Monday, March 28, 2022

من هو المخاطب في سورة الشرح


السلام عليكم و رحمة الله و بركاته… من باب الفائدة و حفظ المدونات، أضع بين أيديكم فصلا من الفصول المحذوفة من كتابي (بين الإلهام و الوسواس) و لقد تم حذف هذا الفصل ليرى الكتاب النور، و إلا لم يكن ليراه، و هذا الفصل كنت أتناول فيه مسألة الخطاب في القرآن.


---


إن القارئ لكلام أهل التفسير من المتقدمين و المتأخرين، و كتب أهل اللسان العربي و كتابات أصحاب القراءات المعاصرة و أهل التنوير بشكل عام، بل جميع فرق و طوائف المسلمين بشتى أنواعهم و مداركهم و مرجعياتهم، سيجدهم يتفقون على أن الرسول المخاطب في آيات القرآن و العبد الذي يذكره الله في آياته مثل (الحمدلله الذي أنزل على عبده الكتاب و لم يجعل له عوجا) هو بلا شك خاتم النبيين، رسول الله، محمد صلى الله عليه. 


و قد عرفت من هذا الكتاب أن نظراتي في كتاب الله و آياته قد تختلف بعض الشيء عن بقية الناس، لأني أسلّط الضوء على جوانب قد يغفل عنها الناس، و لكن بالرغم من ذلك فإني أقول أنا أتفق معهم، أن المخاطب في القرآن هو النبي الخاتم محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم.


عندما أقوم بربط آيات القرآن ببعضها البعض و مقارنتها و البحث عن أخواتها و شبيهاتها، و أنظر في سياق الآيات و الأنماط العجيبة التي في صفحات هذا الكتاب، و التي لا تدع مجالا للشك أنّه تنزيل رب العالمين، يضطرني كل ذلك إلى نتائج تلوح لي قد تكون مغايرة للنتائج التي توصّل إليها الناس في فهم الآيات، من ذلك في مسألة من هو المخاطب في القرآن؟


كما ذكرت آنفا، أنا مع الذين يقولون أن المخاطب في القرآن هو الرسول الكريم، إلا أنّه قد لا يكون هو المعني أو المقصود الوحيد ببعض آيات و سور القرآن، و منها سورتي الضحى و الشرح. و سآتيك ببيان ذلك محاولا تذكيرك ببعض آيات القرآن فلا تعاجلني و تعاجل نفسك.


فلنقرأ سورة الشرح: ((أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٦) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨) ))


يذكر بعض أهل التاريخ و القارئين في تلك الكتب أن سبب نزول السورة ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنه: ”إنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "سَأَلْتُ ربِّي مسألةً وودِدْتُ أَنِّي لمْ أَسْأَلْهُ، قُلْتُ: يا رَبِّ! كانَتْ قَبلي رسلٌ، منهُمْ مَنْ سَخَّرْتَ لهُ  الرِّياحَ، ومِنْهُمْ مَنْ كان يُحيي المَوْتَى، وكلمْتُ موسى، قال: أَلمْ أَجِدْكَ يتيمًا فَآوَيْتُكَ؟ ألمْ أَجِدْكَ ضالًا فَهَدَيْتُكَ؟ ألمْ أَجِدْكَ عَائِلا فَأَغْنَيْتُكَ؟ أَلمْ أَشْرَحْ لكَ صَدْرَكَ، ووضَعْتُ عَنْكَ وِزْرَكَ؟ قال : فقُلْتُ بلى يارَبُّ! فَوَدِدْتُ أنْ لمْ أَسْأَلْهُ“. و ذكر السيوطي أن سبب نزول هذه السورة: ”نزلت لمَّا عَيَّرَ المشركونَ المسلمينَ بالفقرِ“ و آخرون قالوا إشارة لحادثة شق صدر الرسول صلى الله عليه و سلم ليلة الإسراء.


جميع تلك الروايات التي يروونها في هذا الباب فيها نظر يعرفه من له دراية في علم الحديث و الرجال. أما الذين يتدبرون القرآن و يحاولون ربطها ببعض فقالوا إن هذه السورة إشارة لإكرام الله عز و جل لنبيه من شرح صدره و وضع وزره و رفع ذكره. فالذين قالوا معنى شرح الصدر هو شق الصدر ثم ربطوا هذه الآية بقصة معروفة مذكورة في ليلة الإسراء. و أما الذين قالوا المعنى من الانشراح و سعة الصدر و ما إلى ذلك قالوا إن الرسول صلى الله عليه كان كذلك إذ صدره كان واسعا فسيحا لقومه و إن حاربوه. 


