ما هي أسباب إكثار الله من ذكر السماوات والأرض؟ لماذا؟ إن أردت أن تعرف رأيي فإني أرى أنّ السماوات والأرض هي ما نسميه اليوم ”الكون“، أو حيث ”الدراما الإنسانية“ الدنيا فيها. و إني أجد هناك فرقا بين: "السماوات والأرض" و" السماوات السبع" و"السماء" و "جو السماء" و"الأرض" وسآتي في هذه المدونة على تفصيل بعض ما ذكرت، لكن من دون الإطالة، فإنّ الموضوع عميق وبحاجة إلى فهم دقيق. قد تتساءل: ما مستند قولي إنّ السماوات والأرض يعني الكون أو الذي فيه كلّ شيء، وليس بالضرورة يشمل جميع الموجودات؟ للإجابة على السؤال عليك متابعة القراءة.
عندما تجد (السماوات والأرض) مجتمعة في القرآن فإن المقصود فيما يتبادر إلى ذهني هو ”الكون“ على حسب مصطلحنا اليوم مع تحفظي على هذا المصطلح. وإن وجدت (السماوات السبع) من دون الأرض فالمقصود به ما يعلو الأرض من الطبقات السماوية أو الطرائق أو الكواكب التي في طرائقها و سآتي على تفصيل السماوات السبع في فصل خاص لها. و عندما تقرأ (السماء)، فقد يكون المعنى مطلق العلو، وقد يكون المعنى السماء الأولى أو الدنيا أو السماء الفاصلة أو السقف الذي يحمل فوقه ما يحمل من المخلوقات، أو التي فيها بعض الأوامر الإلهية مثل المطر والعذاب والوحي وما إلى ذلك. و عندما تجد (جو السماء) في القرآن فهو ما بين السماء الأولى أو الدنيا والأرض، أو الفاصلة بين السماء السقف والأرض حيث تطير الطيور، وتُحلّق الطائرات وفيها السحاب، وما إلى ذلك. أما (الأرض) فإما المعنى يكون جزءًا من الأرض أو قطعة أو بمعنى الجانب السفلي من الوجود الكوني.
دعني أستعرض على وجه السرعة بعض الآيات، لأوضّح لك الفرق، فإن القرآن هو الكتاب المبين، وهو المنير الذي نستنير به ما انغلق علينا فهمه، والقرآن كما قيل يُفسّر بعضه بعضا.
السماوات و الأرض
عندما تجد آيات يتكلم فيها ربّ العزة عن الوجود أو (الكون) فدائما يقرن السماوات والأرض، لا يذكرها منفصلة لتدلّ القارئ على أنّ الاسم الصحيح للكون هو السماوات والأرض، وليس (الكون) كما تعارفنا عليه اليوم. وهذا الذي نحن نسميه الكون فيه جزءان، الجزء أو الحد العلوي والجزء و الحد السفلي. هذه الآية من سورة الحديد: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) {الحديد ٤} و التي تشبهها المقصود بالسماوات و الأرض ما ذكرته. و إليك المزيد من الآيات التي تشير صراحة إلى أن الوجود بمعنى (الكون) المتعارف عليه اليوم يُطلق عليه في القرآن (السماوات والأرض)، اقرأ:
(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) {هود ١٢٣}
(قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ۗ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ۚ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) {الرعد ١٦}
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) {إبراهيم ٣٢}
(قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) {الإسراء ١٠٢}
(خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) {العنكبوت ٤٤}
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) {الزمر ٣٨}
(إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) {الحجرات ٤٩}
(وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) {الكهف ١٤}
(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) {البروج ٩}
(وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) {الروم ٢٦}
(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) {الفتح ٧}
هناك آية عظيمة جدًّا في سورة البقرة، تبين لنا الفرق بين (السماوات و الأرض) و بين (السماء) و بين (الأرض) بجلاء وهي: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))
إن تأملت -عزيزي القارئ- في الآية ستجد في بدايتها ذِكر خلق (السماوات والأرض) والمقصود بها الوجود الذي سميته سابقا (الكون) بشقيه العلوي والسفلي، السماوات والأرض، أو بمعنى آخر قد يسهل عليك تخيّله أو فهمه ”الفقاعة الكونية“ أو ”البيضة الكونية“. ثمّ ذكر سبحانه و تعالى بعدها (و ما أنزل الله من السماء من ماء) فهنا المقصود بالسماء، السماء التي تعلونا، الجانب العلوي من الوجود ثم ذكر الأرض (فأحيا به الأرض) الجانب السفلي. ثمّ ذكر أخيرا (و السحاب المسخر بين السماء والأرض) بمعنى جو السماء، أو الذي بين السماء الدنيا والأرض. راجع وتأمل في الآية ستجد إن شاء الله أنّ هذا الفهم هو فهم دقيق وعزيز وأقرب أن يكون هو الصواب.
