Sunday, June 30, 2013

آفتان عظيمتان في اللسان




السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, إخواني وأخواتي, قال محمد بن واسع لمالك بن دينار: "يا أبا يحيى حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم" وهو كما قال, فإنك ترى المسلم يبذل جهده لحفظ ماله أو منصبه وغير ذلك ولا يستطيع أن يحفظ لسانه. وفي كتاب جامع العلوم والحكم, يروى عن ابنُ بريدة أنه قال: "رأيتُ ابنَ عبَّاسٍ رضي الله عنهما آخذاً بلسانه وهو يقول : ويحك ، قُلْ خيراً تغنم، أو اسكت عن سُوءٍ تسلم، وإلا فاعلم أنَّك ستندم، قال: فقيل له: يا ابن عبَّاس، لم تقولُ هذا ؟ قال: إنّه بلغني أنَّ الإنسان ليس على شيءٍ من جسده أشدُّ حنقاً أو غيظاً يَوْمَ القيامةِ منه على لسانه إلا من قال به خيراً، أو أملى به خيراً. وفي نفس الكتاب, كان ابن مسعود رضي الله عنه يحلِفُ بالله الذي لا إله إلا هو : "ما على الأرض شيءٌ أحوج إلى طولِ سجنٍ من لسان"

إخواني وأخواتي, أريدكم أن تتخيلوا معي, كان الصدِّيق – رضي الله عنه – يمسك على لسانه ويقول : "هذا أوردني الموارد" يفعل هذا وهو من؟ رضي الله عن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما قيل: " الكلام أسيرك ؛ فإذا خرج من فيك صرت أنت أسيره" فلابد من آفات عظيمة للسان لشدة حفظ السلف رضوان الله عليهم لألسنتهم, ولا شك أنهم كانوا يعلمون ويؤمنون بقول الله سبحانه وتعالى: ((مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)) وللسان آفات كثيرة, أنقل لكم ما كتبه ابن القيم رحمه الله في كتابه الجواب الكافي عن آفتان عظيمتان في اللسان.


قال رحمه الله: "في اللسان آفتان عظيمتان ، إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى : آفة الكلام ، وآفة السكوت ، وقد يكون كل منهما أعظم إثماً من الأُخرى في وقتها ؛ فالساكت عن الحق شيطان أخرس ، عاص لله ، مراء مداهن إذا لم يخف على نفسه . والمتكلم بالباطل شيطان ناطق ، عاص لله ، وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته ؛ فهم بين هذين النوعين ، وأهل الوسط – وهم أهل الصراط المستقيم – كفوا ألسنتهم عن الباطل ، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة ؛  فلا ترى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة ؛ فضلاً أن تضره في آخرته ، وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها ، ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به" قال بعض السلف: "كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا ما كان من الله وما والاه" فاللهم أسألك أن تعيننا على حفظ ألسنتنا, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


Friday, June 28, 2013

ماذا حرم المعرضون عن نصوص الوحي؟




السلام عليكم ورحمة الله و بركاته, يقول ابن القيم رحمه الله: "سبحان الله! ماذا حرم المعرضون عن نصوص الوحي، واقتباس العلم من مشكاته من كنوز الذخائر؟ ! وماذا فاتهم من حياة القلوب واستنارة البصائر؟ قنعوا بأقوال استنبطتها معاول الآراء فكرا، وتقطعوا أمرهم بينهم لأجلها زبرا، وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، فاتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا. درست معالم القرآن في قلوبهم فليسوا يعرفونها، ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها، ووقعت ألويته وأعلامه من أيديهم فليسوا يرفعونها، وأفلت كواكبه النيرة من آفاق نفوسهم فلذلك لا يحبونها، وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وعقدها فليسوا يبصرونها.

خلعوا نصوص الوحي عن سلطان الحقيقة، وعزلوها عن ولاية اليقين، وشنوا عليها غارات التأويلات الباطلة، فلا يزال يخرج عليها من جيوشهم كمين بعد كمين، نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام، فعاملوها بغير ما يليق بها من الإجلال والإكرام، وتلقوها من بعيد، ولكن بالدفع في صدورها والأعجاز، وقالوا: ما لك عندنا من عبور، وإن كان ولا بد، فعلى سبيل الاجتياز، أنزلوا النصوص منزلة الخليفة في هذا الزمان، له السكة والخطبة وما له حكم نافذ ولا سلطان، المتمسك عندهم بالكتاب والسنة صاحب ظواهر، مبخوس حظه من المعقول، والمقلد للآراء المتناقضة المتعارضة والأفكار المتهافتة لديهم هو الفاضل المقبول، وأهل الكتاب والسنة، المقدمون لنصوصها على غيرها جهال لديهم منقوصون ((وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون)) [البقرة:13]

