السلام عليكم و رحمة الله و بركاته... في المشاركات السابقة انتهيت من
كتابة بعض الحكم و الفوائد المتعلقة بقول الله سبحانه و تعالى: ((الحمدلله رب
العالمين)) و أنتقل اليوم إلى الحديث عن قوله بعد الحمد: ((الرحمن الرحيم)). و قد
سبق وأن فصّلت في معنى اسم الله "الرحمن" و "الرحيم" و ذلك في
مشاركاتي عن البسملة وما كان هناك فلن أكرره في هذه المشاركة إن شاء الله. لكن
أدعو كل قارئ يقرأ هذه المشاركة أن يرجع إلى ما كتبته في البسملة ليفهم التصور
العام الذي عندي لمعنى (الرحمن الرحيم) ليسهل عليه فهم هذه المشاركة. على كل قد
تسأل كما سأل كثيرون, ما الحكمة من تكرار (الرحمن الرحيم) مرة في البسملة و مرة
بعد (الحمدلله رب العالمين)؟
أقول للإجابة على السؤال, من رأى بأن البسملة ليست آية من سورة الفاتحة فلا
يرد عليه هذا السؤال أصلا, أما من يرى أن البسملة آية من سورة الفاتحة أو آية
مستقلة فنعم. وقبل أن أفصّل في إجابتي أحب أولا أن أنقل حكمة جميلة وجدتها في
تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا أنقلها كما هي: "إن معنى الرحمة في بسملة
كل سورة, هو أنّ السورة منزلة برحمة الله و فضله, فلا يعدّ ما عساه أن يكون في
أوّل السورة أو أثنائها من ذكر الرحمة مكررا مع ما في البسملة, وإن كان مقرونا
بذكر التنزيل كأوّل سورة فصلت ((حم تنزيل من الرحمن الرحيم)) لأن الرحمة في
البسملة للمعنى العام في الوحي و التنزيل, و في السور للمعنى الخاص الذي تبيّنه
السورة" و هذه ملاحظة جميلة من الشيخ رحمه الله, و أحب أن أضيف بعض الحكم.
أقول من الحكم في ذلك والله أعلم أنه تعريف عن الله سبحانه و تعالى, فالله
أولا عرّف عن نفسه بأنه (رب العالمين) وفي المشاركة السابقة شرحت بشيء من التفصيل
عن معنى (رب العالمين) فإن قرأت ما كتبته, فيكون هذا مثل رد على سؤال: (ومن هو رب
العالمين) وتعريف آخر لله سبحانه وتعالى فأتى الجواب بأنه الرحمن الرحيم. وذلك
لأني كما ذكرت سابقا بأن اسم "الرحمن" هو اسم علم خاص بالله, و اسم
"الرحيم" اسم من أخصّ أسماء الله الدالة على جميع أسماء وصفات الجمال.
والرحمن يدل على جميع أسماء الله وصفاته ولكن بشكل أخص يتعلق بأسماء الجلال, وفهم
ذلك يبعث في قلب المؤمن الرغبة و الرهبة, هذه واحدة. أما الثانية فكما ذكرت سابقا بأن
اسم الله "الرحمن" يدل على جميع أسماء الله ضمنيا وبيّنت أن الرحمن يأتي
على أوجه في القرآن, فواحدة منها تدل على ربوبيته و صلته بجميع خلقه, و هذه ثانية.
و الثالثة, أنه بعد أن ذكر الاسم العلم الدال على جميع الأسماء (الله) ذكر بداية
الاسم الدال على أفعاله المتعلقة بالمخلوقات و هو اسم "الرب" و بعد أن
ذكر ذلك, جاء باسم (الرحمن الرحيم) ليدل على صفات الله ولا سبيل إلى معرفة الله
إلا بعد معرفة أفعاله و صفاته (إن جاز التعبير).
وهناك معنى آخر, عندما يسألك أحدهم عن شيء له أسماء كثيرة, فتذكر اسمه فإن
لم يعرف ذكرت من أفعاله, ثم تذكر اسمه فإن لم يعرف ذكرت من صفاته. فلما عرّف الله
نفسه بأنه (رب العالمين) ذكر اسم العلم الأشهر بعد الله و هو اسم (الرحمن) ثم ذكر
بعدها اسم "الرحيم" الدال على أخص صفة من صفات الله و هذا معروف عند
الناس. فمثلا إن سألت أحدهم: من الرب؟ فإما أن يذكرون بأنه البارئ (أقصد بالبارئ
هنا المعنى المتبادر لاسم "الخالق" عند الناس و هو الذي أوجد من عدم)
المبدع فاطر السماوات والأرض و إما أن يقول: الرحيم. واختبر ذلك قديما بقراءة
الكتابات القديمة أو اختبر ذلك اليوم مع الناس. فعوام الناس يعرفون الله إما بكونه
رب العالمين و إما بكونه "الرحيم", يعرفون من الله ما يرون من آثار
أسمائه في أنفسهم أو في المخلوقات من حولهم. وقد بيّنت سابقا بأن اسم الرحمن و
الرحيم أصل لهذه المعاني الذي ذكرت.
