السلام عليكم ورحمة الله و بركاته, هذه هي المشاركة الثالثة التي أكتبها في
استخراج بعض معاني (بسم الله الرحمن الرحيم). من لم يقرأ المشاركات السابقة أنصحه
بقراءتها قبل قراءة هذه المشاركة فإن ما سأكتبه في هذه المشاركة له علاقة
بالمشاركة السابقة. وعودة على بعض الحكم في ذكر اسم الله "الرحمن" و
"الرحيم" في البسملة أقول هناك حكمة أخرى من وجود اسم
"الرحمن" و "الرحيم" في البسملة قد ذكرت بعضا منها من قبل ولكن
لا مانع أن أضيف بعض المعاني. هناك معنى لطيف ذكره الشعراوي رحمه الله في تفسيره,
أنقله كما كتبه ومن ثم سأضيف عليه. و أنا أنقل كلام الشعراوي هنا مع بعض التصرف
لأنه تفرّد به ولم أجد فيما قرأت من تفسير من تطرّق لهذا المعنى في البسملة فلهذا
أحب أن أنقله.
قال الشيخ الشعراوي رحمه الله: " بعض الناس يتساءل كيف أبدأ بسم الله. . وقد عصيت وقد خالفت. . نقول اياك أن
تستحي أن تقرأ القرآن. . وأن تبدأ بسم الله إذا كنت قد عصيت. . ولذلك أعطانا الله سبحانه
وتعالى الحيثية التي نبدأ بها قراءة القرآن فجعلنا نبدؤه باسم الله الرحمن الرحيم.
. فالله سبحانه وتعالى لا يتخلى عن العاصي. بل يفتح له باب التوبة ويحثه عليها. . ويطلب
منه أن يتوب وأن يعود الي الله. . فيغفر له ذنبه، لأن الله رحمن رحيم.. فلا تقل أنني
أستحي أن أبدأ باسم الله لأنني عصيته. . فالله سبحانه وتعالى يطلب من كل عاص أن يعود
الي حظيرة الايمان وهو رحمن رحيم. . فاذا قلت كيف أقول باسم الله وقد وقعت في معصية
أمس. . نقول لك قل باسم الله الرحمن الرحيم. . فرحمة الله تسع كل ذنوب خلقه. . وهو
سبحانه وتعالى الذي يغفر الذنوب جميعا. الله سبحانه وتعالى
يريد أن نتذكر دائما أنه يحنو علينا ويرزقنا. . ويفتح لنا أبواب التوبة بابا بعد آخر.
. ونعصي فلا يأخذنا بذنوبنا ولا يحرمنا من نعمه. . ولا يهلكنا بما فعلنا. ولذلك فنحن
نبدأ تلاوة القرآن الكريم بسم الله الرحمن الرحيم. . لنتذكر دائما أبواب الرحمة المفتوحة
لنا. . نرفع أيدينا إلى السماء. . ونقول يا رب رحمتك. . تجاوز عن ذنوبنا وسيئاتنا.
وبذلك يظل قارئ القرآن متصلا بأبواب رحمة الله. . كلما ابتعد عن المنهج أسرع ليعود
اليه. . فمادام الله رحمانا ورحيما لا تغلق أبواب الرحمة أبدا"
وهذه الحكمة التي ذكرها الشيخ الشعراوي رحمه الله من أجمل ما قاله عند شرحه
لبسم الله الرحمن الرحيم ولكن بالرغم من ذلك أقول بأن المعنى ناقص نوعا ما. وسبب
هذا النقص هو أن الشعراوي رحمه الله كغيره من المفسرين كان لهم تفسير واعتقاد مسبق
لمعنى اسم الله "الرحمن" أما إن فهم من اسم الله "الرحمن"
شيئا مما ذكرته لوجد حكمة قد تكون دقيقة. فما قاله الشيخ الشعراوي اجابة لسؤال:
"ما الحكمة من كون اسم "الرحيم" في البسملة" و كنت سأجيب بمثل
ما قاله الشيخ الشعراوي إن كان السؤال عن الرحيم فقط, لكن السؤال يشمل أيضا الجزء
الآخر, ما الحكمة من ذكر اسم الرحمن؟ أقول والله أعلم بأن من سنة الله في كتابه
أنه يذكر بعد الوعيد الوعد, أو بعد العقاب الرحمة والعكس كذلك, فمثل هذا أيضا يقال
في البسملة, فبعد أن ذكر اسمه المعروف بالهيبة والعظمة والملك و الذي يدل على
ربوبيته وسيطرته على كل شيء وإحاطته بكل شيء ذكر الاسم الآخر ألا وهو
"الرحيم". فأنت عندما تبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم كما أنك لا تقنط من
رحمة الله و إن عصيته, فإنك كذلك لا تتعدى حدودك بل تخشاه, فإن قرأت فأنت تعلم بأن
قراءتك قد تكون سببا لهلاكك إن لم تخلص النية وتخشى الرحمن بالغيب. فعندما تبدأ