و أما معنى (و وضعنا عنك وزرك) فاختلفوا فيه اختلافا عظيما إذ لم يستطيعوا معرفة هذا الوزر على وجه التحديد، إذ الله عز و جل لم يجمع الوزر (أوزار) مما قد يشير إلى وزر واحد، هذا ما فهمه أهل التفسير قديما فراحوا يبحثون عن هذا الوزر، فقالوا هو وزر قبل نبوته و بعثته صلى الله عليه. و قال آخرون بل يدل على العصمة إذ الناس لهم أوزار و الرسول له وزر و هذا طبيعي إذ ليس هو رب العالمين فوجّهوا المعنى إلى عصمة الرسول. 


و قال بعضهم هو بمعنى :(لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) و أما الذين أخذوا معنى الوزر من الثقل الملازم لصاحبه فقالوا ذلك في معنى أنه صلى الله عليه يثقل عليه أعباء الدعوة و تبليغ الرسالة و ما إلى ذلك من حزنه على الناس إذ لم يؤمنوا به: (فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفًا) و الآية التي بعدها (الذي أنقض ظهرك) أخذوها كذلك من باب تخفيف حمل الذنب أو تأنيب الضمير و أشياء من هذا القبيل. 


و أما في معنى (ورفعنا لك ذكرك) فقالوا في النداء إلى الصلاة (الآذان) و في التحيات في الصلاة  يذكر الرسول صلى الله عليه باسمه بعد ذكر شهادة أن لا إله إلا الله و أي رفعة ذكر بعد هذا. و يذكرون في هذا الموضوع رواية منسوبة لأبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ”أتانِي جِبْرِيلُ فَقالَ إنَّ رَبِّي وَرَبكَ يَقُولُ: كَيْفَ رَفَعْتُ لَكَ ذِكْرَكَ ؟ قال: الله أعْلَمُ، قال: إذَا ذُكِرْتُ ذُكرتَ مَعِي“. وقال آخرون رفع الله ذكره في الأولين والآخرين و أخذ الميثاق على النبيين أن يؤمنوا به و ينصرونه: ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)) و قال بعض المتأخرين أن اسم محمد هو أذيع الأسماء في العالم. 


ما ذكرت فيه مختصر محصّل ما ذكره أهل التفسير و الدارسين قديما و حديثا و في الحقيقة ما ذكروا أمر حسن و له وجهه من الدليل. 


فإن سألتني و ماذا عنك؟ ما الذي وجدت في هذه السورة؟ أقول مستعينا بالله، أن المقصود في سورة الشرح قد لا يكون هو خاتم النبيين فحسب، بل قد يُفهم من الآيات معني آخر، كما يقول بعضهم (إشارة) لنبي كريم آخر و هو موسى صلى الله عليه! عزيزي القارئ، أعرف أن هذا قد صدمك، لكن اصبر، لا تعجل و لا تعاجل علي و اقرأ بيان ذلك.


لعلّه من أشهر أدعية القرآن هو دعاء النبي الذي كلّمه الله تكليما، الدعاء الذي نجده في سورة طه، سؤل موسى: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (٢٩) هَارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (٣٥))) كيف كانت الاجابة لهذا من رب العالمين: ((قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى)) سبحان الله! 


لاحظ بدأ موسى بطلب أن يشرح الله صدره فاستجاب له الله ذلك في نفس السياق. و هذا يعني أن أول آية من سورة الشرح ينطبق على موسى تماما: (ألم نشرح لك صدرك) إذ أن الله شرح له صدره، و يسّر له أمره. 


