(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) {البقرة ٢٢} بعد الأرض الفراش نجد (السماء البناء). وأصل البناء كما هو معروف وضع لبنة على أخرى. إذن السماء في القرآن ليست فضاء كما تقرّره الدوريّات العلميّة إنما بناء.
سأستعرض لك بعض ما قاله المفسرون-رحمهم الله- في كون السماء بناء كالقبّة، وأوّلهم ابن عباس الملقّب بترجمان القرآن، قال: "كلّ سماء مطبقة على الأخرى مثل القبة وسماء الدنيا ملتزقة على الأرض أطرافها" ويُنسب لغيره من الصحابة: ”بناها على الأرض كالقبة“
وعن وهب بن منبه قال: "شيء من أطراف السماء محدق بالأرضين، والبحار كأطراف الفسطاط“. وعن أياس بن معاوية: ”السماء مقببة على الأرض مثل القبة“. وفي تفسير أبي الليث -رحمه الله- في كون السماء بناء: "قبة مضروبة عليكم، وكلّ سماء مطبقة على الأخرى مثل القبّة، والسماء الدنيا ملتزقة أطرافها على الأرض". أخرج ابن أبي الحاتم عن القاسم عن أبي بردة قال: "ليست السماء مربعة، لكنها مقبوة يراها الناس خضراء".
و قد روى الطبريّ في تفسيره روايات في هذا الباب، أختار منها ما يناسب ما نحن فيه، قال رحمه الله: "حدثنـي موسى بن هارون، قال حدّثنا عمرو بن حماد، قال حدّثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره، عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلّى الله عليه وسلّم (وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً)، فبناء السماء علـى الأرض كهيئة القبة، وهي سقـف علـى الأرض. وحدثنا بشر بن معاذ، قال حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة فـي قول الله: (وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً) قال جعل السماء سقـفـاً لك.“ أما القرطبيّ رحمه الله، المفسّر المعروف فقال: "السماء للأرض كالسقف للبيت".
قال الزمخشريّ المعتزليّ -رحمه الله- في تفسيره "الكشاف": "خلق الأرض التي هي مكانهم ومستقرهم الذي لا بدّ لهم منه، وهي بمنزلة عرصة المسكن ومتقلبه ومفترشه، ثمّ خلق السماء التي هي كالقبة المضروبة والخيمة المطنبة على هذا القرار" ونفس النتيجة عند ابن كثير المفسّر المعروف رحمه الله: "و السماء بناء وهو السقف" وقال البيضاويّ في تفسيره: "و السماء بناء - قبة مضروبة عليكم". وقال الشوكاني أحد المفسرين المتأخّرين: "جعل السماء كالقبة المضروبة عليهم والسقف للبيت الذي يسكنونه" وقال السيوطي الموسوعي صاحب تفسير الدر المنثور: "بنى السماء على الأرض كهيئة القبة، وهي سقف على الأرض". وفي تفسير البقاعي المعروف باسم نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: "والسماء بناء خيمة تحيط بصلاح موضع السكن" وأخيرًا حول هذه الآية هناك موعظة و كلام جميل وهو في تفسير الخازن المسمى لباب التأويل في معاني التنزيل: "قيل: إذا تأمل الإنسان المتفكر في العالم وجده كالبيت المعمور فيه كلّ ما يحتاج إليه، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض مفروشة كالبساط، والنجوم كالمصابيح، والإنسان كمالك البيت“. و قال مثله من المتأخرين محمد صديق خان في تفسيره فتح البيان في مقاصد القرآن في تفسيره لهذه الآية: ”واستدل به (يعني الآية) أكثر المفسرين على أن شكل الأرض بسيط ليس بكروي“ ثم سرد الموعظة التي نقلتها.
و في الآية هناك ملحظ لطيف، بما أنّ الله سبحانه تعالى قال جعل الأرض فراشا والسماء بناء، ففيه إشارة أنّ الأرض كانت مخلوقة من قبل، كذلك السماوات، لكنها لم تكن فراشا والسماء بناء، وهذا يؤيّد آيات أخرى مذكورة في الكتاب العزيز مثل: (إلى السماء وهي دخان) و(الأرض بعد ذلك دحاها) ولاحظ الطبراني في تفسير الكبير كما لاحظ غيره: "إنما أطلق البناء على السماء دون الأرض لأنّ خلقها بعد خلق الأرض".
على كلٍ، مسألة من خُلقت قبل من، السماوات أم الأرض، سأتعرّض لها في موضع آخر.
تأمّل هذه الآيات لتدرك أنّ السماء بناء حقيقيّ، وليس الكلام فيه مجاز، قال الله الذي خلقها و أعلم بها و بما فيها عنها: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) {البقرة ٢٢} وقال: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ) (الأنبياء ٣٢} وقال: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) {ق ٦} وقوله: (فَإِذَا انشَقَّتْ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) {الرحمن ٣٧} وقال: (وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ) ){الحاقة ١٦} (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا) {الفرقان ٢٥} وقوله: (وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ) {المرسلات ٩} وقال: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا) {النازعات ٢٧} وقوله: (إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ) {الانفطار ١} وقال: (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ) {الانشقاق ١}
كلّ هذه الكلمات: (بناء) و(سقفا محفوظا) و(بنيناها) و(زيناها) و(فروج) و(انشقت السماء) و(تشقق السماء) و(فرجت) و(انفطرت) كلّ هذه الكلمات تدلّ على جسم ماديّ مبنيّ، ولا تدل على الفراغ.
أيضًا هذه السماء بناء فيه أبواب، تأمّل قول الله عز و جل في سورة الحجر، إذ قال سبحانه وتعالى: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) وفي سورة النبأ: (وَ فُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا). وقال في سورة القمر: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ) وقال في سورة الأعراف: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ۚ وَكذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) أما ذكر أبواب السماء في الأحاديث النبوية فكثير يعرفه من اطلّع على الأحاديث النبوية.
أبواب السماء ليست معروفة فقط عند المؤمنين بل هي معروفة كذلك عند اليهود والنصارى، بل إنك إذا زرت بعض المتاحف النصرانية وجدت عددًا من اللوحات الفنيّة التي يصورون فيها رغبة الناس في دخول أبواب السماء وحرس من الملائكة وقوف. وحقيقة كون السماء بناء جلي أيضًا في كتب اليهود و النصارى، وسأتطرّق لأدلة ذلك في الفصل المخصّص لذلك إن شاء الله.
المقصد من الاستشهاد بأبواب السماء للدلالة على أنّ السماء بناء، وليست فضاء، و لا يخفى علينا أن كلّ بناء له باب، و لهذا فإنه مفهوم ومنطقيّ أن للسماء أبوابا. كما أنّ معظم الكلمات التي جاءت في القرآن في وصف شكل الأرض تدلّ أنّها مسطّحة، كذلك الكلمات التي جاءت في وصف السماء تدلّ أنها مبنيّة و الحمدلله رب العالمين.
عبدالعزيز النظري
No comments:
Post a Comment