيه أدب مع الله سبحانه و تعالى, إننا اليوم قبل أن نبدأ بأمر نحن على مرأى من الملوك و السلاطين و الأمراء أول شيء نقوم به نقدّم الشكر و هذه العادة منتشرة خاصة في الخليج العربي, فقبل أن يبدؤوا موضوعهم يقولون مثل: "أولا أتقدم بجزيل الشكر إلى القيادة الحكيمة, أو الشيخ الفلاني...الخ" تأدبا معهم و اعترافا منهم لفضلهم و إحسانهم إليهم. ولكن الأمير لم يكن ليحسن إليك لولا إحسان الله إليه و تمكينه من الإحسان إليك, وهذا الشيء ليس عليك رقيب و شهيد بحيث يعلم ما تعلن في جميع الأحوال ولا سبيل له إلى معرفة ما تخفيه في صدرك. أما الله سبحانه وتعالى ولله المثل الأعلى, فهو على كل شيء شهيد, و هو المنعم عليك وعلى الملوك و السلاطين و الأمراء أو الشيوخ. ثم هو يعلم ما تخفيه و ما تعلن, ويعلم ما في قلبك من نوايا.

فقل لي بربك, هل يليق بك أن تحمد و تشكر هؤلاء قبل أن تشكر الله رب العالمين؟ فإن فعلت ذلك فأنت كمن أهدي إليه بهدايا و جوائز عظيمة و كثيرة من ملك عظيم من ملوك الدنيا, و جاء بهذه الهدايا رسول هذا الملك أو خادمه, فانشغل بشكر الخادم ومدحه بدلا من شكر الملك! فإن لم ينشغل قدّم شكر الخادم على شكر الملك! وهذا كقولك: "أشكر الأمير فلان على هذه الفرصة و الحمدلله على هذه الفرصة" فانظر ما أقبح هذا السياق, و هذا السياق طبعا لا يقبُح عند من يشعرون بالخوف من البشر أو يستحون منهم, أو لا يشعرون بعظيم نعم الله عليهم! فأقول لهم: أقل شيء إن لم تستطيعوا أن تعترفوا بألسنتكم فلتعترف قلوبكم أولا بأن الحمدلله أولا" فإن شكر القلب فلا بأس حينئذ إن شاء الله لمن كان مُخوّفا أو ضعيفا أو ما شابه ذلك. وما أقبح أن تستمتع بنعم الله عليك و تستخدمها هنا و هناك و أنت لم تحمده قبل البدأ. تذكر أنك في هذه الدنيا و كأنك في ضيافة وأمامك مائدة عظيمة مليئة بالأطعمة و الأشربة, كل و اشرب و انتفع وخذ معك من الطعام و الشراب ما تستطيع أن تدّخره ولكن لا تنسى أن تحمد من استضافك أولا! فإن فهمت ما كتبته فستفهم ما الحكمة من كون: "كلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدَأُ فيهِ بالحمدِ أقْطَعُ". فأنت إن بدأت بـ(بسم الله الرحمن الرحيم) فأنت اعترفت بأنه لا يمكنك أن تبدأ بما ستبدأ به إن لم يعنك الله, و عندما تبدأ بـ(الحمدلله) فأنت تعترف بأنه لولا نعم الله عليك لن تسطيع أن تبدأ ما تريد أن تبدأ به. و أسأكتفي إلى هذا الحد و سأكمل إن شاء الله في الجزء الثالث لاستخراج بعض معاني (رب العالمين) و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.




Friday, December 12, 2014

على ساحل القرآن - الحمدلله رب العالمين




السلام عليكم و رحمة الله و بركاته... انتهيت في المشاركة السابقة من تدوين تأملاتي و ملاحظاتي في بعض معاني ((بسم الله الرحمن الرحيم)) و أنتقل اليوم إن شاء الله إلى كتابة بعض معاني واستخراج الحكم من قول الله سبحانه وتعالى: ((الحمدلله رب العالمين)). أحب أن أنوّه بأني لن أفصّل في كتابة تأملاتي في الفاتحة كما فعل بعض المفسّرون رحمهم الله وذلك لأنه أولا بأنني لا أستطيع ذلك, و ثانيا لأني أحاول التركيز على الآية وما فيها من معاني و التقليل من الاستطرادات. فالفخر الرازي رحمه الله "فسّر" سورة الفاتحة في مجلد! وتفسيره فيه من الفوائد الشيء الكثير, ولكن ما كتبه لا يخلو من ثقل. وكذلك ابن قيم الجوزية رحمه الله ألّف في استخراج معاني ((إيّاك نعبد و إيّاك نستعين)) كتابا ضخما مكون من 5 مجلدات وأسماه: "مدارج السالكين بين منازل إيّاك نعبد و إيّاك نستعين" وهو من أجمل ما كتب في مجال تزكية النفس ولكنه استطرد كثيرا والله أعلم. فلهذا من وجد أن في هذه المشاركات اختصارا فيمكنه أن يرجع إلى ما كتبه الفخر الرازي أو ابن قيم الجوزية و من صنفوا المجلدات فقط في تفسير سورة الفاتحة, فأنا لست بصدد كتابة المطوّلات لأن هذا كما كتبت في مقدمة السلسلة, سينفد عمري قبل أن أنتهي من سورة البقرة. على كل لا أحب أيضا أن أطيل عليكم بالمقدمات لذلك سأشرع بالمقصود.