و معنى انشراح الصدر نجده في القرآن ليس كما ظنّ بعض أهل التفسير من شق الصدر و اخراج ما فيه من الذنوب، الشرح هو بمعنى الانشراح و الارتياح و السعة الذي هو ضد الضيق و الحرج و الانغلاق، اقرأ ذلك في سورة الأنعام: ((فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُۥ يَشْرَحْ صَدْرَهُۥ لِلْإِسْلَٰمِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُۥ يَجْعَلْ صَدْرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ٱلسَّمَآءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)) و أيضا في سورة الزمر: (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) فانشراح الصدر دليل على هداية الله و ضيق الصدر وحرجه و قسوة القلب دليل على الضلال. و الصغير منا يجد في القرآن عن موسى من ذلك الشيء العظيم، من ذلك أن موسى عليه السلام خاف من تكذيب قوم فرعون له، فقال: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ) انتبه لقوله (و يضيق صدري)


و أما بخصوص قول الله عز و جل (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) )) فهل نجد مصداق ذلك في القرآن عن موسى عليه السلام؟


أقول بلى نجد ذلك بيّنا جليا. أولا إن أخذنا المعنى من الذنب و الوزر الذي يلحق صاحبه فنجد في القرآن عن موسى أنه قتل نفسا كما في سورة القصص: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (١٥) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) و في نفس السورة أيضا قال: (قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ)) أليس القتل ذنب و وزر؟ قال موسى عن نفسه في سورة الشعراء: (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ) و لكن الله غفر له ذلك بعد أن دعاه موسى كما في سورة القصص و كذلك في سورة طه: (وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ)). 


و لاحظ أن هذا الذنب هو الذنب الوحيد الذي يتكرر مع موسى و ليست مجموعة أوزار إنما وزر أثقله و لازمه في كتاب الله في ثلاثة مواضع على الأقل، على لسان نفسه، و فرعون إذ ذكّره بفعلته، و الله عز و جل إذ يمتن على موسى. 


وانتبه كيف كان موسى في غم، و الفرق بين الهم و الغم أن الهم يكون من شيء مستقبلي يجعلك مهموما في حين الغم أمر فعلته في السابق تشعر بالحزن و الندم فيجعلك في غم. و لكن ماذا قال الله عز و جل لموسى بعد أن ذكّره بقتله النفس: (فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ)! ألا تجد هذا المعنى يتوافق بشكل عجيب مع قوله: (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ)؟


و لا تغفل عن المفردات المستخدمة في هذه الآيات التي ذكرتها، بعد حادثة القتل و مغفرة الله لموسى عليه السلام، ماذا قال موسى في سورة القصص؟ > (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ) انتبه لقوله: (ظهيرا) و قارنها بـ(ظهرك). هذه واحدة. 


و الثانية في سورة طه، طلب موسى من رب العالمين هذا > ((وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (٢٩) هَارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢))) انتبه أولا لقوله (وزيرا) و الوزير من الوزر لأنه يتحمل عن الملك أوزاره أو من الموازرة وهي المعاونة و فيها من معاني التقوية، اقرأ في هذا الجزء من آية سورة الفتح: (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ) فآزره أي فقواه.


ثم انتبه لقوله: (اشدد به أزري) و هو في معنى أشدد به عضدي أو ظهري أو أمري، يُروى عن ابن عباس: ”قوله (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) يقول: أشدد به ظهري.“ و مثله عن مجاهد. و عن ابن وهب: ”اشدد به أمري، وقوّني به، فإن لي به قوّة“. و في كلام الله الكفاية، إذ قال الله عز و جل في سورة القصص: (قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ۚ بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) أي الله أعان موسى بارساله هارون معه، فصار هارون عليه السلام ظهرا و ظهيرا لموسى. إذن، بأي معنى أخذت في معنى الوزر، سواء في الذنب أو من حمل الثقل و الأعباء تجده ينطبق على موسى عليه السلام بشكل بيّن جلي دليله من القرآن نفسه و ليس من خارج القرآن، فسبحان الله العظيم الذي هذا كلامه. 


و أما قوله: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) لا أظن قارئا للقرآن سيغفل عن هذه الحقيقة أن موسى هو أكثر نبي مذكور في القرآن، و أن ذكره مرفوع في العالمين، رسول كريم، رسول أمين، كيف لا و هو الذي اصطنعه الله لنفسه و كلّمه تكليما. هذا النبي عظيم مرفوع ذكره في العالمين، كل ما عليك أن تقرأ القرآن لتعرف ذلك و ليس هناك حاجة في مزيد بيان على هذا.


