السورة الثالثة في القرآن هي سورة آل عمران، وإن بحثت في كتب التفاسير كلّها وسألت الناس عن عِمْران لن تعرف على وجه التحديد من هو عمران! ولن تجد عن أخباره شيئاً غير أنه أبو مريم وأن الله اصطفى آله، أما غير ذلك فلن تجد غير كلام أهل التاريخ والمفسرين التي لا يمكننا الاعتماد عليها لمعرفة عمران على وجه التحديد.
قال ربنا عز وجل: ((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)) استناداً على الآية السابقة لا بد أن يكون عمران ذا مكانة عظيمة، إذ ذكر مع آدم ونوح وإبراهيم، ولا يخفى على أي واحد منا أن الثلاثة لهم مكانة عظيمة، الأول أبو البشر، والثاني أبو الرسل، والثالث أبو الأنبياء، الثلاثة يُعتبرون من أصول البشر، أما الرابع المذكور وهو عمران لا نكاد نعرف عنه شيئاً! هل يُعقل هذا؟ من السياق نستطيع أن نقول لا بد أن له مكانة خاصة عند الله، إذ اصطفاه وجعله مع من ذكر في الآية فهذا بحد ذاته تكريم له وأي تكريم.
فكّر ملياً في الأمر، إن سألت الناس من هو آدم لقالوا لك من يكون، وإن سألتهم من نوح، فكذلك هو معروف عند الناس في العالم أجمع وقصته أشهر من نار على علم، وكذلك إبراهيم يعرفه الكل، لكن إن سألتهم من يكون عمران لن تجد من يعرفه غير ما هو مذكور في التاريخ من نسبه أو أنه أبو مريم بناء على سورة آل عمران.
لكن ماذا لو طبّقنا النظرية وقلنا إن عمران هو من الجن أو له علاقة بالجن؟ ما الذي سيتغيّر حينها؟ أقول: الذي سيتغيّر أننا سنفهم آيات من القرآن فهماً جديداً قد يكون أقرب إلى الحق. فإن قلنا: إن عمران هو من الجن فهمنا لماذا ليس له وجود في قصة امرأته وابنتها مريم: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)) هذه واحدة. أعلمُ أنه يُمكن أن يقال: كان ميتاً وهذا ليس ببعيد، فلا تحسب أني غفلت عن هذا القول غير أني أرجّح ما ذكرت.
والثانية: أنا أفترض أنك تعلم جيّداً مريم عليها السلام وقصّتها مع الملائكة والروح، وكذلك تعرف قصص المسيح المؤيد بروح القدس. من تلك الأخبار إذن علاقة عائلة عمران بالمخلوقات الجنية التي لا تُرى لا يخفى على قارئ للقرآن.
الباحث في القرآن سيقف أمام هذه الآية العجيبة من سورة مريم: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) وهذه الآية بالتحديد صعب فهمها على المسلمين وغير المسلمين، إذ كيف تصير مريم أختاً لهارون أخي موسى وهناك فارق زمني كبير بين زمن موسى وعيسى؟ من أجل توهّم وجود إشكالية اختلف أهل التفسير في تفسيرهم للآية وتحديد من يكون هارون المذكور في الآية. فقالوا: إنه كان رجلاً صالحاً من بني إسرائيل ينسب إليه من يعرف بالصلاح، وآخرون قالوا: إن المقصود به هو هارون أخو موسى، فنسبت إليه لأنها من ولده كما يقال يا أخا بني فلان. وقالوا: إن هارون المذكور في الآية كان أخاها لأبيها وأمها وكانوا يتسمّون بالصالحين منهم كما في الحديث المذكور في هذا الباب. وقالوا أيضاً: إنه كان رجلاً فاسقاً معلناً بالفسق ونسبت إليه. لقد فصّلت هذه المسألة في كتابي "بين الإلهام والوسواس" تفصيلاً مطوّلاً وقدّمت إجابات غير مسبوقة جديرة بالنظر، فراجعه هناك إن استطعتَ ذلك.
العجيب أننا نجد في كتب أهل التاريخ أن عمران كان اسم أبي موسى وهارون عليهم السلام جميعاً. فهل يمكن أن يكون عمران أبو موسى هو نفسه عمران أبا مريم أم المسيح؟ قد تقول: لا يمكن ذلك، وهذا ضرب من الجنون، لكن أقول: هذا ليس بجنون إنما رأي قوي جداً خاصة إن أخذنا بالنظرية، وقلنا: إن عمران من الجن أو له على الأقل بعض خصائص الجن. فإنه متعارف عند شعوب العالم منذ فجر التاريخ وحتى اليوم أن الجان أطول عمراً من الإنسان. فإن كان كذلك فهذا يُفسّر لنا كيف عاش عمران زمن موسى حتى زمن أم المسيح، لأنه من الجن وإلا لما عاش كل تلك السنوات لأن ذلك سيكون خلافاً للعادة.
