Sunday, September 7, 2014

سلسلة تصحيح مفاهيم - حجية السنة


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... أضع هذه المشاركة بعد أن تلقيت وابلا من التهم الباطلة ونشر الأكاذيب عني بخصوص السنة. وبما أن هناك من يحسن الظن بي, فقد يشتبه عليهم بعض المشاركات التي كتبتها أخيرا, وذلك لأن ليس كل زوّار هذه المدونة من المتخصصين في المواضيع التي أكتبها, فكان لابد من التوضيح لكي لا يغتر من يتابعني بتهم وأباطيل الذين يرمون الناس كذبا وزورا فقط لينفروا البقية ممن يُبغضون. من هذه التهم التي كرروها بأني أنكر حجية السنة, وهذه المشاركة سأخصصها للرد على هذه التهمة. لن أتطرق إلى تعريف السنة لغويا أو أدلة حجية السنة وأدلة المخالفين وغير ذلك, فالغرض الأساسي من هذه المشاركة هو التفريق بين انكار حجية السنة وحجية الرواية.

أولا أقول بأني ولله الحمد لا أنكر "حجية" السنة أبدا, بل إني بخلاف كثير من الدارسين اليوم وأقول بأن السنة ملزمة. وأسأل الله أن يثبتني على كل ما يحبه ويرضاه. ثانيا, أحب أن أقول بأنه قد اختلف في تعريف السنة. فأهل الحديث لديهم تعريف, والفقهاء لهم تعريف آخر والأصوليين لهم تعريف ثالث ومرد هذا الاختلاف في تعريفاتهم الاصطلاحية للسنة بسبب اختلاف تخصصاتهم وأغراضهم. فأهل الحديث تخصصهم وغرضهم نقل كل شيء عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أخبار وأقوال بغض النظر إن كان الحديث الذي يروونه فيه حكم شرعي أم لا. أما الفقهاء إنما مرادهم البحث في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي فيها دلالة لحكم شرعي ولهذا نرى بعض الفقهاء لا يهتم كثيرا بسند الأحاديث المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم, لأنهم يريدون الأحكام وهذا في الحقيقة فيه تساهل وأما علماء الأصول فيهتمون بالقواعد. فلذلك كان هناك اختلاف في تعريف السنة للعلماء لأن كل فئة لها غرض. ما الذي سنستفيده من هذا الاختلاف؟ سنستفيد بأنه لا يلزم الفقيه تعريف المحدثين, ولا يلزم المحدثين تعريف الأصوليين للسنة, وهذا يعني لا ينبغي تكفير الفقهاء لأنهم عرفوا السنة بتعريف مخالف لما عليه أهل الحديث وذلك لأن تعريف السنة اصطلاحا من الأمور الاجتهادية, ولمزيد من التفاصيل يرجى الرجوع لكتاب معاذ الخطيب والذي هو بعنوان نقد المتن بين النظر الفقهي والحديثي. أما أي التعريفات هي أدق مقارنة بالقرآن واللغة, فهذا مبحث آخر لا أريد أن أتطرق إليه الآن.

أحب أيضا تبيين الفرق بين حجية السنة وحجية "رواية" معينة تنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم. مثال الأول, إن ثبت لنا قطعا لا مرية فيه بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا وجوبا بفعل أمر معين, فإن أنا كنت معتقدا بأن هذا الأمر ثابت 100% عن الرسول صلى الله عليه وسلم وكلامه قطعي الدلالة فهنا إن قلت بأن هذا الأمر لا يلزمني فإني عندها أكون ممن يُنكر "حجية السنة". أما إن جاءني أحد من الشارع فقال لي إن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بقتل الضفدع فقلت له سأبحث وأدرس سند الحديث ومتنه, ثم بعد الدراسة اكتشفت بأن هذا الحديث لا يصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم لوجود راوي كذاب ضمن سلسلة السند. فهنا لسبب وجود هذا الكذاب في سند الرواة قلت لهذا الذي أخبرني بأن الرسول أمر بقتل الضفدع, أقول له بعد دراستي للحديث لا يلزمني قتل الضفدع, لأني أرى بأن الحديث ضعيف, أي لا ينبغي أن يُنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم, هنا لا أكون منكرا لحجية السنة, إنما سأكون منكرا لحجية هذه الرواية. ثم إن انكار حجية رواية واحدة لا يعني بالضرورة انكار جميع الروايات في الباب, فمثلا قد أجد رواية أخرى تنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع اختلافات في اللفظ, بدلا من الضفدع, قال: "العقرب السام" ومن ثم بحثت سند الرواية بلفظ "العقرب السام" و وجدته صحيحا خال من أي خلل أو شبهة, فقبلت الحديث, هنا لا أكون أنكرت جميع الروايات في الباب, إنما أنكرت فقط لفظة واحدة من الحديث لأنه تبين لي بأن الرواية التي فيها أمر بقتل الضفادع في سندها كذاب, أما الروايات الأخرى ثقات. فلا ينبغي أن يُقال لي بأني آخذ الأحاديث على حسب الهوى فما وافق عقلي آخذه وما لم يوافق نبذته! لا إنما المدار على صحة نسبة الحديث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والاطمئنان إلى صحة هذه النسبة مع انتفاء الموانع من قبول صحة هذه النسبة. 