أما سبب تقديم الرحمن على الرحيم, فقد ذكرت ذلك أيضا في ما كتبته عن
البسملة و لكن أحب أن أضيف هنا فائدة أخرى لن تجدوها في ما كتبت عن البسملة. وهو
أن الله سبحانه و تعالى بدأ كتابه بذكر الاسم العلم (الله) و من ثم عرّف بـ(رب
العالمين) و من ثم ذكر الاسم العلم (الرحمن) وعرّف بأنه الرحيم, ففي الأول عرف بأفعاله
وآثارها المتعلقة بالخلق أما الثاني فعرّف بذكر صفته (إن جاز التعبير) فهذه نكتة
خفية. أما النكتة الثانية فكما قلت أيضا بأن الرحمن متعلق بجميع الخلق بخلاف
الرحيم, فقد لا تتبيّن آثار هذا الاسم بالكفار و الشياطين يوم القيامة, أما آثار
اسم الرحمن فمتعلقة بهم في الدنيا و الآخرة كما أن آثار اسم "الرب"
متعلقة بهم في الدنيا و الآخرة فناسب أن يقدّم "الرحمن" على
"الرحيم". وإن رأيت بمنظور آخر و بما أن الآية التي بعدها (مالك يوم
الدين) ناسب أن يؤخّر اسم "الرحيم", أعط هذه النكتة حقها من التأمل
فإنها دقيقة و تبعث في النفس الانبهار من ترتيب هذا الكتاب العظيم والله أعلم.
في المشاركة السابقة كتبت بعض معاني (رب العالمين) ومن هذه المعاني أنه
المدبّر و السيّد و المربّي و القيّم و المنعم وغير هذه المعاني. والأسئلة عن الله
سبحانه و تعالى كثيرة, وهناك سؤال يتكرر باستمرار سواء من المسلمين و غير
المسلمين, و السؤال لماذا؟ لماذا الرب يفعل كذا و لماذا فعل ذلك؟ لماذا هو
المدبّر؟ و لماذا هو القيّم؟ و لماذا هو المُنعم؟ فوجدنا الإجابة, لأنه (الرحمن
الرحيم). فالله سبحانه و تعالى يفعل هذه الأفعال (إن جاز التعبير) لأنه الرحمن,
وهذه الأفعال من مقتضيات كونه "الرحمن" سبحانه و تعالى. وهذا مثل ما
تقول في العمل, لماذا هذا المدير يقوم برفع التقارير المالية و المحاسبية و الأمور
المتعلقة بارشاد الانفاق و الموازنة و ما إلى ذلك, تجيبه بأنه المدير المالي ولذلك
من مهامه و واجباته أن يقوم بذلك. لماذا الإنسان بحاجة إلى الأكل و الشراب؟
للبقاء, فإن لم لم يحتج إلى الطعام و الشراب لم يكن إنسانا بل كان خلقا آخر. وهنا
كذلك ولله المثل الأعلى, لأنه هو الرحمن يفعل هذا و ذاك, فإن لم يكن هو المدبّر و
لم يكن هو القيّم و لم يكن هو المنعم إذا هو ليس الرحمن و ليس أهلا أن يُعبد ولكن
شيئا آخر غير المفهوم المتعارف للرب سبحانه و تعالى.
ولكن قد تتساءل فتقول, المدير المالي يفعل ذلك لأنه يحتاج إلى راتب, و الأب
يُربّي الطفل و يُنعم عليه لأنه ينتظر منه أن يخلفه أو يعينه فيما بعد أو ربما
ينتظر الأجر و الثواب من الله سبحانه و تعالى. و لكن الأمر يختلف مع الرحمن لأن
مقتضيات الرحمن أنه الغني المطلق, ليس بحاجة إلى شيء مهما صغر أو كبر و بأي حال من
الأحوال, ولعلّ هذا أيضا من أسباب تقديم الرحمن على الرحيم هنا. ولكن بما أن
الإنسان يحب أن يتساءل, فيقول وهل لأنه الرب الأعلى يفعل هذا بخلقه الضعفاء, جاءت
الإجابة على هذا السؤال في اسمه (الرحيم). أي إن الله سبحانه و تعالى يفعل هذه
الأفعال ليس فقط لأنه المدبّر على الحقيقة و المنعم على الحقيقة و لكنه أيضا رحيم
بخلقه. كل ما يفعله لا يخلو من خير في ضمنه والإنسان الحكيم يدرك ذلك تماما فإنه
يعلم تماما بأنه ليس في الوجود شر إلا و في ضمنه خير.
