Monday, August 30, 2021

الروح و النفس

 


كثيرا ما يخلط المسلمين بين الروح و النفس، و يعتقدون أنهما نفس الشيء، و لكن أنا طريقتي أنه ليس هناك شيء يكون نفس الشيء الآخر إن كان هناك اختلاف في الاسم و النطق. إن وجد اختلاف في رسم الكلمة و نطقها لابد أن هناك اختلاف بين المسمى، أو هناك معنى إضافي ليس في معنى الرسم الآخر. و قد قرأت كثيرا عن الروح و النفس، سواء باللغة العربية أم الإنجليزية، وأظن أن كثيرا من المسلمين قرؤوا كتاب الروح لابن قيم الجوزية رحمه الله، حيث ذكر فيه الفرق بين الروح و النفس و فيه ذكر أن الجمهور يعتبرون مسماهما واحد. 


لو تتبعت مواضع ذكر النفس في القرآن، لوجدت أن لها قابلية الخير و الشر، بمعنى أنها قد تكون نفسا طيبة و ممكن أن تكون فاجرة، و ممكن أن تدعو إلى الخير و قد تكون أمارة بالسوء، لنقرأ بعض الآيات:


((كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ))


((وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم))


((ولا أقسم بالنفس اللوامة))


((وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى))


((يا أيتها النفس المطمئنة))


((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا))


فكما ترى هذه الآيات تثبت أن للنفس قابلية الخير و الشر. و كذلك نجد أن النفس قد تطلق على ذات الإنسان ككل، لنقرأ الآيات التالية:


((يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون))


((أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون))


((وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم))


((وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولـكن كانوا أنفسهم يظلمون))


((وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون))


((وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير))


((ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين))


فكما تلاحظ هذه الآيات المقصود بها الذات.


و لكن لن تجد الروح أبدا في موضع في القرآن الكريم يكون فيه قابلية الشر، أو تأمر بالشر أو شيء من هذا القبيل، و لا حتى المقصود بها الذات، اقرأ الآيات التي فيها ذكر الروح:


((ينزل الملآئكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إلـه إلا أنا فاتقون))


((ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا))


((نزل به الروح الأمين))


((رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق))


((تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة))


((فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا))


((والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين))


((فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين))


((رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق))


((لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون))


فكما ترى ليس فيها شيء سلبي، و ذلك لأن الروح من أمر الله، و تأييد من الله، شيء ليس تحت سيطرة و تأثير الإنسان، بخلاف النفس، فإن للإنسان على النفس من تأثير و من أجل ذلك نجد في القرآن قوله: ((قد أفلح من زكاها)) و لن تجد مثلا الإنسان يزكي روحه، لأن الروح أمر علوي، خارج نطاق التأثير الإنساني بخلاف النفس. و تأمل في الآيات التي نقلتها علاقة الوحي بالروح، و كيف أن الله اختارا بعضا من عباده أوحى إليهم بالروح من أجل ماذا؟ من أجل الإنذار و التذكير و هداية الناس، اقرأ هذه الآيات:


((وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم))


((يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق))


((ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا))


و بهذا الفرق ندرك أنه ليس بصحيح أن نقول خرجت روحه، أو فاضت روحه، بل الأصح أن يُقال خرجت نفسه، فاضت نفسه، زهقت نفسه، و ذلك لأن لها هذه القابلية و لكن الروح فيما يظهر من أمر الله، لا تعتريه هذه الأمور، بل إن الروح من طبيعة أخرى غير طبيعة البشر، و هنا أنا أختلف مع ابن قيم الجوزية اذ اعتبر الفرق بين النفس و الروح فرق صفات لا فرق بالذات، عندي أن الفرق جوهري بالذات، فالنفس شيء و الروح شيء آخر.


و أما من يحسب أني بهذا القول أتيت بجديد فليس بجديد، بل قاله قبلي أناس آخرون، و الحمدلله لقد أثبت ابن القيم ذلك في كتابه إذ قال في كتابه ما يثبت أن هناك من فرّقوا بين الروح و النفس إذ قال: وقالت فرقة أخرى من أهل الحديث والفقه والتصوف الروح غير النفس. و قال في موضع آخر: وقالت طائفة وهم أهل الأثر أن الروح غير النفس والنفس غير الروح


ثم لاحظ الفرق، أن النفس قد تأتي مجتمعة في حين أن الروح دائما مفردة، مثال الأنفس: 


((الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون))


((يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون))


((إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى))


((ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين))


و لكن إن عدت إلى الآيات التي نقلتها و فيها ذكر الروح لن تجد جمعا، مثلا الأرواح هل سألت نفسك لماذا؟ لأن الروح كيان واحد. و الذين قالوا إن الروح تطلق على الملائكة لم يصيبوا، لأنه و إن قلنا أن الروح لقب جبريل عليه السلام، نقول له جبريل عليه السلام كيان منفرد عن الملائكة، و مختلف عنهم في الرتبة و المكانة و الأدلة على ذلك في قوله:


((تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة))


لاحظ كيف أنه فرّق بين الملائكة و الروح بحرف الواو. فالروح شيء و الملائكة شيء آخر مفرد. و هنا أيضا: ((يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا)) لاحظ أنه فرق بين الروح و الملائكة. و هنا أيضا: ((تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر)) فهذه الآيات تدل أن الملائكة شيء و الروح شيء آخر. الملائكة مجموعة من المخلوقات في حين أن الروح واحد. و أدلة على ذلك، قال الله عز و جل: ((نزل به الروح الأمين)) و قال في موضع آخر: ((ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون)) و قال: ((تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولـكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولـكن الله يفعل ما يريد)) فهذه الآيات تدل أن روح القدس له شأن خاص. 


حتى إن قلنا بأن جبريل عليه السلام من جنس الملائكة فإن له مكانة خاصة تميزه عن غيره كما أن الرسول صلى الله عليه و سلم إنسان و لكنه نبي رسول فكذلك جبريل، فإن قلت عندي هل هناك أدلة على ذلك أقول نعم، اقرأ قول الله: ((اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ))


فإن سألتني من هو الروح الذي يقرن ذكره مع الملائكة، كنت فيما مضى عندما كنت يافعا أقول أنه خَلْق عظيم من خلق الله، غير الملائكة و فوق جبريل و ميكال كما في بعض المرويات الموقوفة. و لكني اليوم و بعد دراسة أستطيع أن أقول من هو الروح و روح القدس و من هو الروح الأمين، فأقول، الذي يغلب على ظني إنه جبريل عليه السلام، و السبب هذا الترابط العجيب الذي ستجدونه في هذه الآيات، أولا قوله: ((قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ)) نزّله تعني الآيات، و من هو الذي نزّله بإذن الله؟ إنه جبريل كما هو واضح من سياق الآية. إذن جبريل نزّل على قلب الرسول الآيات، و في هذا الإنزال تصديق لما بين يديه و هدى و بشرى للمؤمنين، هذه واحدة.


