Thursday, January 12, 2012

وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا




الإنسان في هذه الحياة الدنيا يعيش في صراع دائم مع شياطين الإنس و الجن، و يخفى عليه البعض منهم و البعض ظاهر له. ربما يتغلب الإنسان على البعض منهم إلا أن أشد معركة و أصعبها هي معركته مع نفسه التي بين جنبيه فإنها مصدر شرور و غرور تحث على مخالفة أمر الله وأمر الرسول... اعلموا أعزائي أنّ النفس البشرية فيها نار و نور ، فإن انقاد للنار هلك و غوى و إن انقاد للنور فلح و نجى. وبما أن مجتمعاتنا أصبحت غنية بالفجار الأشقياء اللئام و فقيرا بالعلماء النجباء العظام عوقبنا بأحد أعظم العقوبات و ابتلينا بأحد أعظم البليّات و هي اتصاف معظمنا بقبيح الصفات.

تمر الأيام و الليالي و عندما أرى بعض صور الفساد الأخلاقي أشعر بنوع من الوحدة و في الوقت نفسه شيء من الفخر و التكبر بأخلاقي على بعض أخلاق العبيد القبيحة فكنت أقول: أخلاقي التي أذمها مقارنة ببعضهم هي غاية أخلاق اللئام لتحقيق مكارم الأخلاق المعروفة لديهم, فإنهم يرون المعروف منكرا و المنكر معروفا, لكني لم أضع نفسي في تلك المواقف و بدأت أبرئ نفسي غافلا هذه الآية: ((وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ))

فابتليت بصدمة و قسوة في القلب كادت تذهب باللبّ, أصبت في الفترة الأخيرة بصدمة تعرضت لها نفسيتي نتيجة المحيط حولي مما يتعارض مع أخلاقي و مبادئي التي تربيت عليها و ذلك بعد ما رأيت من حولي. اكتشفت بأن القدوة الذي ظننت بأنه الحبيب صاحب الفضيلة مملوء قلبه بالقبح و الرذيلة, كان كبيرا في عيني بأخلاقه وبكلماته و لكن فارغ من تلك الأخلاق في داخله, كالبالون كبر حجمه ولا يملؤه سوى الهواء. يصدم القلب عندما تودّ أن تقتدي و تتعلم من أصحاب تظنهم من الذين أوتوا الحكمة فتخطو خطواتهم فتفاجئ بأنهم مجرد مدعي الحكمة و لكن الواقع اجتاحتهم شهواتهم و اجتالتهم الشياطين فالذي  يتكلم بالحكمة عن الفضيلة خال منها (أي الأخلاق الفضيلة) بل أفقرهم إليها وسيلة...

الأمين فقد أمانته و ذو المكانة مكانته, الكرم يشكو قلّة أهله و المنزل الشريف يسقط شرفه كأوراق الشجر في فصل الخريف. عندما ترى أرواح من حولك مصبوغة بوحل المعاصي هنا تغتال الأفراح و تحل المآسي و ينقلب القلب و يتغير. بعد وابل من الأخلاق الرذيلة من حولي وجدت في قلبي قسوة و كدت أركن إلى البعض و أقول بقولهم و أعمل عملهم لأكسب ودّهم و رضاهم. أرهقني الصراع الداخلي صراع من طرفين طرف اتباع الشهوات و أهواء هؤلاء فأكلم نفسي و أقول: "لا تكسر أبدا كل الجسور مع من أحببت فلو قلّدتهم لاستطعت ذلك و لكسبت رضاهم و صحبتهم" و لكن شيء ينبض بداخلي له صدى "لا توافق المخذولين و المحرومين من الفضيلة, لا تلتفت إليهم فثباتك أصالة و بغضك لأفعالهم أصالة, خضوعك لله شرف, أنت في نعمة فلم يحرمك الله الثبات و لم يحشرك مع زمرة الخائبين و الخاسرين"

و بينما أنا في السيارة مبتل بأمواج الأوجاع و الصراع النفسي كدت أخسر نفسي و أبيع قلبي كما فعل كثيرون غيري... حينما كنت في أوج القهر سمعت صرخة القارئ و هو يتلو: ((وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا)) عندما سمعت الآية بدأ القلب بالانقياد و رفعت الأعضاء راية الاستسلام لعظمة كلام الخالق سيد الأنام. خانتني قسوتي المعهودة وهطلت العيون بالدموع و سجد القلب قبل ذلك و لم أستطع منع دموعي ولا أن أوقفه ولست أبالي و هنيئا لعين تدمع لسماع كلام الجبار وخيبة لدمعة سببها عشق و كرة و خسارة أموال. الآية المذكورة خطاب من رب العالمين لسيد المرسلين من الأولين و الآخرين و لكني شعرت بأن الخطاب قد وجّه لي: "ليست بصلابتك و بأخلاقك و لا بقدرتك لكنها بتوفيق من رب العالمين فبالرغم من كل هذه المغريات فما تزال ثابتا... فلولا فضل من الله و رحمة و تثبيت منه و توفيق لكدت تركن إليهم شيئا قليلا...