و يحسن بي أن أنقل هنا كلمات لأحد العلماء الحكماء في هذا الموضوع و هو أبو
حامد الغزالي رحمه الله حيث ذكر سؤالا وإجابة للسؤال و ذلك في كتابه النافع
"المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" وسأنقل كلامه مع بعض التصرف.
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: " لعلك تقول ما معنى
كونه تعالى رحيما وكونه أرحم الراحمين والرحيم لا يرى مبتلى ومضرورا ومعذبا ومريضا
وهو يقدر على إماطة ما بهم إلا ويبادر إلى إماطته! والرب سبحانه وتعالى قادر على كفاية
كل بلية ودفع كل فقر وغمة وإماطة كل مرض وإزالة كل ضرر والدنيا طافحة بالأمراض والمحن
والبلايا وهو قادر على إزالة جميعها وتارك عباده ممتحنين بالرزايا والمحن؟
فجوابك: إن الطفل الصغير قد ترق له أمه فتمنعه عن الحجامة والأب العاقل يحمله
عليها قهرا, والجاهل يظن أن الرحيم هي الأم دون الأب والعاقل يعلم أن إيلام الأب إياه
بالحجامة من كمال رحمته وعطفه وتمام شفقته وأن الأم له عدو في صورة صديق فإن الألم
القليل إذا كان سببا للذة الكثيرة لم يكن شرا بل كان خيرا. والرحيم يريد الخير للمرحوم
لا محالة وليس في الوجود شر إلا وفي ضمنه خير لو رفع ذلك الشر لبطل الخير الذي في ضمنه
وحصل ببطلانه شرا أعظم من الشر الذي يتضمنه. فاليد المتآكلة قطعها شر في الظاهر وفي
ضمنه الخير الجزيل وهو سلامة البدن ولو ترك قطع اليد لحصل هلاك البدن ولكان الشر أعظم
وقطع اليد لأجل سلامة البدن شر في ضمنه خير ولكن المراد الأول السابق إلى نظر القاطع
السلامة التي هي خير محض. ثم لما كان السبيل إليه قطع اليد قصد قطع اليد لأجله فكانت
السلامة مطلوبة لذاتها أولا والقطع مطلوبا لغيره ثانيا لا لذاته, فهما داخلان تحت الإرادة
ولكن أحدهما مراد لذاته والآخر مراد لغيره. والمراد لذاته قبل المراد لغيره.
فالآن إن خطر لك نوع من الشر لا ترى تحته خيرا أو خطر لك أنه كان تحصيل ذلك
الخير ممكنا لا في ضمن الشر فاتهم عقلك القاصر في أحد الخاطرين. أما في قولك إن هذا
الشر لا خير تحته فإن هذا مما تقصر العقول عن معرفته ولعلك فيه مثل الصبي الذي يرى
الحجامة شرا محضا أو مثل الغبي الذي يرى القتل قصاصا شرا محضا لأنه ينظر إلى خصوص شخص
المقتول لأنه في حقه شر محض ويذهل عن الخير العام الحاصل للناس كافة. ولا يدري أن التوصل
بالشر الخاص إلى الخير العام خير محض لا ينبغي للغير أن يهمله أو اتهم عقلك في الخاطر
الثاني وهو قولك إن تحصيل ذلك لا في ضمن ذلك الشر ممكن فإن هذا أيضا دقيق غامض, فليس
كل محال وممكن مما يدرك إمكانه واستحالته بالبديهة ولا بالنظر القريب بل ربما عرف ذلك
بنظر غامض دقيق يقصر عنه الأكثرون. فاتهم عقلك في هذين الطرفين ولا تشكن أصلا في أنه
أرحم الراحمين وفي أنه سبقت رحمته غضبه ولا تستريبن في أن مريد الشر للشر لا للخير
غير مستحق لاسم الرحيم. ولقد نبهت بالرمز والإيماء إن كنت من أهله فتأمل: "لقد
أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي" هذا حكم الأكثرين وأما أنت
أيها الأخ المقصود بالشرح فلا أظنك إلا مستبصرا بسر الله عز وجل في القدر مستغنيا عن
هذه التحويمات والتنبيهات." وهذا من أنفع و أجمل ما قرأته في هذا الموضوع.