دعونا نقرأ ما قاله الله عن روح القدس في سورة النحل: ((قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ)) تأمل جيدا، نزّله روح القدس و عرفت في الآية المذكورة سابقا أن جبريل نزّله بإذن الله، و من أجل ماذا؟ ليثبّت الذين آمنوا و هدى و بشرى للمسلمين، أيضا نجد هنا هدى و بشرى للمسلمين. فإن قلت و لكن كيف التثبيت، أقول لك لما كان القرآن مصدّقا لما بين يديه يكون كذلك مثبّتا للمؤمنين، و هذا مجرّب بل جرّبته شخصيا، عندما أجد شيئا مصدقا بين القرآن و الكتاب الذي أنزل من قبل أجد تثبيتا و زيادة إيمان في قلبي. و قد تطلب مني الدليل من القرآن على ما أقول، سأقول لك اقرأ الآية: (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ۙ وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ)) و إن تأملت آيات تصديق القرآن لما بين يديه من الكتاب عرفت كيف أن ذلك سبب له تأثير على الإيمان. و في قوله (نزّله روح القدس) و قوله (هدى و بشرى) الكفاية الذي نزّله بإذن ربّه واحد. هذه الثانية


أما الثالثة ففي قوله: ((وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ)) الشاهد الآية: (نزل به الروح الأمين) على ماذا؟ قال (على قلبك) أي قلب الرسول صلى الله عليه و سلم، كما في الدليل الأول الذي استشهدت به و هو قوله: (((قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ)) إذن جبريل نزّله على قلب الرسول و كذلك الروح الأمين و هذه هي الثالثة.


أما الرابعة ففي قوله:  ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ)) و واضح من سياق الآيات أن الرسول المقصود في هذه الآية هو جبريل عليه السلام، ثم لاحظ ما أخبرنا الله عنه: (مطاع ثم أمين) و قد عرفت في الدليل الثالث أن الروح الأمين هو نفسه روح القدس هو نفسه جبريل، و هذه الآية زيادة بيان على ما سبق. و أما كونه رسول كريم فقد تقدّم و بيّنت أن الله يصطفي رسلا من الملائكة كما اصطفى من البشر رسلا و ذلك في قوله: ((((اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)) و أيضا نجد في سورة فاطر ((الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۚ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) 


فهذه أربعة أدلة قوية بين يديك تثبت أن جبريل هو روح القدس الروح الأمين. 


ثم إنه من عادتي أن أبحث عن ما يسميه بعض أهل التفسير عن الإشارات، فقمت بالبحث عن اسم جبريل في القرآن فوجدته قد تكرر ثلاث مرات، ثم بحثت عن اسم الروح مجردا، يعني من دون روح القدس أو الروح الأمين، فقط الروح و ذلك في سياق الآيات التي تدل على أن الروح كيان خاص مع الملائكة فوجدته أيضا تكرر ثلاث مرات و ذلك في قوله: ((تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)) و في قوله: ((يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا)) و قوله ((تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ)) فكما ترى ثلاث مرات. أما الروح في بقية الآيات مثل قوله (الروح من أمره) فلاختلاف السياق يختلف المعنى. و أيضا بحثت عن روح القدس في العهد القديم أو ما يعرف بالتناخ عند اليهود فوجدته مذكورا ثلاث مرات.


و منذ زمن حبّب إلي النظر في موضوع حساب الجمّل، و اختصارا أنقل في تعريف حساب الجمّل من موقع الويكيبيديا: حِسَاب الجُمَّل هي طريقة لتسجيل صور الأرقام والتواريخ باستخدام الحروف الأبجدية، إذ يعطى كل حرف رقما معينا يدل عليه. فكانوا من تشكيلة هذه الحروف ومجموعها يصلون إلى ما تعنيه من تاريخ مقصود وبالعكس كانوا يستخدمون الأرقام للوصول إلى النصوص. وهو حساب استخدم في اللغات السامية؛ حيث نجده مستعملًا في بلاد الهند قديمًا، وعند اليهود؛ فالأبجدية العبرية تتطابق مع الأبجدية العربية حتى حرف التاء (أبجد، هوز، حطي ،كلمن، سعفص، قرشت) أي تتكون من 22 حرفا وتزيد العربية: ثخذ، ضظغ. واستخدمه المسلمون في تثبيت التاريخ. لكل حرف مدلول رقمي يبدأ بالرقم 1 وينتهي عند الرقم 1000. 


فقمت بحساب جمّل الروح فكانت النتيجة ٢٤٥ و من ثم قمت بحساب جمّل جبريل فوجدته كذلك ٢٤٥. و من العجائب في بحثي لجمّل العبرية، و جدت أن جمّل جبريل هو ٢٤٦ و روح (بمعنى Breath) الله هو أيضا ٢٤٦ و كذلك مُختار أو مُصطفى الله كذلك ٢٤٦. و جمّل العربي لروح القدس هو ٤٠٩ و جمّل العبرية لروح الله كذلك ٤٠٩ هذه المناسبات لا أظنّها عبثا أو مصادفة والله أعلم و هناك الكثير الكثير لكن لو ذكرت شيئا منها لجعلت نفسي موضع تهمة الجنون لصعوبة استيعاب هذه الأمور.


و أما كون المسيح عيسى بن مريم كان مؤيدا بروح القدس فهذا يعرفه عامة الناس، و قد ذُكر ذلك في عدة مواضع في القرآن الكريم، و معروف عند المسلمين أن روح القدس المقصود به جبريل، بل حتى في الأناجيل المعروفة و عند النصارى بشكل عام أن الذي بشّر مريم هو جبريل، و في القرآن نجد التالي: ((اتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)) و بهذا نكون قد أثبتنا أن جبريل عليه السلام هو روح القدس و هو الروح الأمين.

Wednesday, August 25, 2021

بلوغ مجمع البحرين و أسباب ذو القرنين

 بحمدلله تم اصدار كتابي الجديد "بلوغ مجمع البحرين و أسباب ذو القرنين". يمكنكم الحصول عليه عن طريق دار تكوين و الكتاب متوفّر للطلب عبر الواتساب أو متجرهم الإلكتروني.


https://tkweenonline.com.sa/product/بلوغ-مجمع-البحرين-وأسباب-ذو-القرنين/


الكتاب هو رحلة بحث عن ذي القرنين، لا يخلو الكتاب من تحليلات و فوائد غير مسبوقة.


أتمنى أن يعجبكم







Tuesday, August 3, 2021

الليل و النهار

 


لا أعرف إن كان أحد سبقني بهذا، لكن لا أشكّ بوجود من سبقني، دعني أقلها صراحة هنا من غير استحياء، وهو أني أحسب أنّ الليل والنهار مخلوقان غير الشمس والقمر، أي أنهما جواهر لا أعراض، مثلها مثل الشمس والقمر،. فإن تساءلت: ما الفرق بين الجوهر والعرض فإنّ الجوهر هو الموجود القائم بنفسه، ويعنون بذلك الذات والحقيقة والماهيّة مع اختلافات عند علماء الكلام إذ عندهم أنّ الجوهر الموجود القائم بنفسه المتحيّز بالذات، والعرض هو الذي لا يوجد قائماً بذاته. وأبسط مثال أنّ الإنسان جوهر، لكن فرح الإنسان (الفرح) من الأعراض، لأنه لا ثبات له وهو عارض يعرض، ويزول ولا يقوم بنفسه، فليس هناك قائم بنفسه يسمى الفرح، ولا يمكن عادة تخيل الفرح كهيئة ماهية أو ذاتية أو جوهرية بخلاف إن قلت الإنسان فإنك تتخيل الهيئة المعروفة للإنسان، وهكذا.