فلكنت ممن ترك النوافل و عن أداء الفرائض متكاسل, و عن أداء الحقوق متغافل و عن الفضائل متخاذل و بالرذائل متماثل, و على منهج هؤلاء تسير الكثير من القوافل. أولئك نسوا شرف القبائل و استغربوا الفضائل و غرقوا في الرذائل و لم يلتمسوا خير البدائل.  لكنت ممّن استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير, فهجر القرآن "كلام الرحمن" و اعتكف على سماع أنغام الشيطان. إن ذكرته بكلام العزيز المنان رد عليك بكلام الولهان من كل شاعر غزل خائب خسران و فنان يفتخر بطاعة الشيطان, فلم يصن الآذان و لا حفظ الجنان و رضي بالذل و الهوان.  استبدل الأوراد و الأذكار بسيء الأفكار و استبدل التشبه بالصالحين المؤمنين و أبى إلا أن يتشبه بالكفار, فيا للخزي و العار و هؤلاء مثلهم كمثل الكلاب, مهما علمتهم فلا يحسنون سوى النباح.


"وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا"


و لكنت ممّن فرط في جهله و سفاهة عقله فسوى الخسيس بالنفيس و الحقير بالعزيز, و لكنت ممن فقد اليقين و تساهل في أصول الدين. تافه مهين دأبه أن يهين و ينال من العلماء الربانيين و من هو للخير معين. لم يكتفي بأنه قد ضل و طرد من زمرة المهتدين و لكن ضل و يضّل غيره و يستهزئ بمن لم يستجب لإغوائه فصار شبيها بالفجرة الظالمين المُبلسين. و لكنت ممن لم يكن شاكراً عند السراء و صابرا عند الضراء و لا متضرعا عند نزول البلاء, مولع بالغناء مقلّد لشياطين الإنس فنزع لباس الحياء, غافل عن الفناء و كل ذلك غباء و وباء يليق بالسفهاء... لكنت ممن أضاع الأوقات و أشغل نفسه بالملهيات و لم يبالي بالصعود لرفيع الدرجات بل يتقصى طرق الهبوط إلى الدركات و ذلك بارتكاب المهلكات و باقي المخزيات, كالجهر بعلاقته بالزانيات و هجر الفرائض و السنن و تناسى الباقيات الصالحات. إن قدّمت له النصيحة لم يقبلها و إن أمرته بالفضيلة رد بوقاحة و استمر في الرذيلة و رضى بالفضيحة بل يتعدى ذلك فيتتبع عورات و هفوات الخلق و يبتغي في سبيل ذلك كل وسيلة.

"وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا"

و لكنت ممن ضاع عمله و خاب سعيه و هدفه, أضاع ماله و أهمل أهله وإخوانه و قطع الصلة بأقاربه و عشيرته, و حسد  أصحابه و أقرانه. لكنت من الذين أحيطت بهم الخسارة, الذين خسروا التجارة فاشتروا الضلالة بالهدى و العذاب بالمغفرة فقست قلوبهم فأصبحت كالحجارة بل أشد صلابة. و لكنت مخذولا تنجرف مع الهوى و تتبع كل من غوى و أغوى بالإشادة لمرتكب المنكر و الإهانة للآمر بالمعروف. ترى ما يسخطُ ربك فلا تنهى خوفاً ممن لا يملك ضرًّ و لا نفعاً. من شؤم ما في قلبه تقول أن نهاره مظلم و لو أشعلت ألف ألف شمعة و جمعت ألف ألف نجمة في جوفه لم ترفع الظلام في قلبه.

"وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا"

تذكّر أن مهما عظم صلاحك و أخلاقك, و مهما اغتررت بعبادتك من صيام و قيام, و مهما كنت مجاهدا نفسك للمغريات و الملهيات, لولا توفيق من الله لكنت غارقا في الشهوات و امتلأ قلبك بالشبهات و الآفات. إن الله العليم الخبير، هو وحده الذي يعلم القلب العزيز من الحقير و البصير من الضرير, و يعلم ما توسوس به نفسه. ثم إن الإنسان ليجهل من نفسه أكثر مما يعلم منها, فالله عالم الغيب و الشهادة, يعلم ما في الصدور و إن كان أخفى من أخفى مستور. دع عنك الكبر و تخيل نفسك أن يحرمك الله "الثبات" فتتلاشى صفاتك المحمودة و تبقى الصفات المذمومة و يذكرك الآخرين بالخزي و العار طيلة الليل و النهار!