قال الله سبحانه و تعالى في بداية سورة الفاتحة: ((الحمدلله رب العالمين)) ويعني والله أعلم الثناء التام الكامل وما تشمله الحمد من معاني الثناء و الشكر هو لله وحده المستحق لجميع أنواع المحامد و المالك لها و هو رب العالمين. و أما (رب العالمين) فهو خالق الخلق مكوّن الأكوان و مدبّر العوالم كلها وما فيها من عالم الإنسان و عالم الحيوان و عالم الجمادات و عالم الملائكة و جميع العوالم التي نعلمها و التي لا يعلمها إلا الله. فأما قولي هو خالق الخلق أي قدّر الخلق و وضع مخططا للخلق (إن جاز التعبير) قبل أن يُخرجهم من العدم إلى الحياة و ذلك في علمه الذي وسع كل شيء. و مكوّن الأكوان أقصد به, الذي أخرج هذا الخلق كما كان مقدرا في علمه وبرأهم و جعل لهم وجودا في هذا العالم, و التكوين يشمل التصوير فأعطى كل خلق صورته. وأما قولي مدبّر العوالم فقصدت به القائم على جميع الخلق ومدبّرهم و هو المهيمن على كل شيء, فهو الهادي لكل شيء خلقه وهو القائم عليهم بما يحتاجونه للبقاء على حسب ما قدّر لهم مسبقا في علمه. وما ذكرت يشمل عملية الخلق (أقصد هنا المعنى التقليدي الذي يتبادر إلى أذهان الناس اليوم) من التخطيط إلى التحكّم. فالعملية تبدأ أولا في علم الله و هو التقدير و من ثم التطبيق و هو الإيجاد و أخيرا الهيمنة و التحكّم. فالله سبحانه و تعالى هو موجد هذا الوجود والعوالم و الأكوان و مربّيهم بالنعم ومدبّر هذا الوجود وحده. فالثناء الأكمل لا يكون إلا لله وحده سبحانه وتعالى و ذلك لأنه رب العالمين, رب كل شيء كان و ما هو كائن و ما سيكون.

والحكمة من قوله (الحمدلله) بدلا من قول (حمدا لله) هو لاستغراق الجنس أو الأجناس و ذلك بمعنى أن جميع أجناس المحامد و الشكر والثناء التام الكامل لله. وقد نوّه على هذا المعنى بعض من المفسّرين القدامى رحمهم الله, و هذا معنى دقيق, وذلك لأنك عندما تُدخل الألف و الام في (حمد) تعطيه معنى إضافيا لا يمكن أن يتأتى في كلمة (حمد) بدون الألف و اللام. وذلك لأنك لو أسقطت الألف و اللام وقلت (حمدا لله) فكأنك خصصت و قيّدت وضيّقت, فجعلت نوعا من المحامد لله وهو حمد القائل, ولكن هناك أنواع كثيرة ودرجات للحمد. فدخول الألف واللام يعني جميع المحامد و أنواع الثناء الكامل وكأنك جعلت ماهية "الحمد" بجميع أجزائه لله.

