Friday, December 5, 2014

على ساحل القرآن - بسم الله الرحمن الرحيم - الجزء الرابع




السلام عليكم ورحمة الله و بركاته, المشاركة الرابعة لاستخراج بعض الحكم من (بسم الله الرحمن الرحيم). وفي المشاركات السابقة فصّلت قليلا عن بعض أسرار ذكر اسم "الرحمن" و "الرحيم" في البسملة, ولكن ماذا عن الترتيب؟ لماذا بدأ الله سبحانه البسملة باسم "الله" و من ثم "الرحمن" و أخيرا "الرحيم"؟ فمن بعض الحكم في هذا الترتيب أن العرب قديما و إلى اليوم عندما يذكرون شيئا له عدة أسماء و ألقاب فإنهم يبدؤون بأشهر و أخصّ الأسماء لهذا الشيء, فكذلك يمكن أن يُقال ذلك هنا ولله المثل الأعلى. اسم "الله" كما ذكرت في المشاركات السابقة الاسم العلم الأخص لله سبحانه وتعالى, وهو الاسم الجامع والدال على جميع الأسماء و الصفات. ومثل هذا معروف و نفعله إلى اليوم حتى مع علماء و أئمة الإسلام. مثلا, عندما يخبرون عن عالم من العلماء فإنهم يبدؤون بأشرف لقب كما يفعلون مع ابن تيمية و أبو حامد الغزالي. يقولون شيخ الإسلام الإمام المفسر الفقيه...الخ ابن تيمية, و الغزالي فإنهم يذكرون أشرف لقب فيقولون حجة الإسلام الإمام الفقيه الأصولي الفيلسوف...الخ الغزالي. ولكن الموضوع يختلف مع أسماء الله فإني لا أستطيع أن أقول أي اسم أشرف من الآخر لأنه ليس لدي دليل أعول عليه فلذلك قلت أخصّ الأسماء و أشملها. فاسم الله جامع لاسم و معاني اسم الرحمن و اسم الرحمن يدل و جامع لمعنى الرحيم بخلاف بقية أسماء الله كالعزيز أو الغفور وغيرها من الأسماء, هذه واحدة.

أما السبب الثاني و الله أعلم فكما قلت من قبل أيضا, اسم الله خاص بالألوهية نوعا ما, و اسم الرحمن خاص بالربوبية و اسم الرحيم بالصفات (إن جاز التعبير) أو متعلقات هذه الأسماء. والغاية و الهدف الأساسي من الخلق بعد معرفة الله هو عبادته. قال الله سبحانه و تعالى: ((وَمَا خَلَقْت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) أما كيفية العبادة و هذه الأمور فتفصيل ذلك في موضع آخر. فالهدف الأسمى من الخلق عبادة الله, فأنت ربما تعرف الرب و لكن لا تعبده, هل ينفعك ذلك؟ لن ينفعك هذه المعرفة بل ستكون هذه المعرفة حجة عليك, فإن عرفت بأنه رب العالمين و أنه الخالق الرازق وما إلى ذلك عرفت بأنه الوحيد المستحق للعبادة. ولن تستطيع أن تعرف هذه الأمور إلا بعد النظر في مخلوقات الله سبحانه وتعالى (أي آثار أسماء الله الحسنى). فالإنسان الذي يبحث عن الحق ما الذي يفعله, يتأمل ما حوله من المخلوقات و من ثم يتفكّر فيها, وبعد هذا التفكّر إن كان سليم الفطرة و التفكير فإن التفكّر في هذه المخلوقات سيدفعه إلى الإيمان بأن هناك ربا عظيما فوق كل شيء و بالتالي بعد معرفة هذا الرب سيعبده إن سبقت له من الله الحسنى. ومن تدبر هذا المعنى و شعر بهذا المعنى اللطيف في (بسم الله الرحمن الرحيم) لن يملك إلا أن يقول: "سبحان الله!" و سيخامره شيء في قلبه بأن ما في القرآن ليس بمقدور بشر والله أعلم.

وهناك سبب آخر من هذا الترتيب البديع في البسملة لأسماء الله سبحانه وتعالى لم أجده في كتاب تفسير قرأته ولكني وجدته في كتاب محمد بن أبي بكر الرازي صاحب "أسئلة القرآن الكريم و أجوبتها" أنقلها لكم للفائدة, قال الشيخ رحمه الله: "إنما قدّمه (أي اسم الله) لأن لفظ الله اسم خاص بالباري تعالى. لا يُسمى به غيره, لا مفردا و لا مضافا فقدّمه. والرحيم يوصف به غيره مفردا و مضافا فأخّره. و الرحمن يوصف به غيره مضافا ولا يوصف به مفردا إلا الله تعالى, فوسّطه" وهذا في الحقيقة معنى لطيف لم يخطر في بالي ولا أظنه خطر في بال كثير من المفسرين فرحمة الله عليه.