الناس يقولون: إنّ الليل والنهار أعراض، وجوهرها الشمس، فإنّ وجود الشمس يلزم وجود عارض النهار، وغياب الشمس يلزم اختفاء النهار ومجيء الليل، وهكذا. أما أنا فأقول إنّ الليل والنهار جوهران كما أنّ الشمس والقمر جوهران، ولا يمنع أن يكون هناك سبب بينها جميعا كما جعل الله الأسباب بين الكثير من مخلوقاته. قال الله عزّ وجلّ في سورة الأنبياء: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) من ظاهر الآية والمتبادر إلى الذهن أنها أربعة أشياء مخلوقة خلقها الله، وظاهر الآية وسياقها أنّ كلًّا في فلك يسبحون عائدة إلى الأربعة، الليل والنهار والشمس والقمر، ولا أرى دليلا قويا لمن قال إنها عائدة فقط على الشمس والقمر.


 هذا يعني أنّ الليل له فلك يدور فيه، كذلك النهار، كذلك الشمس، كذلك القمر، وكون وجود فلك لكلّ من الليل والنهار يتوافق مع قوله عزّ وجلّ: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۖ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۗ أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ). وإنّ المتأمّل في الآيات القرآنية يجد لما يذكر الله سبحانه وتعالى سيجد بعدها جواهر كالسماوات وكالأرض والإنسان والشمس والقمر وغيرها من الجواهر لا الأعراض، فما الذي جعلهم يقولون: إنّ الليل والنهار هما أعراض؟ فإن قلت ماذا ستقول عن قول الله سبحانه وتعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) أقول الإجابة في قوله :(أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ) والذي يظهر لي أنها ليست مجرد أعراض، وفي الحديث المتفق عليه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي يَا أَهْلَ النَّارِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ، ثُمَّ يَقُولُ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، ويَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ)، وَهَؤُلَاءِ فِي غَفْلَةٍ أَهْلُ الدُّنْيَا (وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) " والله أعلم.


هناك آية أخرى شبيهة بهذه الآية، وهي قوله سبحانه وتعالى: (لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) وقال في سورة الأنعام: (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) وقال في سورة إبراهيم: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) كذلك ذكر في سورة النحل: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فذكر تسخير الشمس والقمر وفي نفس الآية ذكر تسخير الليل والنهار سبحان الله وكأنها أشياء أربعة مختلفة. وقال من آياته: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ۚ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) فهذا يدلّ أنّ آياته أربع مذكورة في هذه الآية إذ قال الليل والنهار والشمس والقمر.


وذكر في سورة الشمس ما يتبادر إلى الذهن من ظاهره أنّ النهار يُجلي الشمس: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا) فهذه أشياء تتعلق بالشمس على ظاهر الآية، فالقمر تتلوها والنهار يجليها والليل يغشاها. هذا يعني أنّ النهار من وظائفه أنه يجلي الشمس والليل يغشاها. ومن تأمّل حالات الليل المذكورة فقط في الجزء الثلاثين جزء عمّ وجد ست حالات مذكورة أقسم الله بها، يصعب جدًّا معها أن نعتبر الليل مجرد عرض بل ظاهره أنه مخلوق مستقلّ، فإنّ الله قال في كتابه: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) (وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا) ستة كاملة بعدد أيام خلق السماوات والأرض في ستة أيام كلّها تثبت أنّ الليل هي الفاعلة وهي المتحركة، وهي التي تسبح كما قال الله، وليست ناتجة عن دوران الأرض حول الشمس كما زعموا. والله المستعان.


تأمل في أكثر من آية يجيء ذكر الليل والنهار قبل الشمس والقمر. إضافة إلى ما سبق ذكره تأمّل معي: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) وقال في سورة لقمان: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وقال في سورة فاطر: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۚ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ) وقال في سورة الزمر: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۖ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۗ أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) وقال في سورة فصلت: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ۚ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).


هذا الترتيب لا يمكن أن يكون عبثيا، ولابدّ من حكمة بالغة خلف الترتيب. والذي يظهر لي أنّ خلق الليل والنهار متقدّم على خلق الشمس والقمر، والحمد لله. ما جعلني مطمئنًّا لهذا الرأي أكثر وجود هذه الحقيقة في التوراة ساطعة في أول سفر من أسفار التوراة وهو سفر التكوين. لأن الله خلق الليل والنهار في أول يوم بينما خلق الشمس والقمر في اليوم الرابع. وبالتأكيد استخدم المؤمنون بالعلم الحديث هذه الحقيقة في الطعن في التوراة، وأنه كتاب متخلف علميًّا، لكن يبدو لي أنّ القرآن يصدق ذلك بالإشارة في هذه الآيات أنّ خلق الليل والنهار متقدم على خلق الشمس والقمر. سبحان الله، كلما بحثت في القرآن أو التوراة في شأن خلق السماوات والأرض والليل والنهار والشمس والقمر وجدت توافقا عجيبا أعجز إلا أن أقول كما قال النجاشي: (ليخرج من مشكاة واحدة) وأن التحريف المزعوم وإن تنزلنا وأخذنا بأنها محرفة حرفيا فإنّ هذه الجزئيات المتعلقة بخلق السماوات والأرض لم تُفسدها أيدي التحريف.


تأمل معي -عزيزي القارئ- قول الله سبحانه وتعالى في سورة النازعات: (أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ۚ بَنَاهَا (٢٧) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا (٣٠)) تأمل الرابط بين الليل والنهار والسماء، ثمّ تأمل ثانيا كيف أنه ذكرهما قبل خبر دحو الأرض، فهذا يدل على أنّ الليل والنهار من أبناء السماء إن صح التعبير وجوهر وليس بعرض من أعراض شروق الشمس أو غروبها.


يبدو من هذه الآية أنّ آيتي الليل والنهار أعظم وأعجب وأدلّ على قدرة الله سبحانه وتعالى من الشمس والقمر. ولعله لهذا السبب نجد ذكر أنّ الليل والنهار من آياته، في حين ذكر أنّ الشمس والقمر من آياته قليلة جدًّا، وقد تكون آية وحيدة أو آيتين، إن لم تخنّي الذاكرة. 


لاحظ كذلك أنّ آية الليل والنهار قد تشمل على من عند الله من الملائكة، فإنّ الله عزّ وجلّ قال في كتابه في سورة الأنبياء: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) قال ابن جرير الطبري: "يسبح هؤلاء الذين عنده من ملائكة ربهم اللـيـل والنهار لا يفترون من تسبـيحهم إياه" وقال ابن كثير: "فهم دائبون في العمل ليلاً ونهاراً، مطيعون قصداً وعملاً". وقال الله عزّ وجلّ في آية أخرى في سورة فصلت: (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ) لاحظ أنّ الله امتدحهم بأنهم يسبحون الليل والنهار، والملائكة المتعارف عليه عند الناس أنها لا تعيش على أرض كروية بل الغالب أنها في السماء، ولهذا قال الله: (فالذين عند ربك) وهذا المتبادر إلى الذهن. كذلك في السنة النبوية نجد حديثا مشهورا معروفا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعرفه العامي والعالم، وهو أنّ نبـيّ الله صلّى الله عليه وسلّم بـينـما هو جالس مع أصحابه، إذ قال: " تَسْمَعُونَ ما أسْمَعُ؟ " قالوا: ما نسمع من شيء يا نبـيّ الله قال: " إنّـي لأسْمَعُ أطِيطَ السَّماءِ، ومَا تُلامُ أنْ تَئِطَّ وَلَـيْسَ فِـيها مَوْضِعُ رَاحَةٍ إلاَّ وَفِـيهِ مَلَكٌ ساجِدٌ أو قَائمٌ". 


