Tuesday, September 22, 2020

هل التوراة محرّفة؟

 هل التوراة محرّفة أم لا، منذ سنوات عديدة و قد حبب إلي النظر في التوراة الموجودة اليوم، و كثيرا ما أقول أن في التوراة كذا و كذا، و كثيرا ما أجدني في صدام مع الناس أو توبيخ منهم لي بسبب نظري في هذا الكتاب، و بالتأكيد يشمل ذلك ما يكرره المسلمون منذ مئات السنين أن التوراة الذي بين أيدي اليهود محرفة، بل حتى من أيام المدرسة كانوا يعلموننا أن التوراة محرّفة، صحيح أن فيها بعض الحقائق إلا أن فيها من التحريف ما فيها، هكذا كانوا يقولون لنا. فقررت أن أبحث المسألة باستقلالية و بعيدا عن التعصّب فوجدت بعد البحث أن ادعاء التوراة كتاب محرّف ليس هناك دليل من القرآن عليه. و لا أخفيكم أني فرحت عندما لم أجد دليلا على أن التوراة محرّفة، و ذلك لأني أجدني أحب هذا الكتاب، أولا لكونه كتاب أنزله الله سبحانه و تعالى و ثانيا أحب أن أي كتاب أو نص له علاقة بالله سبحانه و تعالى و المرسلين. 


بالتأكيد أن أقول اليوم أن التوراة غير محرّفة تعتبر كبيرة في الأوساط الاجتماعية العربية التي نحن فيها، و لكن سأثبت لك عزيزي القارئ بأن ما يأتون به من الأدلة على تحريف التوراة من القرآن ليست قوية. و قبل أن أبدأ أحب أن أنوّه أني لا أزعم أنه ليس هناك تحريف في ترجمات التوراة إنما أزعم أن التوراة الغير مترجمة، هي التي ليست محرّفة. لنستعرض أدلة القائلين بأن التوراة محرّفة.


يستدل كثير من الناس على أن التوراة محرّفة من قول الله عز و جل: ((أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) وقول الله عز وجل: ((يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ))


((قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا))


((الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ))


((وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ))


هذه الآيات معروفة لدينا و لكن انتبه إلى أن ليس فيها أي دليل على أن التوراة مُحرفة، ففي الآية أنهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه، و ليس فيها أنهم حرفوا التوراة بذاتها


كذلك هذه الآيات مثل الآية التي ذكرتها مُسبقا، ليس فيها و لا حتى دليل واحد صريح بأن التوراة مُحرّفة، إنما قال الرب إنهم يُخفون كثيرا من الكتاب الذي جاء به موسى و أنهم كانوا يكتمون الحق. لِنَقُلْ إن أحبار اليهود و الرهبان بالفعل فعلوا ذلك، لكن ذلك لا يدل على أن الموجود بين أيدينا اليوم من التوراة محرف كذلك! فليس في الآيات التي ذكرتها أي دليل على التحريف. دعني أضرب لك مثلا لعلك تعقل عني، لنفترض أن لدي مائة قطعة نقدية و أنا أعطيتك منها فقط تسعين و أبقيت عشرة منها عندي، فهل هذا يعني أن القطع التسعين التي أعطيتك إياها فاسدة؟


دعونا نتأمل ما قاله الله سبحانه و تعالى عن التوراة:

((وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ)) 

((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ))

((قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) 