و أما بقية الآية، نلحظ ذلك جليا كيف كان مع العسر الذي واجهه موسى يُسرا منذ البداية حتى النهاية. فلما قتل نفسا نجّاه الله من الغم، و لما توجّه تلقاء مدين و استظلّ بالشجرة و كان فقيرا كيف يسّر الله له بمسكن و عمل و زوجة. و عندما كان البحر أمامه و فرعون و جنده من خلفه كيف جاءه اليسر، حياة موسى عليه السلام كله في القرآن فيه بيان عسر و من ثم تيسير من الله سبحانه و تعالى، لست بحاجة لذكر أحاديث موسى إذ يعرف ذلك الصغير منا قبل الكبير. 


و نفس الشيء يمكن أن يقال عن قوله: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨) )) نعرف ما قاله موسى: ( كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا) و ((إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)) و ((عجلت إليك ربّ لترضى)) لاحظ كيف أنّ موسى عجل، المفهوم من الآية أنه استعجل أمرا، كان عليه أن يفرغ من أعماله مع قومه، ثم يأتي ميقات ربّه، سبحان الله > (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨) )) و الآيات في هذا العلاقة كثيرة يمكن الاستشهاد بها على ما أنا فيه لكن يكفي ما ذكرت.


انظر كيف القرآن يصدّق بعضها بعضا، لاحظ أني في هذا الفصل لم أحاول أن أجد مصداق سورة الشرح في الروايات التاريخية عن موسى، و لا حتى في التوراة إذ فيها ما يكفي أن تكتب مقالات عدة في إيجاد العلاقة بين سورة الشرح و موسى بل اقتصرت على الاستدلال بآيات القرآن و في القرآن الكفاية في مطلوبي و الحمدلله رب العالمين.


و بهذا بان لنا أنه و إن كان الخطاب للرسول صلى الله عليه و سلم، فإن المتدبر للقرآن لا يغفل عن هذه العلاقات التي قد تخفى على البعض، و قد ذكرت الشيء الكثير من هذا عندما تكلّمت في فصل: “من هو العبد الذي أسري به” إذ قلت بأنه و إن كان الرسول هو المخاطب و هو الذي وقع له الإسراء فقد يكون مع الرسول رسول معني آخر و هو موسى عليه السلام و قع له الإسراء و سردت أدلة كثيرة هناك فإن لم تستوعبها حينها فعد إليها و اقرأها عسى الله يُيسّر فهمها عليك. 


و بالتأكيد هذه الفكرة التي طرحتها قد يجعل المرء يمعن النظر في جمع من الآيات في القرآن من زاوية أو عدسة غير التي اعتاد النظر من خلالها و سيكتشف بحارا أبعد من هذا البحر العظيم الذي بين يديه غير أن البحر البعيد و البحر القريب لا يبغيان على بعضهما البعض، إنما يمتزجان و يتوافقان تماما.


قد يستشكل البعض فيقول: “يا رجل كيف الخطاب يكون لموسى؟ ليس من طريقة القرآن بخطاب غير الحاضر زمن تنزيله و لا نجد في كتابات العرب مثل هذا” أقول، يا رجل كل ما عليك فعله أن لا تقارن الله عز و جل بشيء من مخلوقاته، و لا تقارن كتابه بشيء من كتب البشر و طرقهم في الكتابة و أساليبهم في الخطابة، الكتاب العزيز، كلام الله، ثم إن الرحمن خارج نطاق الزمان و المكان الذي يحدّ من البشر. فالرحمن يعرف أهل النار قبل أن يولدوا، و يعرف أهل الجنة و هم أطفال. بمعنى أن الوقت و التسلسل الزمني الخطي لا ينطبق على الله. فمن يدري لعل في هذه الآية الخطاب موجّه كان لموسى أيضا في وقت ما، أنت عنه غافل، و هو أيضا خطاب موجّه إلى الرسول صلى الله عليه و سلم في وقته بالنسبة للوقت البشري. 


عندي عدد من الأدلة أكثر من الذي ذكرت، لكن فيما ذكرت الكفاية لمن كان يعي ما يقرأ، و هناك أمور أكثر عمقا و أوسع نطاقا لكن لا أظن غالبية قرّاء هذا الفصل سيستطيعون فهم كلامي لأني لا أطيق التعبير عنه بشكل مفهوم لا خفاء فيه حتى الآن، إلى أن يُيسّر الله لي ذلك فأقوم بتدوينه في كتاب غير هذا و حتى ذلك الحين قف عند ما ذكرت و تأمل في كلامي و قد تجد ما يدعم كلامي إن أنت بحثت بنفسك. و الله هو الهادي إلى صراط مستقيم.

No comments:

Post a Comment