فأين الليل والنهار في فضاء العلم الحديث؟ وأيّ شمس هي المسؤولة عن الليل والنهار في السماء؟ هذه الآيات تدلّ أنّ الليل والنهار آيتان عظيمتان منفصلتان عن آيتي الشمس والقمر، وليس هناك مانع أن يكون هناك سبب بين هذه الآيات كلها. فإنّ الليل والنهار آيتان، وآية دخول وقت أحدهما طلوع الشمس أو غروبها، فالغرض الأساسي من الشمس والقمر برأيي هو لمعرفة السنين والحساب، وآية على دخول وقت الليل والنهار. وربما لذلك نجد في القرآن الكريم قول الله عزّ وجلّ: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا) وقال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) وقال: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) كذلك في التوراة في سفر التكوين عندما يأتي فيه ذكر الشمس والقمر نجد في النصّ الرابع عشر: "وقال الله: لتكن أنوار في جلد السماء لتفصل بين النهار والليل، وتكون لآيات وأوقات وأيام وسنين". في أكثر آيات الليل والنهار، فإنّ الليل للسكن والراحة والنهار لابتغاء الفضل، فأغراضهما معروفة، كذلك أغراض الشمس والقمر معروفة. وكما قلت سابقا لا يمنع أن تكون الشمس من أغراضها الإضاءة المحدودة، كذلك القمر الإنارة المحدودة، وهذه الآيات المذكورة فيها من العلوم الشيء الكثير. وفي جعبتي كلام كثير عنها لن يستوعبها هذا الكتاب، وأخشى ألا يستوعبه جمهور القراء، لا غرورا والعياذ بالله، لكن خشية الخروج عن مقصد الكتاب، إذ الشرح والكلام سيطول كثيرًا.


قال الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ۚ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) تأمّل قول الله سبحانه وتعالى: (يقدر الليل والنهار) ولم يذكر الشمس والقمر، فإن كان الليل والنهار عرضا لا جوهرا فصعب عليّ فهم سبب ذكره الليل والنهار. وهناك عدة آيات تثبت أنّ الليل فاعل غير مفعول به.


قال الله في سورة القصص: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَه غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لماذا لم يقل في هذه الآيات أمسك الشمس أو شيء له علاقة بالشمس؟ ألا تدلّ هذه الآيات أن الليل والنهار خلق مختلف عن الشمس والقمر وأنها ليست أعراضا لطلوع الشمس أوغروبها؟ 


فإن قلنا إنّ النهار شيء والشمس شيء آخر يتبادر إلى الذهن هل سيكون هناك نهار لولا الشمس؟ الله أعلم. لكن الذي أرجحه أقول نعم، إنما الشمس آية للنهار، وأنّ النهار قد جاء وقته وعلامة والنهار يجلي الشمس. 

عشنا سنوات كثيرة بحمد الله، وعايشنا ظاهرة كسوف الشمس، ولم أسمع يوما حتى الآن من رأى النهار عند حدوث الظاهرة مظلما بسبب كسوف الشمس. فإن قلت إذن ما بالنا نرى النهار مع الشمس بشكل دائم، حسن لا بأس دعني أتنزّل وأقول ذلك حقيقة بالرغم من أني بشكل يومي أرى نور النهار في السماء قبل شروق الشمس، لكن بالتأكيد يقوى نور النهار بشروق الشمس. على كلّ إن قلنا إنّ هناك علاقة كما قلت إنّ النهار والشمس دائما معا كيف إذن تفرق بينهما؟ وتقول إنّ النهار جوهر، كذلك الشمس. هذا ممكن. تخيّل معي أن يكون النهار على شكل دائرة كاملة في فلكها وتدور الشمس تحت أو فوق أو في فلكها، فأينما حلت كان نهار وذلك لأنها بداخل سلطان النهار أو دائرة نطاق النهار. هل تعرف شعار الين يانغ الصيني؟ ألا تجدهم يضعون في اللون الأبيض نقطة سوداء، وفي اللون الأسود نقطة بيضاء، تخيل النهار كاللون الأبيض، والشمس كالنقطة السوداء بداخلها، ولها سرعة وحركة متساوية، وهكذا يكون الاثنان جوهرين مختلفين، لكن من دقة النظام تجد هذا التلازم. حاول أن ترسمها ثمّ احكم بنفسك، أليس هذا محتملا؟ أقول: نعم ممكن بل هو ما يظهر لي أنه الأقرب إلى الصواب.


هناك أمر آخر، وهو أني أحسب أنّ الظلمة أو الليل جاء إلى هذا الوجود قبل النهار أو أنّ أمره أكبر من النهار، ولا يعني أنه أكبر بمعنى أنه أفضل بالضرورة. ذكر الليل في القرآن حوالي ٩٢ مرة في حين النهار حوالي ٥٧ مرة. وكثيرا ما نجد في القرآن عندما يذكر الليل والنهار يبدأ بالليل فقال سبحانه: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ) وقال: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) وقال: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) وقال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) وقال: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً) وهكذا في آيات كثيرة الليل يسبق ذكره ذكر النهار. 


نعم الليل وفضائله كثيرة، لكن هذا يشير أيضا أنّ الليل جاء إلى هذا الوجود قبل النهار كما تشير الآية التالية: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) وهذا يشبه كثيرا ما هو مذكور في التوراة أنّ الظلمة كانت في البداية ثمّ جعل الله النور أو النهار. نجد في التوراة في سفر التكوين أول نصوص فيها: 


"١ في البدء خلق الله السماوات والأرض ٢ وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه  ٣ وقال الله: ليكن نور، فكان نور  ٤ ورأى الله النور أنه حسن. وفصل الله بين النور والظلمة  ٥ ودعا الله النور نهارا، والظلمة دعاها ليلا. وكان مساء وكان صباح يوما واحدا" وكأن الظلمة أُمّ النهار أو إن شئت قل أُم المخلوقات التي جاءت بعد خلقة السماوات والأرض أوهذا الوجود الإنساني. نجد في الحديث النبوي: (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ، ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ يَوْمَئِذٍ) فالذي يظهر لي أنّ الليل أو الظلمة سبقت وجودها النهار وسبق وجودها الشمس والقمر. قال سبحانه: (وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ) فكأن النهار منزوع من الليل أو كأنه جلد على الليل، ولهذا نجد الله يذكر عن الليل: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) وقال: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا). 


تأمّل في قوله سبحانه وتعالى (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) وغشى رأسه يعني غطى رأسه، ويقولون غشّى الشيء أي غطّاه الذي يتبادر إلى الذهن أن يغشى أو يُغشي يغطيه من فوق ويقولون غشي الرجل زوجته أي جامعها وعلاها وكان لها غطاء، وقال الله في سورة الأعراف: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ۖ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ۖ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) ويغشى السّدرة يعني يُغطيها ويسترها وفي سورة النجم: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى) كذلك قوله في سورة النور: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) فمن الآيات المذكورة نستدلّ أنّ الغشيان يكون عادة من فوق، ويكون كالغطاء، كذلك الليل بالنسبة للنهار فهو الذي يغشي النهار ويغطيه. ولعلّ هذا السبب كلما ارتفع الإنسان نحو السماء أظلم العالم بالنسبة إليه، لأنه شارف الخروج من نطاق النهار، ودخل في نطاق الليل العظيم. والله أعلم.