فإن كانت التوراة محرفة كما يدّعون لم يكن الرب ينزل في كتابه هذه الآيات! فإنه العليم، يعلم ما حدث في الماضي و في الحاضر و في المستقبل، فإن وقع التحريف حقا، فإن الله يعلمه فإن كان يعلم ذلك فلِمَ أوحى إلى نبيه بهذه الآيات التي نجدها في القرآن و التي ترفع من شأن التوراة، بل تؤكد وجود ذكر النبي محمد صلى الله عليه و سلم الذي يجدونه مكتوبا عندهم. بكل سهولة كان بإمكانهم أن يقولوا إنا لا نجد ذكر الرسول صلى الله عليه و سلم، و كانت هذه ستكون حجة لليهود على الرسول الكريم أيامها إلا أنها لم تكن كذلك مما يدل إما على أنها موجودة أو أنهم أخفوها، و الإثنان لا يعني التحريف فيما هو موجود و مكشوف لدى الناس من التوراة أيامها. ليس هذا فحسب، بل لو كانت محرّفة و يمكن تحريفها بالسهولة التي يحسبها بعض المسلمين، لكن بإمكانهم أن يحرّفوا التوراة و يقيموا التوراة المحرّفة، فإن كان بإمكانهم ذلك لم يكن الله ليقول (لستم على شيء حتى تقيموا التوراة) أو ليقول (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) فإن كان بالفعل محرّفا لأتوا و تحدوا الرسول صلى الله عليه و سلم و بما أنهم لم يفعلوا علمنا أنها ليست محرّفة و لم يكن باستطاعتهم تحريفها أصلا.


تأمل هذه الآيات من سورة القصص: 


((فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ ۖ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) ))


الله سبحانه و تعالى الذي يعلم ما سيكون في المستقبل يقول متحدّيا: (قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) ما المقصود بمنهما على حسب السياق؟ أليس القرآن و التوراة؟ فإن كانت التوراة محرّفة و فيها من الأباطيل ما فيها كما يزعمون، فكيف إذن يجعل الله هذا الكتاب بهذه المكانة الرفيعة بحيث أنه ليس هناك أهدى منهما يمكن للرسول الكريم أن يتبعه يومها. 


بل إنك إن تتبعت الآيات التي فيها ذكر التوراة، لن تجد فيها ذم للتوراة أو تنقّص أو أي شيء من هذا القبيل، بل العكس تماما إذ تجدها في مقام تكريم و رفعة. 


المصيبة عندما يدّعي بعض المفسرين أن المقصود بالكتاب في قوله سبحانه و تعالى: الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2))) هو التوراة ثم يزعمون أنّها محرّفة! تأمل شؤم التقليد وما يؤدي إلى نتائج تخزي صاحبها و الله المستعان.


أمرنا الله سبحانه و تعالى فقال: ((وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ))


و في هذه الآية كذلك: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً))


ماذا قال لنا ربنا؟ آمنا بالذي أنزل إلينا و أنزل إليكم، أليس كذلك؟ ما الذي أنزل إليهم؟ التوراة، أليس كذلك؟ فإن كان الذي أنزل على أهل الكتاب محرّف لا يمكن تصديقه و لا يمكن تكذيبه، فلم أمرنا الله سبحانه أن نقول آمنا بالذي أنزل إلينا و أنزل إليكم. هل يصح أن نقول نحن نؤمن بالقرآن إن كان في القرآن هناك تحريف و خلل؟ لا يصح الإيمان بالكل وقتها، بل سنضطر أن نقول نؤمن ببعض و نكفر ببعض، و الآن هذه الحالة حالة من!؟ أقصد الذي يؤمن ببعض و يكفر ببعض؟ نعم إنه من عمل الكفار، تأمل قول الله سبحانه و تعالى:


((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ))


((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا))


أما المؤمن فحاله كما ذكر الله سبحانه و تعالى في هذه الآية: ((وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ))


أما إن قال لك متعنّت فقال إن الإيمان المطلوب هو فقط الإيمان بأن الله أنزل الكتاب، نقول له إما أن تأتي بالدليل على كلامك و إما أن ننصحه فنقول له: ((وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)) و ذلك لأننا عندما نقول نحن مطالبين بالإيمان بالقرآن، هل نقل فقط الإيمان بأن الله نزّل كتابا على الرسول النبي محمد صلى الله عليه و سلم؟ أم أن الإيمان بهذا الكتاب يلزم الإيمان بكل ما فيه جملة و تفصيلا؟ بالتأكيد الأخير. 