أما عن الحكمة من البسملة أقول بأنك ابتدأت بذكر أهم شيء عندك و تبرّكت به و استعنت به, فلم تبدأ أعمالك بذكر محبوب لك من المخلوقات و لا استعنت بملك من ملوك الدنيا أو أخ قريب و غير ذلك. وكأنك بعد أن استعذت بالله من الشيطان الرجيم طهّرت قلبك وصفّيته من كل الأغيار و بالبسملة أثبت بأنه ليس في قلبك غير الله سبحانه و تعالى وقلبك معلق به وحده و تستعين به وحده و تعترف بأنه كل شيء يقع منه و كل شيء تفعله فهو له وهذا نوعا ما يذكرك بكلمة التوحيد: "لا إله إلا الله" فأنت أولا تنفي وجود آلهة تستحق أن تعبد بقولك "لا إله" و بعد أن نفيت أثبت "إلا الله" و هكذا في البسملة بعد أن طهرت قلبك بالإستعاذة أولا أثبت ذكر الله بالبسملة ثانيا. كم نجد من النصارى اليوم و حتى بعض المسلمين المهزومين روحيا و فكريا من قبل الغرب كل ما يحدث أمر اثار استغرابهم أو دهشتهم أو خافوا منه أو يتشكون ما الذي يقولونه؟ Oh Jesus! وهذا بمعنى "يا عيسى" وأحيانا تجدهم يقولون Oh Jee اختصارا لنفس الكلمة وبعض نصارى العرب يقولون بسم المسيح  وهكذا انظر للمتدين في الديانات الأخرى تجدهم أحيانا يذكرون أسماء ألهتهم التي يعبدونها من دون الله ولكن في الإسلام الأمر مختلف, نفتتح بذكر أسماء الله الحسنى "الله, الرحمن, الرحيم". وهناك فائدة أخرى في ذكر أسماء الله الثلاثة: "الله, الرحمن, الرحيم" في البسملة, لماذا لم يقل بسم الرب؟ لماذا هذه الأسماء؟ أقول لكي لا يتوهم السامع ويخلط بين الرب الواحد الأحد الصمد و بين الأرباب الذين عبدوا من دون الله, فإن للمسلمين رب و للنصارى رب و للهندوس رب...الخ فبسم الله الرحمن الرحيم يوضح من هذا الرب الذي يقصده المسلمون.

ومن حكم البسملة هو أنك عندما تبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم كأنك تجعل الله الرحمن الرحيم في جانبك (إن جاز التعبير و أقصد بذلك للتقريب لا أكثر وأعوذ بالله من هفوات اللسان). فإن كان الله معك فماذا فقدت؟ و إن لم يكن الله معك فماذا معك؟ وأيضا إن كنت ستبدأ عبادة ما أو بحاجة إلى موعظة أو أنك ستعظ الناس وغير ذلك فما أجمل أن تبدأ بالاسم الدال على وحدانية الله. وإن كنت ستخوض معركة ما و إن كان خصمك جبار عنيد أو إنسان ذا منعة و قوة فكأنك استعنت بمن هو أقوى منه و اسمه أكبر و أعظم هيبة وجندا و هو الرحمن عز و جل, وأما إن كان الطرف الآخر بحاجة إلى رحمة و شفقة و عطف منك فاستعنت بالله ليملأ قلبك بالرحمة فترحمه كما رحمك الله. وصدقني إن أنت عرفت هذه الأسماء الثلاثة حق المعرفة لوجدت السعادة و الطمأنينة و راحة البال فقط لو استحضرت بعض هذه المعاني. فمن أفضل و أقوى وأرحم منك من البشر إن استلهمت هذه المعاني وعملت بمقتضاها إلا إنسان قال مثلك و زاد عليك. نجد اليوم أناسا يفتخرون و يتكبرون على خلق الله فقط لأنهم يعملون عند ذوي السلطان أو الإمارة أو أصحاب المناصب, فيقول متبجحا: "أنا أعمل في إدارة كذا الذي مديره هو فلان بن علان" وهذا شيء مؤسف و مضحك في نفس الوقت, ولكن المسلم يقول و يبتدأ وينتسب إلى الله سبحانه وتعالى, فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم, إن كنت تعتز بفلان و علان فأنا أعتز بالله سبحانه وتعالى رب العالمين والرحمن المهيمن على كل شيء الحي القيوم سبحانه و الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء فأي فخر أعظم من هذا وأي قوة بشرية ستهزمك إن أنت استعنت به وتبرّكت بذكر اسمه الأعلى واعترفت بأن البداية منه و إليه المنتهى؟

وهناك حكمة أخرى من البسملة في بداية كل سورة لم أجدها إلا عند الشيخ حسن الترابي في تفسيره "التفسير التوحيدي" حيث قال ما في معناه بأن الحكمة من ذلك عملا بوصية مستوحاة من أول ما نزل من القرآن, قال الله سبحانه و تعالى: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)) وقال فيما قاله: "أن اقرأ بسم ربك الذي خلق الإنسان منذ أول نشأته في الحياة, وكرّمه وعلمه بالقلم ليتلقى علم الكتاب" أقول هذا معنى لطيف و دقيق لم أجده في كتاب تفسير آخر فيما أذكر إلا عند الشيخ حسن الترابي, وخاصة إن كانت الآية المذكورة هي فعلا أول ما نزل من الكتاب العزيز, هذا والله أعلم. و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته...

No comments:

Post a Comment