عبدالعزيز النظري

تويتر

انستغرام



القبلة

 قال الله عزّ وجلّ: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ۚ قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (١٤٣) قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ۚ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ۚ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ۚ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) ) {سورة البقرة ١٤٢-١٥٠}


منذ أكثر من ألف سنة والمسلمون في سفر، وكلّهم يتجهون باتجاه واحد، وهو اتجاه الكعبة بغضّ النظر في أيّ بقعة من الأرض كانوا. فإن كانت الأرض كروية فإنّ الاتجاهات تنعدم. أين الشمال وأين الجنوب وأين الشرق وأين الغرب؟ فإن افترضنا أنّك في وسط الكرة شمالا والكعبة في وسط الكرة جنوبا فبأيّ اتجاه ستكون القبلة؟ الشرق أم الغرب؟ إنك ستكون متجها إلى القبلة حيث اتجهت، بل إن اتجهت شمالا أو جنوبا فإنك ستكون مستقبلا القبلة ومستدبرها كذلك. ولا تقل لي أقرب بقعة لك، فإني أقول لك إنك في الوسط والمسافات على حسب الكروية متساوية فماذا ستفعل؟ عليك أن تعلم -أيها القارئ العزيز- بأنك على الأرض الكروية أينما كنت متوجها نحو القبلة، فلابدّ أنك مستدبر إياها كذلك، وذلك لأنك على كرة. 


أيضًا إن قالوا إنك عندما تتجه ناحية القبلة فسيخرج من رأسك مثل الليزر الذي سينحني ليصل إلى الكعبة التي على أرض كروية! وهذا سخافة! وذلك لأنك لو كنت في وسط الأرض شمالا والكعبة بالعكس تماما فإن اتجهت يمينا فستخرج من الكرة الأرضية وإن اتجهت شمالا فستخرج من الكرة الأرضية، وإن اتجهت جنوبا أو شمالا نفس الشيء إلا إن قلت إنّ اتجاه الليزر سينحني مع انحناء الأرض وبالتالي المهم تكون شطر المسجد الحرام بغض النظر عن الانحناء أو عدمه. لكن السؤال القادم أيّ شطر؟ الشطر اليمين أم اليسار؟ الشمالي أم الجنوبي؟ أترى الورطة التي هم فيها؟ لكن إن كانت الأرض مسطحة فالاتجاه دائما واحد ولن تستدبر القبلة البتة في جميع الاتجاهات وفي جميع بقاع الأرض، والحمد لله.


وقوع السماء على الأرض

 


(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) {سورة الحج ٦٥}


(إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) {سورة فاطر ٤١}


لماذا يمسك السماء أن تقع على الأرض؟ هل تساءلت يوما عن ذلك؟ هنا ملاحظة وهي أنّ الله خلق السماء، وجعل لها قابلية الوقوع، يعني من طبعها الوقوع، لكنه يمسكها بإذنه، فمثلا ألا تقول أمسكت الشيء إلا إذا هذا الممسك به ممكن السقوط أو الوقوع، أليس كذلك؟ كذلك هناك مسألة أخرى أنّ السماء شيء ماديّ، لذلك يصحّ عليها الوقوع وأن يُهلك الناس بها وليست شيئا غير مادي وفيزيائي، بل الظاهر أنّ السماء بناء شديد كما تدلّ عليه الآيات القرآنية أو كالسقف للبيت إن وقع أهلك من في البيت، كذلك السماء كما ذكرت في الفصول السابقة. أما عند المجتمع العلمي فإنهم يقولون أولا إنّ الأرض نقطة تسبح في الفضاء والسماء عبارة عن فضاء، فالسؤال الذي ينبغي الإجابة عليه: كيف يقع السماء على الأرض إن كانت السماء محيطة بالأرض من جميع الاتجاهات؟ لماذا لم يقل الله سبحانه وتعالى: يمسك السماء أو يمنع السماء أن تضم الأرض أو شيء من هذا القبيل بل قال: تقع ما يدلّ سقوط من أعلى إلى أسفل؟ وماذا عن الذين يعيشون جنوب الكرة الأرضية، فمن منظور الإنسان نعم تقع، لكن من منظور فوقي أو خارجي للكرة الأرضية فإنّ السماء يجب أن ترتفع لتقع على من يعيش في جنوبها وهكذا. لكن الواقع أنّ السماء غير محيطة بالأرض بل هي فوقها. 


قال الشنقيطي في تفسير أضواء البيان: "هذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن كقوله: (وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ) وقوله: (إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ) [فاطر: ٤١] وقوله: (إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ) [سبأ: ٩] وقوله: (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً) [النبأ: ١٢]، وقوله: (وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) [الذاريات: ٤٧]، وقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً) [الأنبياء: ٣٢] الآية، ونحو ذلك من الآيات، يدلّ دلالة واضحة على أنّ ما يزعمه ملاحدة الكفرة، ومن قلدهم من مطموسي البصائر ممن يدعون الإسلام أنّ السماء فضاء لا جرم مبني، إنه كفر وإلحاد وزندقة، وتكذيب لنصوص القرآن العظيم، والعلم عند الله تعالى."


و قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً) [الأنبياء: ٣٢]  دليل صريح على أنّ السماء فوق الأرض، وليست محيطة بالأرض. فلا يُقال -عزيزي القارئ- إن كنت في غرفتك أو في مكتبك في العمل الأرضية التي تطؤها سقف، ولا يُقال للذي حولك سقف إنما جدران، لكن فقط ما يعلوك يُقال عنه سقف. قال الله عزّ وجلّ في سورة النحل: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ).


إنّ كون السماء سقف الأرض المسطّحة مفهوم ومنطقيّ، لكن أين سقف الكرة الأرضية؟ هل ستقول لي: فوق ملايين المجرات التي فيها مليارات النجوم والأرض عبارة عن ذرة وكلّ ذلك كان غائبا عن الجيل الذي نزل فيه القرآن؟ حقًّا غريب أمرهم عزيزي القارئ! القرآن واضح وضوح الشمس، وآياته بينات، وفيها دلالة واضحة أنّ السماء سقف الأرض، لكنهم يصرون على غير ذلك. دعنا نستعرض بعض ما قاله أهل التفسير عندما توقفوا عند هذه الآية:


قال الطبري: "للأرض مسموكا" وفي تفسير القرطبي: "أي محفوظاً من أن يقع ويسقط على الأرض دليله قوله تعالى:(وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) [الحج: ٦٥]. وقيل: محفوظاً بالنجوم من الشياطين قاله الفرّاء. دليله قوله تعالى: (وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ) [الحجر: ١٧]. وقيل: محفوظاً من الهدم والنقض، وعن أن يبلغه أحد بحيلة. وقيل: محفوظاً فلا يحتاج إلى عماد. وقال مجاهد: مرفوعاً". وفي تفسير ابن كثير: "أي على الأرض، وهي كالقبة عليها، كما قال: (وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) {الذاريات ٤٧} وقال: (وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَـاهَا) {الشمس ٥} (أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَـاهَا وَزَيَّنَّـاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ) {ق ٦} والبناء هو نصب القبة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس" أي خمس دعائم، وهذا لا يكون إلا في الخيام كما تعهده العرب (مَّحْفُوظاً) أي عالياً محروساً أن ينال."  قال الفخر الرازي: "سمى السماء سقفاً لأنها للأرض كالسقف للبيت." وقال أيضًا: "المسألة الثانية: في المحفوظ قولان: أحدهما: أن محفوظ من الوقوع والسقوط الذين يجري مثلهما على سائر السقوف كقوله: (وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) {الحج: ٦٥} وقال: (وَمِنْ ءايَـاتِهِ أَن تَقُومَ ٱلسَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ) {الروم: ٢٥}] وقال تعالى: (إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَـاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ) {فاطر: ٤١} وقال: (وَلاَ يُؤُدهُ حِفْظُهُمَا) {البقرة: ٢٥٥}." 