كذلك في سورة إبراهيم، نجد ذِكر خلق السماوات و الأرض (الوجود بمجموعه) ثم ذِكر السماء الدنيا (الحد العلوي)، أرجو أن تقرأ الآية بتأنٍ: ((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْأَنهَارَ)) {إبراهيم ٣٢} و كذلك في سورة النمل على نفس النمط: ((أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ)) {النمل ٦٠}
إذن تحصّل لدينا مما سبق أن (السماوات و الأرض) عندما تقرن بفاصل تعني شيئا و عندما تجد السماء وحدها المعنى يختلف فما معنى السماء؟
السماء
كما ذكرت، المقصود بها السماء (البناء) أو (السقف) الذي فوقنا والذي تحت السماوات العلى. قال الله عز و جل عنها: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) {البقرة ٢٢} وقال تبارك اسم ربنا ذي الجلال و الإكرام: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ) (الأنبياء ٣٢} وقال و قوله الحق: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) {ق ٦} وقال: (فَإِذَا انشَقَّتْ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) {الرحمن ٣٧} وقال: (وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ) ){الحاقة ١٦} و قال (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا) {الفرقان ٢٥} وقال: (وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ) {المرسلات ٩} وقال: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا) {النازعات ٢٧} وقال: (إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ) {الانفطار ١} وقال: (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ) {الانشقاق ١} هذه الآيات المذكورة لا تتكلم عن السماوات العلى بل السماء البناء الذي كالسقف فوقنا.
قال الله الرؤوف الرحيم: (أَلَمْ تَر أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) {الحج ٦٥} المقصود بالسماء هنا (السقف) الذي فوقنا و فوق (جو السماء) وهو (السماء البناء) و أما الأرض المقصودة بها في الآية ليس جميع الأرض ولكن الأرض (اليابسة) وليس المقصود بالأرض كل ما في الجانب السفلي من الكون بقرينة ذكره البحر.
و هذا السماء البناء كالسقف له أبواب، اقرأ قول الله سبحانه وتعالى: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنْ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) وقال عز وجل: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ) وقال سبحانه: (وَفُتِحَتْ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا) وشيء منطقي أن يكون للبناء أبواب بعكس الفضاء إذ لا يُتخيّل الأبواب في الفضاء. انتبه، هذه الأبواب لا يمنع أن تكون كذلك في السماوات العلى فلا تفهم من كلامي أن الأبواب فقط في السماء الدنيا أو السقف. وفي الحديث النبوي هناك الكثير من الأحاديث التي تثبت وجود أبواب السماء ولكن الأبواب دائما عندما تُذكر في القرآن يكون لها علاقة بالسماء السقف التي تعلونا.
و أما السماء بمعنى أنها مصدر الأوامر الإلهية والأفعال الربانية من الإنعام والعذاب والوحي وما إلى ذلك فاقرأ إن شئت هذه الآيات: في سورة البقرة نجد: ((فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) {البقرة ٥٩} وفي سورة النساء نجد: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا) {النساء ١٥٣} وفي سورة الأنفال: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) {الأنفال ٣٢} وفي سورة هود: ( (وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) {هود ٥٢} وفي سورة غافر: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) {غافر ١٣} وفي سورة الشعراء: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) {الشعراء ٤} وفي سورة نوح: (يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) {نوح ١١}
جو السماء
هو الفاصل بين السماء السقف وبين الأرض، اقرأ قول الله عز وجل في سورة النحل: (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وقال الله المَلِك الحق في سورة الملْك: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ۚ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَن ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ). هذا الجو هو المكان الذي بإمكان الإنسان التحليق فيه والوصول إليه وفعل ما يشاء فيه وليس هو السماء (السقف) المحفوظ وليس ما فوق السقف من السماوات العلى.
الطائرات والصواريخ والأقمار الصناعية إن سلّمنا بوجودها فإنها هنا في هذا الجو المُسمى بجو السماء. وكذلك السحب هي مُسخّرة في هذا الجو، تأمل قول الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) قال بين السماء والأرض، هذا البين هو الجو أو (جو السماء) أو المجال الذي يمكن للبشرية أن يتدخل فيه ويُحلّق فيه وما إلى ذلك. ولهذا لن تجد الطير يُحلق في السماوات السبعة، ومن أجل هذا لم يقل السحاب المسخر بين السماوات والأرض إنما قال بين السماء والأرض ليعرف الإنسان المُتدبّر كتابه الفرق.