قد تقول: وما في ذلك؟ ألم يلبث نوح في قومه عمراً طويلاً؟ قال ربنا عز وجل في سورة العنكبوت: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) فإن كان نوح عاش كل هذه المدة، لماذا لا يكون عمران كذلك؟ أقول: لو كان عمران إنسياً وعاش هذه المدة، لكن ذلك ما يثير العجب وجدير ذكره وبما أننا لم نجد ذكر هذه العجيبة في أي كتاب سماوي أو أي حديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو في التاريخ علمنا أن عمران عاش عمراً اعتيادياً. بالتأكيد الفجوة الزمنية بين زمن موسى وعيسى عليهما السلام كبيرة وقد تصل لألف سنة أو أكثر، فهل هذه المدة اعتيادية لإنسان؟ أقول: لا ليست اعتيادية لإنسان، لكن قد تكون اعتيادية للجن! بمعنى أن معدّل أعمار الجن قد يصل لألف سنة.
فإن طالبتني بدليل من القرآن، سأقول: لا أدري على وجه التحديد، لكن الدليل قد يكون في هذه الآية من سورة الأحقاف: (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ)، فإن الجن عندما سمعوا القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم رجعوا إلى قومهم، فهل يُمكن أن يُقال: إن الجن الذين سمعوا كتاب موسى عندما أنزل هم أنفسهم من سمعوا القرآن زمن الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أقول: نعم هذا محتمل والله أعلم.
وقد تسألني وهل يتزوّج الجن؟ وهل يكون لهم أولاد؟ الذي يظهر لي نعم إنهم يتزوجون وقد يكون لهم ذرية، اقرأ هذه الآية: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا)، ففي هذه الآية أن لإبليس ذرية. وفي سورة الرحمن نجد هذه الآية: (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ)، وظاهر معنى الآية، قال الطبري: "وإنما عنى في هذا الموضع أنه لم يجامعهنّ إنس قبلهم ولا جانّ". وقال القرطبي: "في هذه الآية دليل على أن الجن تغشى كالإنس". قال ابن كثير في تفسيره: "لم يطأهن أحد قبل أزواجهن من الإنس والجن. قال الفخر الرازي في تفسيره: "المسألة الثامنة: ما الفائدة في ذكر الجان مع أن الجان لا يجامع؟ نقول: ليس كذلك بل الجن لهم أولاد وذريات، وإنما الخلاف في أنهم هل يواقعون الإنس أم لا؟ والمشهور أنهم يواقعون وإلا لما كان في الجنة أحساب ولا أنساب، فكأن مواقعة الإنس إياهن كمواقعة الجن من حيث الإشارة إلى نفيها". إذن الذي يظهر لي أن الجن يعيشون طويلاً، ويتزوجون ويكون لهم ذرية.
ولاحظ أنّه كما أن عمران أبا مريم لم يكن له وجود أثناء قصة امرأته وتسميتها ابنتها مريم، كذلك لم يكن له وجود في قصة أم موسى عندما ألقت ابنها في اليم، بل لا ذكر له زمن موسى، فهل يُمكن أن يُفهم من ذلك لأنه كان من الجن؟ وهل يمكن أن يكون عمران هو أبا كل من موسى وهارون وهو في نفس الوقت أبٌ لمريم وجد المسيح؟ هل يمكن أن يُفهم مما سبق كيف صارت مريم أختاً لهارون كما في الآية: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا)؟
إن أخذت بهذا الفهم الجديد الذي طرحته هنا، وسلّمت أن عمران من الجن، قد نفهم الآن هذه الآية بشكل أعمق: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)، وذلك لأن الآل يدخل فيه الزوجة والأبناء، فكأن هذه الآية شملت آدم ونوحاً وآل إبراهيم (يدخل في آل إبراهيم زوجته سارة وإسحاق ويعقوب) وآل عمران (يدخل في آل عمران زوجته أم موسى وموسى وهارون، وأم مريم، ومريم وابنها عيسى)، وإن أنت عدت إلى القرآن لوجدت الأنبياء المذكورين كانوا من المصطفين. مثال ذلك ما نجده في سورة ص: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَار (45)إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ)، وفي سورة آل عمران: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) وهناك دقائق كثيرة في هذه الآية لكن أظن فيما ذكرت الكفاية والحمد لله رب العالمين.