وفي تفسير البقاعي: "سقفاً أي للأرض لا فرق بينها وبين ما يعهد من السقوف إلا أن ما يعهد لا يسقط منه إلا ما يضر، وهذه مشحونة بالمنافع فأكثر ما ينزل منها ما لا غنى للناس عنه من الآت الضياء وعلامات الاهتداء والزينة التي لا يقدر قدرها.  ولما كان ما يعرفون من السقوف على صغرها لا تثبت إلا بالعمد، ويتمكن منه المفسدون، وتحتاج كلّ قليل إلى إصلاح وتعهد، بين أن هذا السقف على سعته وعلوه على غير ذلك فقال: (محفوظاً) أي عن السقوط بالقدرة وعن الشياطين بالشهب، فذكّر باعتبار السقف، وأشار إلى كثرة ما حوى من الآيات مؤنثاً باعتبار السماء أو العدد الدال عليه الجنس، لأنّ العدد أولى بالدلالة على كثرة الآيات والنجوم مفرقة في الكل فقال: (وهم) أي أكثر الناس (عن آياتها) أي من الكواكب الكبار والصغار، والرياح والأمطار، وغير ذلك من الدلائل التي تفوت الانحصار، أي الدالة على قدرتنا على كلّ ما نريد من البعث وغيره وعلى عظمتنا بالتفرد بالإلهية وغير ذلك من أوصاف الكمال، من الجلال والجمال (معرضون) لا يتفكرون فيما فيها من التسيير والتدبير بالمطالع والمغارب والترتيب القويم الدال على الحساب الدائر عليه سائر المنافع." 


وهكذا لم أجد في أيّ تفسير أنّ السقف معناه غير ما علا، ولم أجد في أيّ تفسير أنّ السماء سقف لشيء غير الأرض. فتحصّل لدينا مما سبق أنّ السماء فوق الأرض، وهذا ظاهر في كثير من الأقوال، ويصير مفهوما لما نجد في القرآن مثل الآيات التالية: في سورة الإسراء: (أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا)  وكما في سورة الطور: (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ) والآية من سورة الشعراء: (فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) والسقوط لا يكون إلا من أعلى إلى أسفل. 


فإن كانت الأرض كروية، وتسبح في الذرة في هذه المجرة فأين السماء؟  يقولون: الفضاء محيط به، فكيف يسقط شيء من السماء عليها؟ أي جانب من الأرض المقابل للسماء؟ جميع الجوانب، فكيف يصحّ إذن السقوط؟


إن قلت إنّ المقصود في الآيات التالية المنظور أقول تبًّا لفكر يجعل من آيات القرآن كلّها نسبية، فلا يكاد يهتدي الإنسان إلى حقيقة يطمئنّ إليها، وينشرح بها صدره. على كلّ حتى لو كان المنظور هو المراد فقط أقول: ولله الحمد المنظور يتفق ويتواءم مع بقية الآيات القرآنية التي فيها أنّ الله جعل السماء سقفا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض، فمجموع الآيات والكلمات العربية المستخدمة فيها كلّها تنادي على القارئ اليقظ غير النائم أو المُخدّر بداء التقليد أنّ السماء فوقنا كالسقف، وليست تحت الأرض، أو محيطة به.



عبدالعزيز النظري

تويتر

انستغرام


ترتيب خلق السماوات و الأرض

 

السماوات والأرض، أيها خُلقت أولا؟ قال الله عزّ وجلّ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) {البقرة ٢٩} وملاحظتي هي أنّ السماوات السبع سوّاهن الله بعد خلقه الأرض، وهذا ما لن يرتضيه أي إنسان يؤمن بنظريات العلم الحديث، وذلك عندهم أنّ الأرض كانت إحدى نتائج نظرية الانفجار العظيم، وبعد خلق السماء والفضاء! فإن قالوا إنّ نظرية الانفجار العظيم تخصّ فقط ما بين السماء والأرض، علينا أن نسألهم: ماذا كان خارج الوجود؟ هل كان عدما ثمّ جعل الله سبع سماوات أم ماذا؟ الإجابة الشافية عندهم في هذا الموضوع تكاد تكون مستحيلة.


من وجهة نظري الشخصيّة أنّ السماء كانت مخلوقة، كيف كانت لا أدري، لعلها دخان! والسبب في ذلك قال سبحانه: (استوى إلى السماء) فأثبت وجودها، ولم يقل بعدها خلقهن سبع سماوات بل (فسواهن) وإن أنت قرأت القرآن فلابدّ أنك قرأت (الذي خلقك فسواك فعدلك) وكذلك قوله عزّ وجلّ: (الذي خلق فسوى) الخلق سابق، فإن فهمت في تلك الآيات المراحل والاختلافات فَهِمْتَ هنا أيضًا، وعرفت أنّ السماء لها عدّة معان غير المعنى اللغوي الشائع! بل حتى المعنى اللغوي، لا يستقيم معنى العلو لولا وجود السفل، والله أعلم.


أُحبّ أن أنوّه أنّ مسألة خلق السماء والأرض وأيها خُلقت أولا هي من مسائل الخلاف وقبل التعرّض للخلاف. يجدر بي أن أذكر أنّ كثيرا من المُغرضين والشانئين الإسلام يشككون في هذا القرآن العظيم ويستهجنونه بسبب أنّ ظاهر القرآن الكريم يدلّ على أنّ الأرض خلقت قبل السماوات، وذلك يعني أنه يخالف ما توصل إليه العلم الحديث من أنّ الأرض تعتبر حديثة مقارنة بالسماء والمجرات والنجوم، فأطلقوا سهامهم المسمومة في قلوب بعض ضعاف المسلمين الذين يُسلّمون لكلّ ما يتوصل إليه الغرب، فقام بعض الشباب المسلم الغيور على دينه فراح يردّ هذه الشبهات متخيلا دحضها، مستخدما سلاح التغيير، بمعنى تغيير ظاهر المعنى وذلك لإثبات أنّ القرآن يتفق مع العلم الحديث. ونجحوا عند أنفسهم أنهم استطاعوا قلب الشبهة إلى نقطة من نقاط الإعجاز العلميّ في القرآن، لكن المسألة ليست كما قال المغرّض ولا المتحمّس، المسألة أنّ الأول انطلق من منطلق باطل، وقرأ قراءة صحيحة، أما الثاني فانطلق من منطلق صحيح، وقرأ قراءة خاطئة. أسأل الله أن يعيننا على هذا الجهل المحيط بنا، الشاهر رأسه في كلّ اتجاه ما إن تقطعه يتضاعف الجهل، ويشهر رؤوسه مجدّدا كأنه مخلوق الهايدرا الأسطوريّ المعروف في الأساطير الإغريقية، والله المستعان. 


أما من يأخذ بظاهر القرآن ويكون مؤمنا بأنّ الله حقّ وكلامه حقّ لما شقّ عليه البتّة ولقال: ما المشكلة أن يخلق الله الأرض قبل السماء، فهل الإنسان عندما يبني البيت يبدأ من السقف أولا أم من الأرض؟ هذا المثال يفهمه الفلاح في مزرعته والخباز في مخبزه والعالم في مختبره والراهب في صومعته.