حرموا والله الوصول، بعدولهم عن منهج الوحي، وتضييعهم الأصول، وتمسكوا بأعجاز لا صدور لها، فخانتهم أحرص ما كانوا عليها، وتقطعت بهم أسبابها أحوج ما كانوا إليها، حتى إذا بعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، وتميز لكل قوم حاصلهم الذي حصلوه، وانكشفت لهم حقيقة ما اعتقدوه، وقدموا على ما قدموه ))وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون(( [الزمر: 47] وسقط في أيديهم عند الحصاد لما عاينوا غلة ما بذروه. فيا شدة الحسرة عندما يعاين المبطل سعيه وكده هباء منثورا، ويا عظم المصيبة عندما يتبين بوارق أمانيه خلبا، وآماله كاذبة غرورا، فما ظن من انطوت سريرته على البدعة والهوى والتعصب للآراء بربه يوم تبلى السرائر؟ وعذر من نبذ الوحيين وراء ظهره في يوم لا تنفع الظالمين فيه المعاذر؟ 

أفيظن المعرض عن كتاب ربه وسنة رسوله أن ينجو من ربه بآراء الرجال؟ أو يتخلص من بأس الله بكثرة البحوث والجدال، وضروب الأقيسة وتنوع الأشكال؟ أو بالإشارات والشطحات، وأنواع الخيال؟ هيهات والله، لقد ظن أكذب الظن، ومنته نفسه أبين المحال، وإنما ضمنت النجاة لمن حكم هدى الله على غيره، وتزود التقوى وائتم بالدليل، وسلك الصراط المستقيم، واستمسك من الوحي بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والله سميع عليم. والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.


هداية القرآن




السلام عليكم ورحمة الله و بركاته, كنت أقرأ بعض كتب ابن قيم الجوزية رحمه الله, ومما وقعت عليه هذه الكلمات الرائعة والمفيدة عن القرآن الكريم, فقلت أنقلها لكم يا أحبتي لعلنا نشعر بعظمة القرآن ونستفيد من كلمات هذا الإمام رحمة الله عليه. قال ابن القيم رحمه الله: "بسم الله الرحمن الرحيم, وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين، وإله المرسلين، وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بالكتاب المبين,...

الفارق بين الهدى والضلال، والغي والرشاد، والشك واليقين، أنزله لنقرأه تدبرا، ونتأمله تبصرا، ونسعد به تذكرا، ونحمله على أحسن وجوهه ومعانيه، ونصدق به ونجتهد على إقامة أوامره ونواهيه، ونجتني ثمار علومه النافعة الموصلة إلى الله سبحانه من أشجاره، ورياحين الحكم من بين رياضه وأزهاره، فهو كتابه الدال عليه لمن أراد معرفته، وطريقه الموصلة لسالكها إليه، ونوره المبين الذي أشرقت له الظلمات، ورحمته المهداة التي بها صلاح جميع المخلوقات، والسبب الواصل بينه وبين عباده إذا انقطعت الأسباب، وبابه الأعظم الذي منه الدخول، فلا يغلق إذا غلقت الأبواب، وهو الصراط المستقيم الذي لا تميل به الآراء، والذكر الحكيم الذي لا تزيغ به الأهواء، والنزل الكريم الذي لا يشبع منه العلماء، لا تفنى عجائبه، ولا تقلع سحائبه، ولا تنقضي آياته، ولا تختلف دلالاته، كلما ازدادت البصائر فيه تأملا وتفكيرا، زادها هداية وتبصيرا، وكلما بجست معينه فجر لها ينابيع الحكمة تفجيرا، فهو نور البصائر من عماها، وشفاء الصدور من أدوائها وجواها، وحياة القلوب، ولذة النفوس، ورياض القلوب، وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، والمنادي بالمساء والصباح: يا أهل الفلاح، حي على الفلاح، نادى منادي الإيمان على رأس الصراط المستقيم ((يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم)) [الأحقاف: 31].