يحسن بي أن أذكر في هذا المقام الفرق بين الحمد و المدح و الشكر, وقد فعل ذلك كثير من المفسرين وأراه مناسبا في هذا السياق. وجدت تفريقا جيدا في تفسير ابن كثير رحمه الله و أنا أنقل كلامه كما كتبه: "اختلفوا أيّهما أعم, الحمد أو الشكر؟ على قولين, والتحقيق أن بينهما عموما وخصوصا, فالحمد أعم من الشكر من حيث ما يقعان عليه, لأنه يكون على الصفات اللازمة والمتعدية, تقول: حمدته لفروسيته وحمدته لكرمه. وهو أخص لأنه لا يكون إلا بالقول, والشكر أعم من حيث ما يقعان به, لأنه يكون بالقول و العمل والنية, وهو أخص لأنه لا يكون إلا على الصفات المتعدية, لا يقال: شكرته لفروسيته, و تقول: شكرته على كرمه وإحسانه إلي". و قد فرّق ابن قيم الجوزية رحمه الله تفريقا ممتازا بين الحمد و الشكر في كتابه النافع: "مدارج السالكين" فقال: " تفريقا أجمل من ابن كثير فقال: "أن الشكر أعم من جهة أنواعه وأسبابه ، وأخص من جهة متعلقاته، والحمد أعم من جهة المتعلقات، وأخص من جهة الأسباب .ومعنى هذا أن الشكر يكون بالقلب خضوعا واستكانة، وباللسان ثناء واعترافاً، وبالجوارح طاعة وانقيادا .و متعلّقه : النعم دون الأوصاف الذاتية ، فلا يقال : شكرنا الله على حياته وسمعه وبصره وعلمه ، وهو المحمود عليها كما هو محمود على إحسانه وعدله .والشكر يكون على الإحسان والنعم ، فكل ما يتعلق به الشكر يتعلق به الحمد من غير عكس ، وكل ما يقع به الحمد يقع به الشكر من غير عكس ، فإن الشكر يقع بالجوارح والحمد يقع بالقلب واللسان" وهذا تفريق نافع لا داعي عندي لمزيد إضافة عليه.

وأما الفرق بين الحمد و المدح فقد قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: "أما المدح فهو أعم من الحمد, لأنه يكون للحي و للميت و للجماد – أيضا – كما يمدح الطعام و المال و نحو ذلك, ويكون قبل الإحسان وبعده, و على الصفات المتعدية و اللازمة أيضا فهو أعم". وهذا التفريق دقيق و مفيد و أظن بأنه مُستفاد من تفسير الفخر الرازي رحمه الله فإن الأخير قد فرّق بين الحمد و المدح من عدة أوجه. بالرغم من أن ما ذكروه في الفرق بينهما (أقصد بين الحمد و المدح) مفيد ولكن أظنّه نوعا ما قاصر وأظن بأنهم غفلوا عن معنى دقيق. ولبيان ذلك لابد من فهم معنى الحمد أولا, فإن أخذنا معنى الحمد بأنه يشمل أنواع الثناء التام فإن المدح أيضا فيه من معاني الثناء بل هو أعم من الحمد كما ذكر ابن كثير و الرازي رحمهما الله, فلسائل أن يقول: "إن كان المدح أعمّ من الحمد فلماذا لم يقل الله سبحانه و تعالى: (المدح لله) بدلا من (الحمدلله) ؟"  أقول سبب ذلك أنك قد تمدح إنسانا أو شيئا وأنت لا تحب هذا الشيء بل أحيانا قد تمدح عدوك فتقول مخطط بارع أو شيء من هذا القبيل, أما الحمد فلا تقوله إلا لمن تحبه وليس فيه شيء سلبي. فإن كان فيمن تمدحه أمر سلبي لم يحسن أن تحمده, بل ينبغي أن تمدحه إن كان أهلا للمدح و لذلك نجد في معاجم اللغة يقولون في معنى: "حمد الشيء" رضي عنه و ارتاح إليه, فأنت قد تمدح إنسانا لكنك لست راضيا عنه و لا ترتاح إليه. ثم إن المدح قد يكون في الشيء القبيح في ذاته بخلاف الحمد فلابد أن يكون حسنا. قد تمدح رائحة كريهة ولكنك لن تحمد الرائحة الكريهة و هذا يحصل كثيرا في الشعراء الذين يثنون على ما لا ينبغي أن يُثنى عليه. فدائما لاحظ وجود هذا الشيء السلبي أو كما يقال باللغة الإنجليزية Negativity أو النقص فإن وجدت ذلك فلا يحسن لغويا أن تحمده ولكن ربما يجوز مدحه وهذا المعنى دقيق و اختبره وستجده إن شاء الله صحيحا ولذلك لا يستحق أحدا "الحمد" التام إلا الله سبحانه و تعالى.