على كلّ دعنا نستعرض ما قاله أهل التفسير بشأن هذه المسألة، قال البعض إنّ الأرض خُلقت أولا وآخرون قالوا السماء وآخرون قالوا خلق جرم الأرض أولا ثمّ خلقت السماوات ثمّ دحى الربّ الأرض فتمّ التوفيق بين الآيات التي توحي أنّ فيها اختلافا لضعيفي الفهم والعلم باللغة. وهذا الأخير هو الذي استروح إليه أكثر المفسرين المعاصرين. وأهمّ من نُسِب إليه هذا التوفيق هو ابن عباس إذ يُنسب إليه مقولته: "أنّ الله خلق السماوات والأرض، فلما فرغ من السماوات قبل أن يخلق أقوات الأرض فيها بعد خلق السماء، وأرسى الجبال، يعني بذلك دحْوَها الأقوات، ولم تكن تصلح أقوات الأرض ونباتها إلا بالليل والنهار، فذلك قوله: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) ألم تسمع أنه قال: (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا)".


قال عبد الله بن سلام: "إنّ الله بدأ الـخـلق يوم الأحد، فخـلق الأرضين فـي الأحد والاثنـين، وخـلق الأقوات والرواسي فـي الثلاثاء والأربعاء، وخـلق السموات فـي الـخميس والـجمعة، وفرغ فـي آخر ساعة من يوم الـجمعة، فخـلق فـيها آدم علـى عجل، فتلك الساعة التـي تقوم فـيها الساعة." وهذه الرواية المنسوبة إلى الصحابي عبدالله بن سلام تدلّ على أنّ خلق الأرض كان قبل السماوات. وقال مجاهد: "خـلق الأرض قبل السماء، فلـما خـلق الأرض ثار منها دخان، فذلك حين يقول: (ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) قال: بعضهنّ فوق بعض، وسبع أرضين بعضهنّ تـحت بعض" وعن الحسن خلق الله الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر، عليها دخان ملتزق بها، ثمّ أصعد الدخان، وخلق منه السماوات، وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض، فذلك قوله (كَانَتَا رَتْقاً) {الأنبياء ٣٠} وهو الالتزاق.


ذكر ابن جرير الطبري عدة أخبار عند توقفه عند هذه الآية التي نحن بصددها، أنقل لك إحداها، قال ابن جرير: "حدثنـي مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، قال: قال مـحمد بن إسحاق: كان أوّل ما خـلق الله تبـارك وتعالـى: النور والظلـمة، ثمّ ميز بـينهما فجعل الظلـمة لـيلاً أسود مظلـماً، وجعل النور نهاراً مضيئاً مبصراً، ثمّ سمك السموات السبع من دخان يقال والله أعلـم من دخان الـماء حتـى استقللن ولـم يحبكهن، وقد أغطش فـي السماء الدنـيا لـيـلها وأخرج ضحاها، فجرى فـيها اللـيـل والنهار، ولـيس فـيها شمس ولا قمر ولا نـجوم، ثمّ دحى الأرض، وأرساها بـالـجبـال، وقدّر فـيها الأقوات، وبثّ فـيها ما أراد من الـخـلق، ففرغ من الأرض وما قدّر فـيها من أقواتها فـي أربعة أيام. ثمّ استوى إلـى السماء وهي دخان كما قال فحبكهن، وجعل فـي السماء الدنـيا شمسها وقمرها ونـجومها، وأوحى فـي كلّ سماء أمرها، فأكمل خـلقهنّ فـي يومين. ففرغ من خـلق السموات والأرض فـي ستة أيام، ثمّ استوى فـي الـيوم السابع فوق سمواته، ثمّ قال للسموات والأرض: (ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) [فصلت: ١١] لـما أردت بكما، فـاطمئنا علـيه طوعاً أو كرهاً، قَالتَا: (أَتَيْنَا طَآئِعِينَ) [فصلت: ١١] ثمّ أردف قائلا: " فقد أخبر ابن إسحاق أنّ الله جلّ ثناؤه استوى إلـى السماء بعد خـلقه الأرض وما فـيها وهنّ سبع من دخان، فسوّاهنّ كما وصف.


قال ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: " ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولاً، ثمّ خلق السموات سبعاً، وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله، ثمّ أعاليه بعد ذلك، وقد صرح المفسرون بذلك


قال الزمخشري: "جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء". قال الفخر الرازي: "خلق بعد الأرض السماء ولم يجعل بينهما زمانا ولم يقصد شيئا آخر بعد خلقه الأرض" وقال الفخر الرازي أيضا: "قوله تعالى: (هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَاء) مفسر بقوله:(قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَـالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وَبَـارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ) [فصلت: ٩-١٠] بمعنى تقدير الأرض في يومين وتقدير الأقوات في يومين آخرين كما يقول القائل من الكوفة إلى المدينة عشرون يوماً، وإلى مكة ثلاثون يوماً يريد أنّ جميع ذلك هو هذا القدر ثمّ استوى إلى السماء في يومين آخرين ومجموع ذلك ستة أيام"


قال القرطبي: "يظهر من هذه الآية أنه سبحانه خلق الأرض قبل السماء؛ وكذلك في "حم السجدة". 

وقال في النازعات:(أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا) [النازعات: ٢٧] فوصف خلقها؛ ثم قال: (وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) [النازعات: ٣٠]. فكأنّ السماء على هذا خلقت قبل الأرض؛ وقال تعالى: (ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) [الأنعام: ١] وهذا قول قتادة: إنّ السماء خلقت أوّلاً؛ حكاه عنه الطبريّ. وقال مجاهد وغيره من المفسرين: إنه تعالى أيبس الماء الذي كان عرشه عليه، فجعله أرضاً وثار منه دخان فارتفع؛ فجعله سماء فصار خلق الأرض قبل خلق السماء، ثمّ قصد أمره إلى السماء فسوّاهنّ سبع سموات، ثمّ دحا الأرض بعد ذلك، وكانت إذ خلقها غير مَدْحُوّة.  قلت: وقول قتادة يخرج على وجه صحيح إن شاء الله تعالى، وهو أنّ الله تعالى خلق أوّلاً دخان السماء ثمّ خلق الأرض، ثم ٱستوى إلى السماء وهي دخان فسوّاها، ثمّ دحا الأرض بعد ذلك. 


ومما يدل على أنّ الدخان خلق أوّلاً قبل الأرض ما رواه السُّدِّي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ٱبن عباس، وعن مُرّة الهَمْدانيّ عن ٱبن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله عزّ وجلّ: (هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) قال: إنّ الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئاً قبل الماء؛ فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخاناً فارتفع فوق الماء، فسَما عليه، فسمّاه سماء؛ ثم أيبس الماء فجعله أرضاً واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين، في الأحد والاثنين. (هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّهُنَّ سَبْعَ سَمَاواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فجعل الأرض على حُوت ـ والحُوت هو النُّون الذي ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن بقوله: (نۤ وَٱلْقَلَمِ) [القلم:١] والحوت في الماء والماء على صَفاة، والصفاة على ظهر ملَك، والملَك على الصخرة، والصخرة في الريح ـ وهي الصخرة التي ذكر لقمان: ليست في السماء ولا في الأرض - فتحرّك الحوت فاضطرب؛ فتزلزلت الأرض؛ فأرسل عليها الجبال فقرّت؛ فالجبال تفخر على الأرض، وذلك قوله تعالى: (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ) [النحل: ١٥] وخلق الجبال فيها، وأقوات أهلها وشجرها، وما ينبغي لها في يومين، في الثلاثاء والأربعاء، وذلك حين يقول: (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ) [فصلت ٩-١٠] يقول: من سأل فهكذا الأمر، (ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ) [فصلت: ١٢] وكان ذلك الدخان من تنفّس الماء حين تنفّس؛ فجعلها سماء واحدة، ثمّ فتقها فجعلها سبع سموات في يومين، في الخميس والجمعة؛ وإنما سُمّي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض، (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا ) [فصلت: ١٢] قال: خلق في كل سماء خَلْقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البَرَد وما لا يُعلم؛ ثم زَيّن السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زِينة وحِفْظاً تحفظ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحبّ ٱستوى على العرش؛ قال فذلك حين يقول: (خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) [الحديد: ٤] ويقول: (كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا)" 


وفي النهاية توقف القرطبي، وقال: "والله أعلم بما فعل؛ فقد ٱختلفت فيه الأقاويل، وليس للاجتهاد فيه مدخل".


