السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... وهذه المدونة نتيجة النقاش الذي حصل
بيني وبين اخواني المشايخ, وهذه ثالث مشاركة كتبتها بعد النقاش. الأول كان في بيان
الفرق بين القرآن والسنة, أما الثاني في الغلو, وهذه المشاركة للتفريق بين قطعي
الثبوت وقطعي الدلالة. كثيرا ما كنت أعيد وأكرر في نقاشي فأقول لشيخي الفاضل, بنيت
عقيدتك على ما هو غير قطعي الثبوت, أو ظني الثبوت, أو أحيانا أقول له لا تستطيع أن
تلزمني بفهمك لأنك أخذت آية فيها دلالة لما تذهب إليه لكن دلالة غير قطعية إنما
ظنية, فكنت أقول له الآية غير قطعية الدلالة. فأحد الإخوة استغرب مني أكرر ذلك ولا
أعلم يقينا إن كانوا يفرقون بين ما هو قطعي الثبوت وقطعي الدلالة. ففي هذه
المشاركة التي سأحاول أن أختصر فيها أبين الفرق.
أما بالنسبة "لقطعي الثبوت" فإن مثاله الأعظم القرآن الكريم, القرآن
قطعي من حيث الثبوت بأنه لا خلاف بأن هذا القرآن الذي في أيدينا هو نفسه الذي كان
في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وفي زمن الصحابة. وجود النبي صلى الله عليه وسلم
قطعي الثبوت. أي لا مجال للشك في ثبوت القرآن الكريم, فإن اليقين حاصل بثبوت هذا
الكتاب وأنه هو الذي أوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي بلغه النبي
صلى الله عليه وسلم للناس. فآيات القرآن من سورة الفاتحة إلى سورة الناس كلها
ثابتة قطعي الثبوت. ولكن من حيث الدلالة فمنه ما هو قطعي الدلالة ومنه ما هو ظني الدلالة.
أما بالنسبة "لقطعي الدلالة" فمعنى ذلك أن تكون دلالة الآية
(النص) على المعنى قطعية لا شك فيها ولا يحتمل اللفظ إلا معنى واحدا فيتعين حمله
عليه. مثل قول الله سبحانه وتعالى: ((قل هو الله أحد)) على وحدانية الله أو
قوله سبحانه: ((إنني أنا الله لا إله إلا أنا...)) الآية ومثل قوله عز وجل:
((إن الله لا يغفر أن يُشركَ به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)) على تحريم الشرك
بالله, هذا يسمى في أصول الفقه بقطعي الدلالة. ويقابله (أي قطعي الدلالة) ظني الدلالة،
وهي ما كانت دلالته على المعنى ظنية لا قطعية, أي اللفظ يحتمل الظاهر ومعنى آخر أو
عدة معاني فلا يتعين حمله على واحدا منها. مثل دلالة قوله تعالى : ((وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)) فلفظ القرء قد يقصد به
الحيض و قد يقصد به الطهر ولا يمكن التعيين إلا بدليل يعيّن المراد. فمثل هذه
الآية توصف بأنها قطعية الثبوت ظنية الدلالة ولهذا السبب أقصد في ظنية الدلالة نجد
الاختلاف في تفاسير القرآن الكريم, أما في الآيات قطعية الثبوت وقطعية الدلالة
فكلهم متفقون إلا ما كان من أصحاب المنهج الباطني في التفسير فيما أعلم.
القرآن قطعي الثبوت, وفيه ما هو قطعي الدلالة وما هو ظني الدلالة. أما
الأحاديث المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم ما هو ظني الثبوت قطعي الدلالة, أو
قطعي الثبوت ظني الدلالة, أو ظني الثبوت ظني الدلالة. ومعنى ظني الثبوت أن النص
غير ثابت يقينا عن النبي صلى الله عليه وسلم, فقد يصح نسبة القول إلى النبي صلى
الله عليه أو سلم أو لا يصح, بخلاف القرآن فإن كل آيات القرآن قطعي الثبوت. ولا
يخفى على أي دارس في علم الحديث بأن معظم الأحاديث المنسوبة للنبي صلى الله عليه
وسلم ظني الثبوت, وذلك لأن معظم الأحاديث هي أحاديث آحاد, وحديث الآحاد هو ما لم توجد
فيه شروط المتواتر سواء أكان الراوي واحدا أو أكثر والعلماء اختلفوا في حجية خبر
الآحاد وليس هذا موضع تفصيل الخلاف.
فالذي حصل في نقاشي مع شيخي وتلامذته الكرام, بأنهم كانوا يلزموني بعقائد
أثبتوها لأنفسهم بناء على أحاديث ظنية الثبوت, مثل ذلك حديث في دعاء النبي صلى
الله عليه وسلم لمعاوية: "اللهم اجعله هاديا مهديا" فقالوا إن ذلك يدل
على أنه من أهل الجنة وعدل, فقلت الحديث غير قطعي الثبوت, بل الغالب بأن الحديث
ضعيف, فكيف تريد أن تلزم مسلما آخر بالاعتقاد والحكم على معاوية بأنه في الجنة
بسبب دليل ظني! لأن المسلم لا ينبغي له أن يقحم نفسه في الأمور العظام وينصب نفسه
وكأنه إله مستدلا بأمور ظنية فيحكم على فلان بالجنة وفلان في النار. ثم استدل الشيخ
بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا أصحابي..." الحديث فقلت له بأن
الحديث ظني الدلالة, وذلك لأن اللفظ يحتمل أن يكون الصحابي على حسب تعريف أهل
الحديث, ويحتمل أن يكون على حسب تعريف الفقهاء ولا دليل يرجح هذا على ذاك بل غالب
الأدلة بخلاف ما يذهب إليه أهل الحديث كما بينت ذلك في "سلسلة عدالة الصحابة
الجزء الأول والثاني". وهكذا استدل بعدة أدلة في قتال الكفار بآيات قرآنية,
صحيح أنها قطعية الثبوت إلا أنها ظنية الدلالة, فتحتمل الآية أكثر من معنى, فكيف
تريدني أن أحكم بقتل إنسان بناء على فهمكم النسبي للآية؟
المشكلة أيها الإخوة, أن كثيرا من طلبة العلم وحتى العلماء, يحولون النسبي إلى مطلق, فيساوون بين ما هو نسبي, وظني الثبوت بما هو قطعي الثبوت, فيجعلون حديث الآحاد يساوي الحديث المتواتر, ويوسعون آية هي ظنية الدلالة ليجعلوها قطعية الدلالة وهنا يختلط الحابل بالنابل ويهرف بعضهم بما لا يعرف ويظن بأن الحق المطلق عنده وتحت سيطرته والطرف الآخر لا يملك شيئا من الحق ولهذا يسهل عليهم أن يباهلوا أو يقسموا الأيمان المغلظة على عقائدهم, وإن هم عرفوا هذا الفرق الدقيق كما هو موضح في هذه المشاركة لما تجرؤوا هذه الجرأة العظيمة. والحقيقة قرأت لعلماء الأصول في هذه المسألة فلم أجد أحدا عبر عنها بأسلوب وتفكير أجمل من الدكتور عدنان إبراهيم في خطبته الأخيرة والتي كانت بعنوان: "الأصولية... ومعنى أن تكون إنسانا" أنصحكم بالاستماع إليها. وسبحان الله لم أستمع إلى هذه الخطبة إلا اليوم, أي بعد نقاشي البارحة, وكنت أتمنى لو أني استمعت إلى الخطبة من قبل لأرسلها لهم قبل نقاشي, لكن قدر الله وما شاء فعل. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
No comments:
Post a Comment