في المقالة السابقة بيّنت العلاقة بين سورة الشرح و موسى عليه السلام. و ذكرت أن الخطاب و إن كان للرسول صلى الله عليه و سلم فقد يكون موسى معني بالخطاب أيضا أو مقصود له. و قلت أن هذا أثره كبير في تدبر القرآن و قد يجعلنا نكتشف علاقات و تشابهات رائعة جديدة. دعونا نجرّب ذلك مجددا في السورة التي قبلها؟ أعني سورة الضحى.
سورة الضحى و الشرح تعتبر عند البعض كسورة واحدة مثل ما يقولون في سورة التوبة و الأنفال، و مثل ما يقولون في سورة الفيل و قريش. بل بعض الفقهاء سواء من السنة أو الشيعة لم يجوّز قراءة سورة الضحى من دون سورة الشرح و هذا تحكّم منهم لا يسعفهم فيها الدليل.
على أية حال، سورة الضحى و سورة الشرح فيها تشابه، و مناسبات كثيرة أذكر أهمّها: كلاهما متتابعتين، و كلاهما مكيتان على الأقل عند من يأخذ بتقسيم السور إلى مكية و مدنية، وكلاهما تتحدثان عن النعم التي أكرم الله تعالى بها الرسول صلى الله عليه.
لنقرأ سورة الضحى و هذه المرة بدلا من جعل المخاطب هو النبي الخاتم سأشير بإشارات لعلاقة هذه السورة بموسى، أما التفصيل فبحاجة لمقال لا يقل طولا عن فصل سورة الشرح لكن سآتي على بعض النعم المذكورة في السورة.
قال الله عز و جل: ((أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى)) لا يخفى عليكم أن موسى عليه السلام ليس لوالده ذكر في القرآن، بل ليس في الحديث و لا التوراة و لا الكتب التاريخية قصص موسى مع والده.
في القرآن لم يكن والده معه عندما ألقته أمّه في اليم، فهو يتيم بمعنى > (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)
و أين كان إيواء موسى؟ عدة مرات، مرة في بيت فرعون: (وَقَالَتِ ٱمْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍۢ لِّى وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰٓ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) و في سورة الشعراء: (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ)
و إيواء آخر عندما عاد لأمه: (إِذْ تَمْشِىٓ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُۥ ۖ فَرَجَعْنَٰكَ إِلَىٰٓ أُمِّكَ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ۚ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَٰكَ مِنَ ٱلْغَمِّ وَفَتَنَّٰكَ فُتُونًا ۚ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِىٓ أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍۢ يَٰمُوسَىٰ)
و المرة الثالثة في قصة مدين: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ۚ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَٰلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ۖ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ ۖ وَاللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) لاحظ كيف هذا الترابط العجيب بين آيات سورة الضحى و قصة موسى عليه السلام.
و أما عن قوله: (وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) فهذا تجد مصداقها أولا في كلام موسى عن نفسه: (قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذًا وَأَنَا۠ مِنَ ٱلضَّآلِّينَ) فهذه مرة، يعني عندما قتل نفسا، و لكن الله شرح صدره و وضع عنه وزره.
و المرة الثانية عندما توجّه تلقاء مدين استظل بالشجرة لم يكن يعرف أين عليه أن يذهب إلى أن قدّر الله أن يلتقي مع زوجته و يعيش مع أبوها و يعمل عنده.
و المرة الثالثة: (إِذْ رَءَا نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ ٱمْكُثُوٓاْ إِنِّىٓ ءَانَسْتُ نَارًا لَّعَلِّىٓ ءَاتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدًى) و بالفعل وجد الهدى هناك و أيّ هداية!
و المرة الرابعة عندما كانوا في التيه قيل لهم ادخلوا القرية.
فكل ما ذكرت من معاني الهدى، إذ الضلال لا يعني بشكل مطلق الذنب أو ما يترتّب على الذنب يعرف ذلك كل من له اطلاع على استخدامات المفردة في اللسان العربي.
انظر هذه الموافقة العجيبة مع موسى عليه السلام و قارنها بصعوبة تحديدها بالنسبة للنبي الخاتم، رسول الله محمد صلى الله عليه و سلم عند أهل التفسير و الفقهاء.
و أما قوله سبحانه: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) فهذا واضح، إذ كان موسى ضعيفا فقيرا ليس بمقدوره دفع ظلم فرعون عن نفسه لكن أغناه الله إذ جعله في بيت فرعون هذه واحدة.
و الثانية عندما توجّه تلقاء مدين ليس معه شيء لكنه تزوّج و عمل عند أبو زوجته.
و الثالثة بعدما ورث بنوا إسرائيل قوم فرعون > (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ) و من أراد وجه هذا الدليل بالتفصيل فليرجع كتابي (بين الإلهام و الوسواس) ففصّلت في هذا كثيرا و أثبت أن بني إسرائيل صاروا ملوكا بعد أن نجّاهم الله من فرعون.
فثلاث مرات على الأقل من القرآن نفهم كيف أن الله الغني الحميد أغنى رسوله الكريم موسى عليه السلام.
أما القارئ في التوراة التي عند اليهود اليوم، و الروايات التاريخية لا يخفى عليه ذلك البتة، إذ فيها الشيء الكثير الكثير من ذلك، لكني أعرض عن ذكر الأدلة من تلك المصادر لأني أريد أن أقتصر فقط على أدلة القرآن و هي كافية وافية و الحمدلله
فكما ترى، على وجه الاختصار، لاحظ ترابط سورة الضحى و الشرح بموسى عليه السلام. و مرة أخرى أقول و إن كان الخطاب للرسول النبي الخاتم محمد صلى الله عليه و سلم، لا يمنع أن يكون المعني في الآيات هو موسى كليم الله كما ذكرت في فصل المخاطب في سورة الشرح. و الله هو الهادي إلى صراط مستقيم و إليه المنتهى.
No comments:
Post a Comment