و في تفسير الجلالين: "(هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأَرْضِ) أي: الأرض وما فيها (جَمِيعاً) لتنتفعوا به وتعتبروا (ثُمَّ ٱسْتَوَى) بعد خلق الأرض". وقال الخازن في تفسيره: "خلق الأرض أولاً ثمّ عمد إلى خلق السماء. فإن قلت كيف الجمع بين هذا وقوله تعالى: (والأرض بعد ذلك دحاها) [النازعات: ٣٠] قلت: الدحو البسط، فيحتمل أنّ الله تعالى خلق جرم الأرض، ولم يبسطها ثمّ خلق السماء وبسط جرم الأرض بعد ذلك، فإن قلت هذا مشكل أيضاً لأنّ قوله تعالى خلق لكم ما في الأرض جميعاً يقتضي أنّ ذلك لا يكون إلاّ بعد الدحو. قلت: يحتمل أنه ليس هنا ترتيب وإنما هو على سبيل تعداد النعم كقوله الرجل لمن يذكره ما أنعم به عليه: ألم أعطك؟ ألم أرفع قدرك؟ ألم أدفع عنك؟ ولعلّ بعض هذه النعم متقدمة على بعض والله أعلم". ولعلّ أحسن ما قيل هو قول أبو حيان في تفسيره: " والذي تدل عليه هذه الآية أن خلق ما في الأرض لنا متقدم على تسوية السماء سبعاً لا غير، والمختار أن جرم الأرض خلق قبل السماء، وخلقت السماء بعدها، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء، وبهذا يحتمل الجمع بين الآيات".


وعند الشوكاني كلام مهمّ: وقد استدلّ بقوله: (ثُمَّ ٱسْتَوَى) على أنّ خلق الأرض متقدّم على خلق السماء. وكذلك الآية التي في "حم السجدة". وقال في النازعات: (أأنتم أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَاء بَنَـاهَا) {النازعات ٢٨} فوصف خلقها، ثم قال: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـاهَا) {النازعات ٣٠} فكأنّ السماء على هذا خلقت قبل الأرض، وكذلك قوله تعالى: (ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـاواتِ وَالأرْضَ) {الأنعام ١} وقد قيل إنّ خلق جرم الأرض متقدّم على السماء، ودحوها متأخر. وقد ذكر نحو هذا جماعة من أهل العلم، وهذا جمع جيد لا بدّ من المصير إليه، ولكن خلق ما في الأرض لا يكون إلا بعد الدحو، والآية المذكورة هنا دلت على أنه خلق ما في الأرض قبل خلق السماء، وهذا يقتضي بقاء الإشكال، وعدم التخلّص عنه بمثل هذا الجمع."


قال النسفي في تفسيره: "قوله تعالى: (ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَاء) {فصلت: ١١}، أي أقبل وعمد إلى خلق السموات بعد ما خلق ما في الأرض من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر." وقال أيضا: "لأنّ جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء وأما دحوها فمتأخر". وقال الثعالبي المفسر المعروف: "وهذه الآية تقتضي أنّ الأرض وما فيها خُلِقَ قبل السماء، وذلك صحيحٌ، ثمّ دحيت الأرض بعد خلق السماء، وبهذا تتفق معاني الآيات هذه والتي في سورة «المُؤْمِنِ»، وفي «النازعات»." وفي تفسير البقاعي: "خلق الأرض وتهيئتها لما يراد منها قبل خلق السماء، ودحوها بعد خلق السماء".


وفي التفسير الإباضي نجد مثلا عند اطفيش: "والآية دليل على أنّ الأرض وما فيها مخلوقان قبل السماء أما على أنّ المراد بالأرض في الآية جهتها فواضح كما مرّ، وأما على أنّ المراد بها هذا الجسم، فلأنّ خلق ما فيها قبل السماء مشعر بخلقها قبل السماء، لأنّ المتبادر أنه خلق ما في الأرض، وجعل الأرض مستقرة، لا أنه مخلوق في الهواء ثمّ جعل له الأرض مستقرا، وإنما استفدنا الأرض من لفظة ثم، لأنها للترتيب والانفصال ولا يشكل على ذلك قوله تعالى: (والأرض بعد ذلك دحاها) أي بعد خلق السماوات، لأنّ المتأخر عن خلق السماوات إنما هو دحوها، أي يبسطها، فالله - جلّ وعلا - خلق الأرض مكورة، ثمّ خلق سبع سماوات، ثمّ بسط الأرض، وإن قلت لا يلائم بحسب العادة وما يظهر لنا أن يخلق لنا ما في الأرض وهى كرة. قلت هو منكر ممكن لعظمها فكوريتها لا تمنع من تمكن الأشياء عليها، ويمكن عود الإشارة في قوله: (بعد ذلك) على وصف السماء، وهو تسويتها سبع سماوات، فجرم الأرض مقدم على جرم السماء، ووصف السماء وهو تسويتها سبعاً، مقدم على وصف الأرض وهو بسطها، وهذا يناسبه أن تجعل السماء في قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إلىَ السَّمآءِ) في فضله جسما علويا. موجودا بعد خلق الأرض في غلظة سبع سماوات، دحا الأرض بعد فتقه سبعاً." وبعد أن استعرض أقوال المفسرين قال: "والتحقيق ما ذكرته لك أولا من أنّ الأرض قبل السماء، وبسط الأرض بعد تسوية السماء جميعاً بين الآيات." 


و أخيرًا في تفسير ابن عرفة هناك فرضية إجابة لهذا السؤال الكبير وأنقله لك للفائدة: "و يمكن أن يقال: "خُلِقت السماوات والأرض ملتصقة، ثمّ خلقت الأرض ودحيت، ثمّ فصلت السماوات وصيرت سبعا والله أعلم؟"


كما ترى أكثر المفسرين أخذا بظاهر القرآن أنّ الأرض مخلوقة قبل السماوات، فمن أجل ذلك أشكل عليهم قول الله سبحانه وتعالى: (والأرض بعد ذلك دحاها) وإلا لو كان ظاهر القرآن أنّ السماوات قبل الأرض لما وجدوا أنفسهم بحاجة إلى التوفيق بين الآيات ودفع إيهام الاضطراب بينها. واعلم أنّ هذه الآيات تضرب ضربة قوية لما يقوله العلم المعترف به اليوم، وهو أنّ الأرض نشأت قبل أربعة ونصف مليار سنة وأما الكون فنشأ قبل قرابة أربعة عشر مليار سنة، فكيف يستقيم هذا مع ظاهر القرآن الكريم والأخبار النبوية وأخبار الصحابة والتابعين والعلماء بشتى طوائفهم والمنطق والعقل السليم؟ حقا إنّ بعض منا قبل أن يفقه ما اختاره رأيا وعقيدة آمن بما تمّ طرحه من غير فحص وتحقيق، وكما أقول دائما، من لم يؤمن بالله وبكلامه فلابدّ أنه آمن بشيء غيره، ولابدّ ولا مفرّ من ذلك. 



عبدالعزيز النظري

تويتر

انستغرام