أما العلو بشكل عام فقال الله عز وجل في سورة إبراهيم: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) وكذلك في سورة الحج: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ) وكذلك مطلق العلو في سورة الملك نجد قوله سبحانه وتعالى: (أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) )
السماوات السبع
السماوات السبع قد يكون لها عدة معانى بمعنى الطرائق أو السماوات العلى أو الكواكب وما إلى ذلك، اقرأ قول الله عز وجل في سورة البقرة: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وقال في سورة لقمان: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) فهنا السماوات لا تعني الكون كله بقرينة فصلها عن الأرض، وليست هي السماء الدنيا فقط بدليل ذكره سبحانه و تعالى السماوات. السماوات المذكورة في هذه الآية المقصود بها الطبقات العليا أو السماوات العلى أو الطرائق العليا وسأعطيك تفصيلا أكثر عن السماوات السبعة في فصل خاص لها إن شاء الله، المقصد هنا ذكر بعض الآيات على عجل لتنبيهك أن هناك فرقا.
أريدك أن تقرأ هذه الآيات بتمعّن: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) {الزمر ٦٧} الأرض هي الجانب السفلي والسماوات الجانب العلوي. وكذلك في سورة الحج: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) {الحج ١٨}.
فإن قلت إن كان كلامك صحيحا وأن المقصود بالسماوات والأرض (الكون) كما اصطلحنا على تسميته في لغتنا الحديثة، فلماذا نجد في كثير من الآيات السماوات و الأرض (وما بينهما) وما الفرق أو ما المقصود (وما بينهما)؟
في كثير من الآيات نجد الله سبحانه وتعالى يذكر وما بينهما، في الحقيقة، الحِكَم وراء ذلك لا تدركه العقول إنما نحن نتطفّل على ساحل بحر الحِكَم المكنونة في كتاب الله العزيز… قال الله عز وجل (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ) وقال : (قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) وقال: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) وقال: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) وقال: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا) وغيرها من الآيات.
كل آية من هذه الآيات بحاجة إلى دراسة بلاغية ومحاولة جادة لكشف أسرارها، فيما بدى لي بعد الدراسة، إن قول الله سبحانه وتعالى (وما بينهما) فيه عدة فوائد، الفائدة الأولى أن الأرض تساوي أو تعادل السماوات ولهذا فإنه يقول وما بينهما. ولو كانت الأرض صغيرة جدا كالذرة مقارنة بالسماوات فكيف يصح أن يُقال وما بينهما؟ فحينما يقول (بينهما) أي أن الجانب العلوي يساوي الجانب السفلي أو على أقل تقدير قريب جدا من حجم بعضهما البعض، إذن يصح التباين والتطابق الوجودي.
و فيما ذكرت رد صريح على القائلين بأن الأرض كالذرة تسبح في هذه المجرة وأن السماوات تحتويها أو لنقل الفضاء، فإن كانت الأرض داخلة في الفضاء أو السماوات فكيف يصح أن يُقال السماوات والأرض وما بينهما والأرض هي داخلة في السماوات أصلا؟ انتبه أرجوك فإن هذا أمر مهم جدا، إذ لا يستقيم بلاغيا وليس معهودا عند العرب. ثم اعلم إن الله رب العرش العظيم كثيرا ما يذكر المتقابلات في كتابه فيقول الجن والإنس، المشرق والمغرب، الشمس والقمر، الليل والنهار وكذلك السماوات والأرض، فلو لم تكن الأرض متقابلة مع السماوات لِمَ أكثر من ذكرها متقابلتان؟ هذه واحدة
أما الثانية، فالآيات التي فيها ذكر السماوات والأرض وما بينهما نفهم منها أن (و ما بينهما) مخلوق لله، بمعنى أن الذي يقولونه اليوم أن السماء فضاء ليس بصحيح إذ الفضاء فراغ لا شيء، وتعالى الملك الحق أن يخلق لا شيء أو فراغ، ما خلق الله السماوات والأرض لعبا ولهوا بل كل شيء له حكمة. و مثل هذه الآيات، يصح الاستشهاد بها على من يرد على الملاحدة الذين يفهمون نظرية التطور بطريقة سيئة، فيقولون ما الحاجة إلى وجود الإله ونظرية التطور هي القائمة، فمثل هذه الآيات التي فيها خلق - و ما بينهما - فيه رد قوي على أمثالهم.