سمع والله لو صادف آذانا واعية، وبصر لو صادف قلوبا من الفساد خالية، لكن عصفت على القلوب هذه الأهواء فأطفأت مصابيحها، وتمكنت منها آراء الرجال فأغلقت أبوابها وأضاعت مفاتيحها، وران عليها كسبها فلم تجد حقائق القرآن إليها منفذا، وتحكمت فيها أسقام الجهل فلم تنتفع معها بصالح العمل. وا عجبا لها! كيف جعلت غذاءها من هذه الآراء التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولم تقبل الاغتذاء بكلام رب العالمين، ونصوص حديث نبيه المرفوع، أم كيف اهتدت في ظلم الآراء إلى التمييز بين الخطأ والصواب، وخفي عليها ذلك في مطالع الأنوار من السنة والكتاب؟ واعجبا! كيف ميزت بين صحيح الآراء وسقيمها، ومقبولها ومردودها، وراجحها ومرجوحها، وأقرت على أنفسها بالعجز عن تلقي الهدى والعلم من كلام من كلامه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الكفيل بإيضاح الحق مع غاية البيان وكلام من أوتي جوامع الكلم، واستولى كلامه على الأقصى من البيان؟  كلا، بل هي والله فتنة أعمت القلوب عن مواقع رشدها، وحيرت العقول عن طرائق قصدها، يربى فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير.

وظنت خفافيش البصائر أنها الغاية التي يتسابق إليها المتسابقون، والنهاية التي تنافس فيها المنافسون، وتزاحموا عليها، وهيهات، أين السهى من شمس الضحى؟ وأين الثرى من كواكب الجوزاء؟ وأين الكلام الذي لم تضمن لنا عصمة قائله بدليل معلوم، من النقل المصدق عن القائل المعصوم؟ وأين الأقوال التي أعلا درجاتها أن تكون سائغة الاتباع، من النصوص الواجب على كل مسلم تقديمها وتحكيمها والتحاكم إليها في محل النزاع؟ وأين الآراء التي نهى قائلها عن تقليده فيها وحذر، من النصوص التي فرض على كل عبد أن يهتدي بها ويتبصر؟ وأين المذاهب التي إذا مات أربابها فهي من جملة الأموات، من النصوص التي لا تزول إذا زالت الأرض والسماوات؟ 


Tuesday, June 25, 2013

حفظ اللسان



قال ابن القيم رحمه الله في كتابه الجواب الكافي: "من العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ، ومن النظر المحرم وغير ذلك ، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه ، حتى ترى الرجل يُشار إليه بالدين والزهد والعبادة ، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقى لها بالاً ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب ؛ وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ، ولا يبالي ما يقول ." في هذه المشاركة أنقل لكم جملة من الأحاديث الواردة في حفظ اللسان والترهيب من اطلاقه بلا قيود.

روى مسلم في صحيحه من حديث جندب بن عبد الله قال : قال رسول الله: ((قال رجل : والله لا يغفر الله لفلان ، فقال الله عز وجل : من ذا الذي يتألَّى عليَّ أني لا أغفر لفلان ؟ قد غفرت له وأحبطت عملك )) فهذا العابد الذي قد عبد الله ما شاء أن يعبده أحبطت هذه الكلمة الواحدة عمله كله . وفي حديث أبي هريرة نحو ذلك ، ثم قال أبو هريرة : تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته .

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات ، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً ، يهوي بها في نار جهنم )) وعند مسلم : (( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)) وعند الترمذي من حديث بلال بن الحارث المزني عن النبي: ((إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه . وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، فيكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه)) وكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث؟

وفي جامع الترمذي أيضاً من حديث أنس قال : توفي رجل من الصحابة ، فقال رجل : أبشر بالجنة ، فقال رسول الله: ((وما يدريك ؟ فلعله تكلم فيما لا يعنيه ، أو بخل بما لا ينقصه )) قال : حديث حسن . وفي لفظ : أن غلاماً استشهد يوم أحد ، فوجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع ، فمسحت أمه التراب عن وجهه ، وقالت : هنيئاً لك يا بني ، لك الجنة ، فقال النبي: (( وما يدريك ؟ لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ، ويمنع ما لا يضره )).

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة يرفعه : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )) وفي لفظ لمسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإذا شهد أمراً فليتكلم بخير أو ليسكت)). وذكر الترمذي بإسناد صحيح عنه  أنه قال: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )). وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال : قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك ، قال : (( قل آمنت بالله ثم استقم )) قلت : يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي ؟ فأخذ بلسان نفسه ، ثم قال : (( هذا )) والحديث صحيح .

وعن أُم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: (( كل كلام ابن آدم عليه لا له ، إلا أمراً بمعروف ، أو نهياً عن منكر ، أو ذكر الله عز وجل )) قال الترمذي : حديث حسن . وفي حديث آخر : (( إذا أصبح العبد فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان ، تقول : اتقِّ الله فينا فإنَّما نحن بك ، فإذا استقمت استقمنا ، وإن اعوججت اعوججنا )) فمن له أدنى مسكة من عقل, بعد قراءة هذه الأحاديث, لبذل الجهد في حفظ لسانه, وقد كان السلف يحاسب أحدهم نفسه في قوله : يوم حار ، ويوم بارد...