عندها علمت بأن الثبات على الأمر ليس من أمري و قدرتي خاصة, علمت حينها أن أعدى أعدائي إليّ هو في نفسي و بداخلي و يخالط قلبي و إنها بطبعها أمّارة بالسوء. علمت حينها أن مجاهدة المؤمن لنفسه من أعلى درجات المجاهدة, فتأتيك الدنيا الدنيّة تزين نفسها بشهواتها الدنية و يأتيك الصاحب يغريك بالباطل و يأتيك الشيطان يوسوس و ينثر بذوره في قلبك و أنت بينهم تعيش في صراع داخلي مع نفسك. صدق الله فلولا رحمة منه لاتبعنا الشيطان إلا قليلا. إخواني و أخواتي, اعلموا وفقكم الله بأن من أعظم نعم الله على العبد هي الهداية إلى الصراط المستقيم والاستقامة على منهجه القويم و الأعظم منها الثبات على تلك الاستقامة و الدين العظيم... و لذلك نقرأ في اليوم سبعة عشرة مرة في الفرائض الخمسة: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ))

عزيزي, أهديك من قلبي نصيحة... سلّم قلبك من الأدران و خالف هواك و الشيطان و الزم الجماعة في بيوت الرحمن. اعلم,  بأن قلة من الناس خلّة يبعدك عن مواطن الذلة و يشكرك على خير فعلته و يزرع فيك الهمة و يدفعك نحو القمة و بفضل الله يكشف عنك الغمة. و كثير منهم ذهبت نفسه العزيزة فلته يزيد الطين بلّة و يشحن القلب حقد و غلّة و ما يزيدك إلا غفلة و مشغلة و إن جئت تقوّمه قال: ما بيّ من علة". اعلم, بأن من الرجال من قد قلّ أن تجد له مثال, وصفه صعب المنال, له هيبة مثل الجبال, لا ينحني و إن كان بأعظم جهاد و أصعب قتال, طيب ذكره عند الناس لا يزال, معتزل كثرة القيل و القال و سيء الجدال, فذاك من عليك أن تصاحبه و تحمد الله و تشكره إن وجدته.

تجنب معاشرة الأشرار ومصاحبة الفجار ولا تصاحب من قبحت سيرته و ساءت سريرته. لا تصاحب الرديء من الناس,  اعتزل مجالستهم و قل لي مجلسي الخاص. و إن كنت وحيدا فلا بأس فهؤلاء يتجرعون من الجهل كأس فذق مرّ التعلم بلا يأس و ارفع به الرأس و إن أتاك الوسواس الخنّاس عليك به بالسيف و الفأس. إذا لم تكن من أصحاب الفضيلة فقبح الرذيلة فتلك فضيلة, و إن لم تكن قدوة لمن بعدك فكن منذراً لمن حولك. لا تبتغي الأخلاق المذمومة القبيحة و اقتفي الأخلاق الكريمة العظيمة. فليكن لك أذن عن سماع الفحش صمّ و طرف عن رؤية القبيح ضرير. اتعظ بالتجربة و استعن بذوي الخبرة و أعلن على نفسك الأمارة بالسوء "الحرب" و ارميها بالحربة و اصدق مع الرب "التوبة" لتنال المغفرة و القربة.

"وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا"

تصبح أهلا لهذا الثبات و التكريم إذا اتبعت منهج الصالحين الصادقين المؤمنين, و ذلك بمجاهدة نفسك في ذات الله لتزكّيها و تطهّرها و تخلصها من شوائب التعلق بغير الله وتذكر قوله تعالى : ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)). يحرم الإنسان من هذا التوفيق عندما يعوج الإنسان عن المنهج المستقيم و الدين القويم, عندها يرد الله الإنسان الذي خلقه في أحسن تقويم إلى أسفل سافلين  ((وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) اللهُمَّ رب اغفر لنا خطيئاتنا وجهلنا وإسرافنا في أمورنا ، وما أنت أعلم به منا، اللهُمَّ اغفر لنا جدنا وهزلنا، وخطئنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا. اللهُمَّ اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا, وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير. يا حي يا قيوم, برحمتك نستغيث, أصلح لنا شؤوننا كله و لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين و لا أقل من ذلك. يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك و يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.




4 comments:

  1. i'll take this last:

    ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

    Nice post! :)

    ReplyDelete
  2. فعلا لولا هداية الله لنا و فضله علينا لكنا من الخاسرين ، الله يثبتنا .

    ReplyDelete
  3. Thanks Loli so it seems you are understanding what I am writing.

    شكرا على تعليقاتكم

    ReplyDelete
  4. Ala elrahib wa elsaa :)

    ReplyDelete