وهناك أيضا مسألة قريبة, بما أن معاني الرب أنه المالك و أنه المدبّر
والقيّم والمهيمن و ما إلى ذلك من المعاني فإنه ينزل الكتب و يرسل الرسل و يشرّع
الشرائع, و يحكم بأن هذا حلال و هذا حرام, وهذا في الجنة و ذاك في النار فهذه
الأمور هي من خصائص الله ولا ينبغي لأي إنسان أن يفعل ذلك ويقتحم هذه الأمور فيقول
بأنه مدبّر الخلق و القيّم عليهم و المهيمن و أنه مرسل الأنبياء و أن فلان في
الجنة و ذاك في النار وهذه أيضا احدى أسرار تقديم الرحمن, أي هذه الأمور خاصة
بالرحمن وجاء بهذا الاسم كما ذكرت سابقا لأنه الاسم العلم و لأنه أيضا يدل على
أسماء الجلال فيبعث في النفس الرهبة. ولكن بما أن الإنسان قد يرى فيما حرّمه الله
عليه تضيق و تقييد للحرية أو قسوة في بعض الحدود مثل القصاص و ما شابه ذلك, ناسب
أن يذكر بعده اسمه (الرحيم) لينبه الناس على هذه الحقيقة, فإن لم تفهم ذلك فعد إلى
ما نقلته من كلام أبو حامد الغزالي. فالذي أريد أن أقوله بأن هذه الآية (الرحمن
الرحيم) قد يقرؤها البار و الفاجر و في هذه الآية ترهيب و ترغيب للأول و الثاني,
فإن البار قد يتمرد ولن يردعه إلا ما يعلمه من جلال الرحمن والفاجر قد يترك فجوره
إن علم من جمال الرحيم. والبار يحتاج إلى من يطمئنه بأن الله هو الرحيم و يرغبه في
ذلك ليحسن الظن بالله و الفاجر يحتاج من يهدده و يتوعده ليقف عند حدوده فهو يحتاج
إلى من يذكّره بالرحمن عز و جل.
وحظ العبد من اسم الله "الرحيم" أن يرحم الخلق كلهم, وكما أن
الله سبحانه و تعالى يرحم المؤمن و الكافر, ويمد خلقه بما يحتاجونه للبقاء, فكذلك
المؤمن, يرحم الخلق بغض النظر إن كانوا مسلمين أو غير مسلمين, فلا يقول مسلم:
"سأرحم فلانا لأنه مسلم وغير المسلم لا داعي لرحمته" هذا خطأ, بل يرحم
الكل. والحقيقة من أراد أن يكون سببا في هداية غير المسلمين فعليه أولا أن يرحمهم.
ربما تستغرب هذا الكلام! لكن كيف ستدعو من لا ترحمه إلى الإسلام أساسا؟ لابد من
وجود الرحمة في قلبك و من ثم بعد وجود هذه الرحمة في القلب تأتي آثار هذه الرحمة
من دعوة إلى الإسلام و الشفقة عليهم وما إلى ذلك. المؤمن رحيم, يرحم طفله وهو في
بطن أمه, و من ثم يرحمه بعد خروجه من بطن أمه, و يرحمه وهو صغير فلا يدخر جهده في
سبيل راحة ابنه, فإن كبر و أخطأ الابن وبدأ يتمرد فإنه كذلك يرحمه بعد موته.
فالإنسان الرحيم لا ينبغي أن تنقطع رحمته, بل رحمته متصلة بالخلق... حتى عند
القتال, فهو يقتال ليس طمعا فيما عند الطرف الآخر, لابد أن يكون السبب الأول و
الرئيسي الرحمة, رحمة بالمستضعفين من الرجال و النساء و الأطفال. إن انتقد أمرا
لابد أن تكون في أصل هذا الانتقاد رحمة, رحمة بالخلق أو رحمة بمن ينتقده, أما أن
يستخدم الانتقاد من غير رحمة فلا خير فيه هذا والله أعلم. أتوقف هنا على أمل أن
ألقاكم في مشاركة أخرى مع آية أخرى من آيات سورة الفاتحة. أسأل الله أن يفتح لنا
أبوابا من العلم فنتعلم و نتقرب إليه بما علمنا, و السلام عليكم و رحمة الله و
بركاته...