و الثالثة أن (و ما بينهما) المقصود به هذا الفاصل العظيم الذي فصل به الله السماوات عن الأرض (السماء السقف إن شئت أن تقول) ويدخل فيه جميع من على الأرض وجميع من في جو السماء وجميع ما يكون بين السماء الدنيا وبين الأرض. وهذا يسمى في تراث أهل الكتاب الحاجز أو القبة أو Firmament أو Vault وأمره عظيم عندهم كما أمره عظيم عندنا إذ أنه جزء أساسي من الوجود، وهو دليل أن الله فطر السماوات والأرض بعد أن كانتا رتقا، وسأسلّط الضوء على شيء من معاني (فاطر السماوات و الأرض) في الفصول القادمة فترقّب ذلك.
و الرابعة أن البشرية بشكل عام حظّها في الحياة في (و ما بينهما)، لا يستطيع الإنسان أن يخترق السماء الدنيا ولا يستطيع أن ينفذ من أقطار الأرض أو يخترقها، فصار حظه في هذا الوجود (و ما بينهما). هناك حدّ علوي المتمثل في السماء و هناك حد سفلي المتمثّل في الأرض. لا يستطيع الإنسان تجاوز الحد العلوي و لا السفلي للوجود.
الخامسة أن الإنسان قد يتوهم أن ربّه العظيم الكريم عندما يقول خلق السماوات والأرض بمعنى أنه خلق (الكون) قد يحسب أنه خلق ما يسمى اليوم الجمادات، أو فقط السماوات العلى والأرض وليس له علاقة بالمخلوقات الحية اليوم كالإنسان والحيوانات البرية والبحرية والطيور والنباتات وما إلى ذلك، فيحسب أن الله خلق الكون وترك الأحياء وتجاهلهم وليس له علاقة كما قال مثل هذا بعض القدماء من الفلاسفة. أو لعل الخلق جاؤوا هكذا عن طريق التطور كما قاله علماء الطبيعة والأحياء و غيرها من الأفكار، فعندما يقول الله أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما فمن الأمور المفهومة أنه المسؤل كذلك عن خلق جميع ما بين الطبقة العلوية والطبقة السفلية من الوجود بما فيهم الأحياء.
و هنا أسجّل لطيفة قد لا تتفق في جميع مواضعها لكني وجدتها في أكثرها متفقة حسبما درست وهي أن الله ذي القوة و الكبرياء و العظمة، أينما يذكر ملكه العام الشامل يذكر (له ملك السماوات والأرض) من دون أن يذكر وما بينهما، و هذا يجعلنا نفهم أنه يملك الكون كله. أما بعض الآيات الاستثنائية فلها اسبابها، على سبيل المثال، عندما يتكلم عن المسيح فيذكر (و ما بينهما) فهمت من هذا أن هناك تأكيد بأن المسيح أحد الذين يعيشون بين السماوات والأرض، والله مالك الملك يملكه وليس له أي المسيح عيسى بن مريم من الملك أي شيء.
و أحب أن أسجّل هنا دقيقة أخرى من دقائق الفهم، قال ربنا عز وجل: (وله من في السماوات والارض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون) سبحان الله! هذه الآية يقول فيها الملك (له من في السماوات والأرض) يعني الكون ثم قال (ومن عنده) الذي قد يُفهم منه أنه جلّ في علاه ومن عنده من المخلوقات التي لا يُعلم عنها إلا هو، أو الملائكة المقربون هم فوق هذا الوجود المسمى بالسماوات والأرض و غير محكومين بنطاقها. لهذا لا تستغرب عندما تجد في الأحاديث النبوية أن العرش هو سقف المخلوقات، و هذا الفهم يستقيم مع الكثير من المرويات المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم و الحمدلله رب العالمين.
و هكذا كل آية فيها كنوز من الحكمة بحاجة إلى دراسة بحيال ذاتها لكن لا أريد أن أغيّر مقصد هذه المدونة المتواضعة. المقصد أن هذه النظرة التي أحسبها جديدة للسماوات والأرض تتوافق فيما درست شخصيا توافقا كليا جميلا مع جميع آيات القرآن و التوراة والأحاديث النبوية الصحيحة وكأن هذه اللآلئ جُعِلت في سلك واحد لتُشكّل قلادة جميلة. فدونك عزيزي القارئ تأمل فيما ذكرته سابقا واستعد لما ستقرأ لاحقا فقد تجد الاستنارة التي ينشدها كل طالب حق بإذن الله.
عبدالعزيز النظري
No comments:
Post a Comment