Tuesday, March 8, 2022

التسخير

 


إن المتدبر كتاب الله العزيز، سيجد أن الله ذو النعم التي لا تُحصى في آيات كثيرة يمتن على الناس بتسخيره لهم ما في السماوات و الأرض. السؤال لماذا كُل هذا التسخير لهذا الإنسان الذي يعيش على أرض حقيرة؟ (طبعا إن أخذنا بالمنظومة العلمية الحديثة) ألا يدل هذا أن للإنسان مكانة عظيمة بخلاف ما تقوله النظريات العلمية الحديثة كالانفجار العظيم و التطور؟ 


تعال نقرأ معا ما الذي سخّره الله الغني الكريم لنا، قال في سورة إبراهيم: (اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ) و قال الحي القيوم في السورة نفسها: ((وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) و في سورة النحل: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) و في سورة النحل أيضا: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) و في سورة نفسها: (أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) و في سورة الحج: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) و أيضا في سورة الحج: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) و في سورة العنكبوت: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) و في سورة لقمان: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ).


نفهم من هذه الآيات العظيمة أن الإنسان مسخّر له أشياء كثيرة، الليل و النهار، و الشمس و القمر، و البحر و الفلك التي تجري فوقه و الطير في السماء و البدن التي تدب على الأرض. كما قال العزيز الوهاب (سخر لكم ما في السماوات و ما في الأرض) يعني كل هذا هذه الأمور مسخّرة للإنسان، لماذا؟ 


و أيضا أريدك أن تلحظ أمران مُهمان، الأمر الأول أن جميع الأمور المسخّرة في حركة، الشمس و القمر دائبين، يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا، و الفلك تجري في البحر و تجري الأنهار، و الدواب في حركة و الطير صافات و السحاب، و غيرها من المُسخّرات إن أنت دققت فيها لوجدتها في حركة. و بما أن الأرض هي الحد السفلي من العالم و هي قرار و ساكنة فإنّها غير مُسخّرة.


الأمر الثاني، في جميع هذه الآيات لم يقل الرحمن في أي منها سخّر لكم السماوات أو سخّر لكم السماء أو سخّر لكم الأرض إنما تجد (سخّر لكم ما في السماوات و ما في الأرض) و تجد (سخّر لكم ما في الأرض) الذي أريدك أن تتنبّه له حرف (في). مما يدل أن هذه المسخّرات لا تخرج عن نطاق السماوات و الأرض. و هذا يعني أنّ ما هو مسخّر بين السماء و الأرض بلا شكّ أنه أصغر منهما إذ أنّ المُسخّر في نطاق داخل الحد العلوي و الحد السفلي للعالم. و هذا يعني أن كل من الليل و النهار، و الشمس و القمر في الحقيقة أصغر من السماوات و أصغر من الأرض لأنها أمور مسخّرة بينهما، بين الحد العلوي و السفلي للوجود الإنساني الدنيوي و لهذا تسبق ذكر خلق السماوات و الأرض خلق الليل و النهار أو الشمس و القمر في الآيات. 


مثال ما سبق، اقرأ في سورة البقرة: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) لاحظ ذكر الرحمن الرحيم أولا خلق السماوات و الأرض ثم ذكر تبارك و تعالى المسخّرات التي هي داخل نطاق السماوات و الأرض من الليل و النهار و الرياح و السحاب. و كذلك في سورة آل عمران: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ) و كذلك في سورة الأعراف: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) و أيضا في سورة الأنعام: (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ).


كما ترى، جميع الآيات العظام كالليل و النهار و الشمس و القمر كلها تعتبر من ضمن الأمور المسخّرة بين السماوات و الأرض. و بما أن هذه المسخّرات هي بين حدّين، إذن لا شكّ أنها أصغر، و هذا يعني أن الشمس أصغر بكثير من السماوات و الأرض و هذا يتضارب على طول الخط مع نموذج مركزية الشمس و النموذج الكروي للأرض، فإن الشمس عندهم أكبر من حجم الأرض بكثير و لكن هذه الآيات تثبت عكس ذلك. لأن الأرض إن كانت كروية و هي مُحاطة بالفضاء أو السماء، فإن كلمة (بينهما) قد يكون من أي اتجاه من الأرض من نقطة البداية إلى نقطة المقارنة (السماء). فمثلا الذي يقف في القطب الشمالي، بين الأرض من اتجاهه و السماء مسافة معينة، و هذه المسافة قد تكون مختلفة إن قلنا إن نقطة البداية ليست القطب الشمالي إنما القطب الجنوبي و قس على ذلك الشرق و الغرب. و بناء على ما سبق فإن هذا يعني أن الأمر لا يستقيم مع نموذج مركزية الشمس و الكرة الحقيرة التي تسبح في الفضاء، و لكي يكون الأمر أقرب إلى الصواب لابد أن نقول أن الأرض في المركز. و لكن حتى نموذج مركزية الأرض الكروية لا يستقيم مع استخدامات اللغة إذ أن عندهم الشمس و النجوم و المجرات أعظم حجما من الأرض ملايين المرات و بهذا لا يصح ذكر البينية المفهومة المنطقية في الآية و كذلك سنعود إلى مشكلة الاتجاهات و مشكلة وقوع السماء على الأرض. 


باختصار الآيات التي فيها ذكر السماوات و الأرض و ما بينهما فيها رد على جميع نماذج الأرض الكروية، سواء نموذج مركزية الأرض أو نموذج مركزية الشمس. و بالتأكيد فإن هذه الآيات كلّها لا يمكن صرف ظاهر معانيها، فإن حاول المتعصّب للعلوم الكونية الحديثة صرف آية عن ظاهر المعنى لن يستطيع أن يفعل ذلك مع جميع الآيات التي فيها ذكر تسخير الليل و النهار و الشمس و القمر و الحمدلله رب العالمين

No comments:

Post a Comment