وهنا مسألة, لماذا قال الله سبحانه و تعالى: ((الحمدلله)) و لم يقل مثلا (الحمد للرحمن) أو (الحمد للرحيم) و غير ذلك من أسماء الله؟ إن كنت قرأت ما كتبته سابقا في المدونة حول (بسم الله الرحمن الرحيم) ستفهم سبب ذلك. و لكن أقول مختصرا بأن اسم الله هو الاسم الجامع والدال على جميع أسماء الله الحسنى, فاسم الرحمن والرحيم و الملك و العزيز و الغفار و البارئ و المصور كل هذه الأسماء داخلة في اسم "الله", فهذه واحدة. أما الثانية, لأن الله سبحانه و تعالى يستحق الحمد على جميع أسمائه, فهو يستحق الحمد لأنه الرحمن و لأنه الرحيم و لأنه القدوس ولأنه السلام فإن أراد المؤمن أن يحمد الله لأنه أنعم عليه, أو انتصر ممن ظلمه أو كفّه شرّ عدوّه, فبدلا أن يقول الحمد للرحيم الحمد للعزيز الحمد للقوي, فإن بقي يذكر أسماء الله و موجبات حمده لبقي طيلة حياته ولن يستطيع أن يحمد الله على جميع أسمائه و صفاته (إن جاز التعبير) و أفعاله (إن جاز التعبير). فقول الله سبحانه و تعالى (الحمدلله) تعليم للعباد كيف يحمدونه و فيها رحمة لهم و تسهيل عليهم و ذلك لأنهم بهذه الكلمة يستطيعون أن يحمدوا الله دائما و أبدا إن أرادوا ذلك من غير مشقة.

ثم هناك معنا آخر, فالله عز و جل عندما قال (الحمدلله) فإنه أثنى على نفسه كذلك, فلا يوجد في الخلق من يستطيع أن يحمد الله ويثني عليه تمام الحمد فمن أراد ذلك فلابد أن يكون علمه مساويا لعلم الله ليعلم كل شيء عن الله ولكن الإنسان لا يمكنه أن يحيط بعلم الله ولا حتى الأنبياء و المرسلين, بل لا شيء من خلقه من له هذا العلم و الإحاطة. يُنسب للرسول صلى الله عليه و سلم بأنه كان يقول في دعائه: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" فإن كان هذا صحيحا فهذا اعتراف من الرسول صلى الله عليه و سلم بأنه لا يستطيع أن يحصي ألفاظ الثناء على الله, فإن كان هذا هو قول سيد العارفين بالله فكيف بمن دونه! فكأن في هذه الكلمة العظيمة: (الحمدلله) تخفيف من الله و فيه معنى أن الله يرضى بالقليل من عباده و العمل الصالح يرفعه و كأنه والله أعلم أن هذا الثناء بالحمد هو من أحب الثناء إلى الله فيما أنزله من كتاب من عنده. ومما يُنسب أيضا للرسول صلى الله عليه و سلم هذا الحديث: "أحب الكلام إلى الله تعالى : أربع لا يضرك بأيهن بدأت : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر" وهذا يدلك على أن صاحب هذه الكلمات إنسان ذو حظ عظيم من العلم. و يشبه هذا المعنى الذي ذكرته ما كتبه الشيخ أحمد بن محمد بن عجيبة رحمه الله صاحب تفسير "البحر المديد في تفسير القرآن المجيد" و أحب أن أنقل كلماته كما هي لأنها حرية بأن تُتدبّر, قال الشيخ: "قال (أي الله) في توحيد نفسه بنفسه مترجما عن نفسه بنفسه, ((الحمدلله رب العالمين)) فكأنه يقول في عنوان كتابه وسرّ خطابه: أنا الحامد والمحمود, وأنا القائم بكل موجود, أنا ربّ الأرباب, و أنا مسبب الأسباب لمن فهم الخطاب, أنا رب العالمين, أنا قيّوم السماوات والأرضين, بل أنا المتوحّد في وجودي, والمتجلّي لعبادي بكرمي و جودي, فالعوالم كلها ثابتة بإثباتي, ممحوة بأحدية ذاتي" و هذه الكلمات في قمة الجمال و فيها معاني كثيرة من تعمّق فيها ولكني لست بصدد شرحها فإن أحتاج إلى كتابة عدة مشاركات لشرحها. أقف هنا و إن شاء الله ألقاكم في الجزء الثاني من معاني (الحمدلله رب العالمين) , أسأل الله العلي العظيم, رب العرش الكريم, أن يغفر لي ولوالدي وللمؤمنين و المؤمنات و أن يوفقني و يسددني ويلهمني رشدي و يقيني شر نفسي و شر الشيطان. والسلام عليكم ورحمة الله و بركاته...