ثم ما الدليل أن الله لم يحفظ التوراة كما حفظ الذكر؟ هل هناك أدلة على ذلك، لا يوجد أي دليل. أيها الإخوة، كما أن الرسول صلى الله عليه و سلم يصدّق من سبقه من المرسلين فإن القرآن مصدّق للتوراة و الإنجيل. و كما أننا نؤمن برسله لا نفرّق بين أحد منهم كذلك علينا أن نؤمن بكتب الله لا نقول فيها أنّها محرّفة من دون وحي من الله و برهان من كتابه. علينا أن نتأدب قليلا مع ما أنزل الله عز و جل. 


السؤال الذي سيرد هو أين هذه التوراة التي تقول عنها أنها ليست محرّفة؟ الإجابة عن هذا السؤال هو أن المقصود بالتوراة غير المحرّفة التوراة التي لم تفسدها الترجمات، التوراة التي نزلت بالعبرية، الكتب الخمسى الأولى التي يقدّسها اليهود، و ليست ترجماتها الإنجليزية أو العربية و ما إلى ذلك. فإن الترجمات أحيانا تغيّر المعنى حتى في القرآن الكريم، فمثلا تجد الآية الخامسة من سورة يونس: 


((هو الذي جعل الشمس ضياء و القمر نورا)) نجد في الترجمة ”Sahih International“ هذه الترجمة التي تغيّر المعنى:


“It is He who made the sun a shining light and the moon a derived light”


أرأيت كيف جعل قول الله القمر نورا، إلى أن القمر نوره مأخوذ في قوله Derived Light أليس هذا من تغيير المعنى؟ بالتأكيد لا أظن أن المترجم قصد ذلك، إنما بسبب معتقداته المسبقة و ما يؤمن به قرر أن يوضّح المعنى بأنه نور القمر من الشمس و ليس ذاتيا، ولكن الله عز و جل في كتابه لم يقل ذلك إنما قال القمر نورا. و سأرجع إلى مسألة القمر في فصل آخر من فصول هذا الكتاب إنما هذا مثال كيف أن حتى ترجمات القرآن قد تغيّر من المعنى، فما بالك بترجمات قديمة و غير دقيقة للتوراة؟ 


فإن قلت فما بال النصوص التي فيها تنقيص من جلال الرب سبحانه أو التقليل من شأن الأنبياء بذكر أخطائهم، أقول أن النصوص التي يُفهم منها أنه تنقيص من جلال الرب ارجع إلى التوراة العبرية الأصلية لتكتشف أن كثيرا منها أصلا ليس بتقليل من شأن الله عز و جل إنما ترجمة ضعيفة، فمثلا موضوع استراحة الله، لو أنك رجعت إلى التوراة العبرية و قرأت فيها لعلمت أنه في اليوم السابع توقف عن الخلق أو انتهى خلقه عن السماوات و الأرض، و ليس فيها أنه استراح، لكن للأسف الترجمة الإنجليزية و العربية بالفعل فيها هذه الأخطاء في الترجمة، و فرق كبير جدا بين الاستراحة و التوقّف عن الخلق أو اكتمال الخلق في اليوم السابع و هكذا أكثر النصوص. و بما أن ترجمات التوراة قد توحي بهذا المعنى و صار متداولا بين الناس و منتشرا حتى قبل الإسلام، نجد أن الله يبين في أكثر من آية أنه خلق السماوات و الأرض من دون الحاجة إلى الراحة أو أي شيء من هذا القبيل، مثل قوله عز و جل:


((وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ))


فإن قلت بأنه ما قال هذا إلا لأن التوراة محرّفة أقول لك لم تصب، بل العكس، هذه الآية في القرآن دليل على أن المسلمين و غير المسلمين الزاعمين بأن التوراة محرّفة لم يفهموا التوراة جيدا و زعموا أن فيها أن الله استراح و ذلك اتباعا منهم لترجمات التوراة، و إلا فإننا جميعا نعلم أن القرآن مصدّق للتوراة، و بما أنه في القرآن هذه الآية العظيمة التي فيها ذكر خلق السماوات و الأرض من دون أن يمسّه لغوب فلزاما ما في التوراة ليس فيها ما حسبه الناس و إلا صار القرآن مكذّبا للتوراة و ليس مصدّقا لها. 