بسم الله الرحمن الرحيم كأن قلبك يعرج إلى السماء على جناحين, جناح الرهبة و
الرغبة, فبدون الخشية و الرغبة و الحب لن تصل إلى الله و لن تستقيم. بيان ذلك أنك
قد تحب إنسانا لكن لا تخشاه بل أحيانا تتمرد عليه, وهذا التمرد قد تنجو منه في
تعاملك مع المخلوق, لكن هذا التمرد لن يرجع إليك إلا بالخسارة في تعاملك مع الله
فكما أن الله ليس كمثله شيء فكذلك تعاملك مع الله ينبغي أن لا يكون كتعاملك مع
خلقه, فأنت تستحضر هذه المعاني قبل شروعك بأمر ما لتستقيم. أرجو أن تفهم هذا فإن
هذا يفتح لك بابا عظيما من أبواب المعرفة, معرفة بعض ما في "بسم الله الرحمن
الرحيم" من المعاني العميقة والدقيقة التي قد تنفعك في حياتك وبعد مماتك
والله أعلم.
ومن حكم كون اسم "الرحمن" و "الرحيم" في البسملة هو أن
من مقتضيات و لوازم اسم الله "الرحمن" هداية الخلق, فإني كما قلت لكم
سابقا بأن اسم الرحمن كالأصل لجميع صفات الربوبية من خلق وإبداع و تصوير وتسوية و
سيطرة و هداية و استجابة دعاء و ما إلى ذلك, كل هذا من لوازم اسم الله
"الرحمن" ويحصل على هذا المؤمن و الكافر, الإنسان و غير الإنسان ومن
معاني الرحمن أن يرسل الرسل و ينزل الكتب هداية للناس. فالرب الذي لا يستجيب
الدعاء ولا يعطي و لا يقدر لا يرزق لا يكون ربا, وهذا ليس بحاجة إلى بيان فهو واضح
في آيات كثيرة من آيات القرآن. فإنزال القرآن والكتب السابقة لازم من لوازم اسم
الله "الرحمن". وهذا الإنزال, و هذه الدلالة في حد ذاتها رحمة, لأن
الانسان يتعلّم من القرآن ويفهم ما ينفعه و ما يضره في الدنيا والآخرة ولولا هذه
الهداية لضل ضلالا بعيدا. فإنزال القرآن كما أنه من لوازم اسم الله
"الرحمن" فإنه من نتائج كون الله: "الرحيم" ولذلك قرن الله
بين الاسمين أو ما يتفرع منهما من أسماء في مواضع متعلقة بتنزيل القرآن, مثال ذلك:
((تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)) و قال ذاكرا الرحمن: ((قَالُوا
مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ
إِلاَّ تَكْذِبُونَ)) وقال في موضع آخر ((تنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ
وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وقال ((تنزيل
العزيز الرحيم)) فالرحمن كما كتبت سابقا يدل على اسمه العظيم و العزيز و
الجبار و المتكبر...الخ
ثم إن كون اسم الله "الرحيم" في البسملة يُذكّر المؤمن برحمة الله
في كل أمر يريد أن يبتدأ فيه, فأولا كون القرآن هداية و رحمة للناس فكذلك سور
القرآن الكريم, لن تجد سورة تخلو من معاني الرحمة, من أول سورة إلى آخر سورة كلها
تتضمن الرحمة صراحة أو بطريقة غير مباشرة ستجدها مع قليل من التدبر. القرآن مجملا
و مفصلا من فيض رحمة الله, و لكن سورة التوبة السورة الوحيدة التي لم تبتدأ
بالبسملة وقد تكلم الناس في سبب ذلك و أتوا بأجوبة كثيرة سأتعرض لها إن شاء الله
في موضعها. وأيضا
من الحكم في ذكر اسم الله "الرحيم" في البسملة يشعر و كأن الرحمة هي أخص
صفة من صفات الله (إن جاز التعبير), فالله عظيم و عزيز و قوي و كبير و ملك وعلي و
قدير و غفور و تواب و غير ذلك ولكن كأن أخص صفة أو أشهر صفة يعرف بها الله سبحانه
وتعالى هي الرحمة وقد ذكرت بأن الرحيم مثل الأصل لصفات الجمال التي سبق و شرحتها. قد تقول أيها القارئ, فهمنا أن القرآن رحمة, فما بال المسلمين يقولون:
(بسم الله) قبل الأكل و قبل بدء العمل وما إلى ذلك؟ للإجابة أقول سبب ذلك أن رحمة
الله لا تنفك عن الإنسان طرفة عين إلى أن تنتهي حياته.