ثم تأمل قول المسيح الذي: ((وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)) فهذا يدل أن التوراة لم تكن محرّفة لا قبل المسيح و لا زمن المسيح و لا أيام الرسول صلى الله عليه و سلم. فكتاب لم يتم تحريفه لأكثر من مئات السنين إذ أن المسيح قد صدّق التوراة التي كانت في زمنه و الله أعلم منذ متى كانت على حالها من قبل المسيح، ثم من زمن المسيح إلى زمن الرسول ما هي المدة؟ فإن كانت التوراة محفوظة و غير محرّفة كل تلك السنوات ما بالها تم تحريفها بعد ذلك و خاصة أن المتوقع انتشاره و معرفة الناس به؟ فإن التوراة لم تحرّف زمن خلاف اليهود و النصارى قبل الإسلام بالرغم من الدوافع الكثيرة للتلاعب بها و بالرغم من ذلك فإن النصارى يؤمنون بالتوراة و أنّها غير محرّفة. إن كان التحريف ممكنا فلم لم يحرّف اليهود النصوص التي فيها ذكر مخازيهم و التي هي مذكورة كذلك في القرآن؟ أليس من الأفضل تحريف تلك النصوص كي لا يكون كتابهم شاهدا عليهم و مستنكرا عليهم أفعالهم، و خاصة أن المحرّف الذي يحرّف لن يكون إنسانا يحبّ الكتاب و يعظّمه حق تعظيمه، و إلا لو كان المحرّف بحق يعظّم كتابه ما كان ليجرؤ على أن يُفكّر في تحريفه، كل هذا يدل على أن هناك خللا في تفكيرنا عندما نقول أن التوراة محرّفة.


فإن قلت إن التحريف وقع بعد زمن الرسول صلى الله عليه و سلم، فارجع إلى ما قلته بأن الله الحكيم العليم يعلم ما سيقع في المستقبل فإن علم أن التحريف سيقع فما بال الآيات التي ذكرت، ليس هذا فحسب بل تأمل قول الله سبحانه و تعالى في سورة المائدة و هي من آخر ما أنزل من القرآن كما يعلمه الدارسون لعلوم القرآن، نجد في السورة: ((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)) و بما أن كثيرا منا يثق بما قاله المفسرون، دعونا نقرأ ما قاله ابن جرير الطبري في هذه الآية:


(ومهيمنًا عليه)، يقول: أنـزلنا الكتاب الذي أنـزلناه إليك، يا محمد، مصدّقًا للكتب قبله، وشهيدًا عليها أنها حق من عند الله، أمينًا عليها، حافظا لها. * * * وأصل " الهيمنة "، الحفظ والارتقاب. يقال، إذا رَقَب الرجل الشيء وحفظه وشَهِده: " قد هيمن فلان عليه، فهو يُهَيمن هيمنة، وهو عليه مهيمن ”“ 


و أنقل لكم كلام ابن كثير:


وقوله : ( ومهيمنا عليه ) قال سفيان الثوري وغيره ، عن أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس أي : مؤتمنا عليه . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : المهيمن : الأمين ، قال : القرآن أمين على كل كتاب قبله . وروي عن عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحمد بن كعب وعطية والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسدي وابن زيد نحو ذلك . وقال ابن جريج : القرآن أمين على الكتب المتقدمة ، فما وافقه منها فهو حق ، وما خالفه منها فهو باطل . وعن الوالبي ، عن ابن عباس : ( ومهيمنا ) أي : شهيدا . وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي . وقال العوفي عن ابن عباس : ( ومهيمنا ) أي : حاكما على ما قبله من الكتب . وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى ، فإن اسم " المهيمن " يتضمن هذا كله ، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله ، جعل الله هذا الكتاب العظيم ، الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها ، أشملها وأعظمها وأحكمها حيث جمع فيه محاسن ما قبله ، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره ; فلهذا جعله شاهدا وأمينا وحاكما عليها كلها.


قال السدي في تفسيره مهيمنا عليه: شهيدا عليه و قال قتادة: أمينًا وشاهدًا على الكتب التي خلت قبله و قال سعيد بن جبير: مؤتمنًا على ما قبله من الكتب. و قال ابن زيد: مصدِّقًا عليه. كل شيء أنـزله الله من توراة أو إنجيل أو زَبُورٍ، فالقرآن مصدِّق على ذلك. وكل شيء ذكر الله في القرآن، فهو مصدِّقٌ عليها وعلى ما حُدِّث عنها أنه حق. و قال عكرمة: مؤتمنًا عليه.


فإن كان ما قاله المفسرون صحيحا فكيف إذن نقول أن التوراة محرّفة و القرآن مؤتمن و شاهد عليه و ما إلى ذلك من المعاني التي ذكرت، ألسنا بهذا القول نكون قد قللنا من شأن القرآن في كونه مهيمنا على الكتب السابقة؟ أعط هذا الكلام حقّه من التأمل لتفهم الذي أقصده. 


ليس هذا فحسب، عد إلى الآية التي فيها ذكر الهيمنة، و اقرأ أواخرها: ((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)) تأمل قول الله العظيم لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا، و جميعنا يعلم أن الكتاب المنزّل هو الذي يحتوي على الشرعة و المنهاج، فإن كانت التوراة محرّفة فهل كان الله سيجعلها شرعة و منهاجا لهم؟


ثم عليك أن تعلم أن الله ينكر على أهل الكتاب أو من سبقونا ما هو شائع بينهم و ليس ما هو مكتوب فقط، على سبيل المثال، عندما أنكر الله عقيدة التثليث قال:


((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا))


لو أنك قرأت ما في أيدي أهل الكتاب من الكتاب الذي يسمونه المقدّس أو البايبل من الصفحة الأولى إلى الأخيرة لن تجد فيها عقيدة التثليث و لكن نجد أن الله أنكر عليهم ذلك، و السبب تداول هذه العقائد و الأفكار الفاسدة. و هكذا خذ كل نص يستنكره المسلمون و غير المسلمون على التوراة و أن فيها تقليل من شأن الله ستجد أن الأمر بخلاف ما ظنوا و زعموا و لكن أنت بحاجة لتعرف أن تقرأ التوراة باللغة العبرية و تكون على دراية بتفاسيرها فإن فيها شرحا للكلمات العبرية و فيم تستخدم وما إلى ذلك. فإن المسلم اليوم إن قرأ قول الله عز وجل: 


((فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ))


قد يظن أن الله آسف على ما فعله قوم نوح، و لكن عندما يفهم معنى الكلمة باللغة العربية و موارد استخدامها يدرك المعنى، فكذلك افعل مع التوراة. 


أما فيما يتعلّق بالأنبياء و ذكر أشياء قد تعيبهم، فنعم هناك شيء من ذلك عن بعض الأنبياء، و لكن علينا أن نفهم أن عصمة الأنبياء و أنهم لا يذنبون و يخطؤون ليست من المسائل العقدية المجمع عليها عند المسلمين قبل أن يكون ذلك عند أهل الكتاب. و لست أجدني مضطرا لأستعرض الخلاف في المسألة عند المسلمين، فإن المسألة أبين في كتاب الله من استعراض الخلاف، فكم آية فيها ذكر لخطأ وقع فيه نبي، من آدم و يونس بل حتى الرسول صلى الله عليه و سلم وهذا مشهور و متداول بين الناس، فإن كان كذلك و علمت أن الأنبياء ليسوا بمعصومين، علمت أن ذكر أخطاء الأنبياء لا يعني بالضرورة أن التوراة محرّفة من أجل ذلك. 