فإن كنت أكفر خلق وأفسقهم (والعياذ بالله) فإن رحمة الله لا تنفك عنك في
حياتك, فإنه خلق الهواء الذي تتنفسه وخلق الأعضاء اللازمة لعملية التنفس بل أوجدك
من العدم بل إنه يسّر لك كل ما تحتاجه قبل أن تولد وهيأ لك ذلك. تخيل معي بأنك
غادرت بلدك و توجهت إلى دولة أجنبية, ثم بمجرد وصولك إلى هذه الدولة وفي المطار
وجدت حظيت باستقبال عظيم فوجدت من ينتظرك و آخر يرحب بك و ثالث يهنئك على وصولك
سالما وسائق يخدمك فيأخذك في جولة في المدينة أو يوصلك إلى الفندق الذي ستنزل فيه
خلال سفرتك هذه. و وجدت هذا الفندق فيه جميع المستلزمات من طعام و شراب و سرير و
حمام وغير ذلك وكل هذا حصلت عليه من غير أن تطلبه أنت! كيف سيكون شعورك؟ لا شك بأن
قلبك سيمتلئ فرحا وامتنانا وشكرا لمن رحّب بك وسهّل لك كل ذلك. فكذلك الله ولله
المثل الأعلى, هيأ لك كل شيء قبل أن تُخلق فهيأ في بطن أمك رحما تعيش فيه آمنا لفترة
و يصلك الغذاء خاص و من ثم هيأ لك أما وأبا يستقبلونك وأنت خارج من بطن أمك غير
الأطباء وأفراد العائلة وكل منهم له ترحيبه الخاص بك, و من ثم تحصل على الرعاية و
الهداية المطلوبة للبقاء, وسخر كل ما في السماء و الأرض للإنسان قبل أن يخلقه, كل
ذلك من أثار رحمة الله و كل ذلك من موجبات الحمد فلا تستغرب أبدا عندما تقرأ أولا
فتجد أول آية بعد البسملة: ((الحمدلله رب العالمين))
لست لغويا ولكن لا بأس من ذكر ملاحظة لاحظتها, أولا الرحيم اسم مشتق من
الرحمة و اشتقت من الرحمة الرحم و هو موضوع تكوين الجنين في بطن أمه. إن تأمّلت
هذه الأحرف ر-ح-م رحمن رحيم أرحام رحم ستجد شيئا مشتركا بين هذه الأسماء و
المعاني, و هذا الشيء المشترك القرب والصلة, فالجنين في رحم أمه متصل بها,
والأرحام الأقارب وكذلك رحمة الله كأنها رحمة متصلة بالخلق كلهم لا تنفك اتصالها ولكن
الذي يتغير متعلقات الرحمة, وكأن المخلوقات كلها موصولة بخيوط رحمة الله وتتغير
سمك هذه الخيوط بتغير المخلوقات, فالإنسان هو إما أن يقطع هذا الخيط الواصل إليه
أو هو الذي يجعله أعظم سمكا بأعماله. فكما قلت إن الله أمدك بالرحمة فأنت عندما
تتذكر هذا المدد تحمد الله و تحاول أن تمد أنت كذلك بينك و بين مخلوقات الله خيطا
يكون كصلة بينك و بينهم و هذه الصلة هي الرحمة. وبما أن رحمة الله وسعت كل شيء و
وصلت كل مخلوقاته فكذلك رحمتك ينبغي أن تصل كل ما تقابله سواء كان إنسانا أو حيوانا
أو نباتا, وصدقني إن أنت كنت كذلك لكنت عبدا ربانيا يغبطك الصديقون قبل الصالحون
أسأل الله أن يجعلنا منهم. ولعل ما ذكرت شيء من معاني كون اسم الله:
"الرحيم" في البسملة, ليتذكر رحمة الله و ليكون الرحمة أساس تعامله مع
الخلق و أساس كل شيء يريد أن يقوم به وهذه الأمثال فقط لتقريب الصورة لا أكثر و
الله سبحانه وتعالى أعلم.
No comments:
Post a Comment