فإن قلت ما سبب ذكر الله عز وجل أخطاء الأنبياء في كتبه، الإجابة يسيرة و ذلك لنعتبر، فإن الله لا يذكر محاسن الأولين و قصصهم للاعتبار فقط بل حتى الأخطاء فإننا جميعا من البشر، و يعترينا ما اعتراهم، فعندما نتعلّم من التاريخ نتيجة الأفعال الخاطئة الأجدر بنا أن نعتبر. ثم إنه بذكر هذه الأخطاء تعرف أن الأنبياء غير الله عز و جل، فلا يتم تقديسهم و رفعهم إلى مقام يعبدهم الناس و غير ذلك من الحكم التي من أجلها قد تجد أن في الكتب التي أنزلها الله ذكر لأخطاء الأنبياء. و من قرأ تفاسير التوراة لوجد الكثير من الحكم الجميلة و الفوائد الخفية من تدوين هذه الأمور التي قد لا تعجبنا و لكن الأمر لله من قبل و من بعد. 


على كل لن أستطيع أن أقف عند كل نص استنكره المسلمون على التوراة و جعلوها محرّفة من أجلها، فإن ذلك يطول و بحاجة إلى كتاب أو كتب كما أن لدينا كتب في دفع شبهات غير المسلمين عن القرآن. و كما أن المسلمين اليوم عندما تأتيهم الشبهة من هنا و هناك يعودون لعلمائهم و العالمين بالقرآن للرد عليها، فكذلك التوراة، لا يصلح أن تدفع الشبهات الموجهّة للتوراة بكلام كارهي التوراة، بل عليك أن تقرأ ما يقوله علماء التوراة و الخبراء فيها لتجد الإجابة المناسبة.


و بما أن كثير من المسلمين، يُقدّمون كلام ابن تيمية لم له المكانة السامية في قلوبهم، لننقل نقله للخلاف في المسألة، هل التوراة محرّفة أم لا. قال في مجموع الفتاوى: قِيلَ : لَيْسَ فِي الْعَالِمِ نُسْخَةٌ بِنَفْسِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ؛ بَلْ ذَلِكَ مُبَدَّلٌ ؛ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ انْقَطَعَ تَوَاتُرُهَا، وَالْإِنْجِيلَ إنَّمَا أُخِذَ عَنْ أَرْبَعَةٍ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ أَوْ الْإِنْجِيلِ بَاطِلٌ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ ذَلِكَ قَلِيلٌ . وَقِيلَ لَمْ يُحَرِّفْ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ حُرُوفِ الْكُتُبِ وَإِنَّمَا حَرَّفُوا مَعَانِيَهَا بِالتَّأْوِيلِ ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ قَالَ كُلًّا مِنْهُمَا كَثِيرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ الثَّالِث ُ، وَهُوَ أَنَّ فِي الْأَرْضِ نُسَخًا صَحِيحَةً وَبَقِيَتْ إلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُسَخًا كَثِيرَةً مُحَرَّفَةً. ما يهمني في هذا النص المنقول أنه أثبت أن كثيرا من المسلمين على أنه لم يُحرّف أحد شيئا من حروف الكتب و إنما حرّفوا معانيها بالتأويل، و هذا الذي أنا عليه، حرّفوها بالتفسير كما يفعل كثير من المسلمين اليوم مع القرآن، يحّرفونها لا تغييرا للحروف إنما عن طريق التفاسير التي تتفّق مع أهوائهم و أمثلة ذلك كثير جدا يصعب على الحصر.


و أخيرا أعيد نقل هذه الآية العظيمة: 


((كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ))


لاحظ كيف أن الله نفى عنهم الإيمان لأنهم تركوا التوراة و جعلوا الرسول صلى الله عليه و سلم حكما في المسألة، ففي هذه الآية من البيان على عظيم شأن التوراة و أخيرا أكتفي بهذه الآية: ((إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ))


No comments:

Post a Comment