عندما تجدونني أدعو طلاب العلم والعلماء بالبحث في أسانيد مرويات أحد الرواة فهذا لا يعني أبدا بأني أشكك في "حجية السنة" إنما أشك في بعض الروايات لوجود موانع من قبولها مطلقا, وعندما أدعو الناس إلى دراسة أسانيد مرويات أبو هريرة, فهذا لا يعني بأني أتهم أبو هريرة نفسه, إنما أدعو إلى دراسة أسانيد مروياته, فقد يكون أحدهم يكذب الكذبة ثم ينسبها للصحابي. ثم إن تبين لنا بأنه ليس هناك خلل في سلسلة الرواة ندرس المتن نفسه ونقارنه بمتون أخرى في نفس الباب من غير طريق هذا الصحابي, بل صحابي آخر, ونقوّم الأحاديث بعضها ببعض. أما من يدعي معصومية جميع الصحابة أو شيء من هذا القبيل فأدعوه إلى قراءة ما كتبته في سلسلة تصحيح مفاهيم, سواء عن عدالة الصحابة أو مرسل الصحابي وغير ذلك. وأيضا أدعو الناس عندما يبحثون في أسانيد هذه المرويات أن يتركوا العصبية والطائفية. تجد بعضهم مباشرة يتهمون عمار بن ياسر فقط لأنه كان مع علي, أو يتهمون أبو هريرة وغيره لأنهم كانوا مع معاوية. لا! لابد من الدراسة الجدية والبحث المتعمق, فمن يدري, لعل الأحاديث المنسوبة لعمار والتي يزعمون بأنها متواترة قد تكون ضعيفة, وكذلك الأحاديث المنسوبة لأبو هريرة التي يزعمون بأنها متواترة قد تكون ضعيفة. قد أمرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه بالعدل, وقد كرر هذا في عدد من الآيات, فعلينا أن نعدل وإن كنا لا نحب الطرف الآخر, فلا ينبغي أن نجد حديثا ضعيفا فيه بيان فضائل أحد من الصحابة فنتهمه زورا وبهتانا بأنه هو من وضع هذا ليمدح نفسه ويظهر فضله على غيره, بل علينا أولا دراسة السند فلعلّه يكون بريئا وإنما كذب من بعده ونسبوا هذه الكذبة إليه, فبالتالي كرهنا فلانا من الناس بناء على روايات ضعيفة, وهذا ما قد حصل فعلا, ولا يخفى ذلك على أي دارس متعمق. لابد من منهجية صارمة موحدة, لا يتدخل فيه الأهواء وأعلم أن هذا أمر عسير جدا, ولكن هناك أمل, وأملي في الحقيقة في هؤلاء القوم, أقصد الذين يحبون الحق ويعشقونه.

الذي أريد أن أقوله, إن قال العلماء بأن الحديث "الفلاني" صحيح أو ضعيف, ثم أتى باحث في الحديث واكتشفت معلومات قد غابت عن الذي قبله أو غفلوا عنها, فوجد حكما جديدا على هذا الحديث "الفلاني" فلا ينبغي أن يُنكر على هذا الشخص ويتم ارهابه فكريا بأنه يخالف أقوال العلماء ويخالف السلف ويخالف هذا وذاك, فإن الحق لا يعرف بالرجال. فهم رجال ونحن رجال, وكما أن الله رزقهم عقولا فقد رزقنا عقولا أيضا. هناك من يستدل بآيات وأقوال ويضعها في غير محلها وفي غير المراد لها فقط ليرهب هذا المخالف لما ورثه من السلف. هذا الإرهاب الفكري أشبه ما يكون بحال المشركين وارهابهم الفكري للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عندما دعاهم لما يخالف ما ورثوه عن آبائهم. ثم إن المسلم إن خالف عالما من العلماء أو طائفة من العلماء ما المشكلة؟ هل تريدون أن تجعلوا للعلماء عصمة؟ أم تريدون أن تجعلوهم آلهة لا يخطؤون؟ بل إني أظن أن معظم علماء المسلمين الأفاضل مستعدون للرجوع إلى الحق إن هم وجدوه, ويكفينا الشافعي حيث ينسب إليه بأنه قال: "ما كلمت أحداً قط إلا أحببت أن يُوَفق ويُسَدد ويُعَان ويكون عليه رعاية من الله تعالى وحفظ، وما كلمت أحداً قط وأنا أبالي أن يبين الله الحق على لساني أو على لسانه" وقال في موضع آخر: "وددت أن الناس انتفعوا بهذا العلم وما نُسِب إلىَّ شيء منه" هكذا هم علماؤنا, فإنهم لا يبالون أين ظهر الحق, المهم أن يظهر, ولا يريدون من الخلف أن يعظّموهم تعظيما فيه غلو منكر. فمن ينكر على غيره باتباع السلف وعدم مخالفتهم, أقول لهم أولا اتبعوهم في دينهم وأخلاقهم ومن ثم انكروا على غيركم بسبب اختلافهم في مسألة علمية معينة بدلا من رمي الاتهامات الباطلة جزافا والله المستعان. أخيرا, لعله يستحسن على طالب العلم في هذه المواضيع أن يزكّي نفسه قبل الدراسة, ويقرأ كتبا في تزكية النفس ككتب ابن قيم الجوزية, وأبو حامد الغزالي, وابن الجوزي...الخ رحمهم الله ليدرك الباحث مداخل الشيطان وتحكم الهوى في أحكامه وطرق علاج اتباع الهوى وغير ذلك, فإن من قرأ وزكى نفسه واستشفى أولا بكتاب الله سبحانه وتعالى من أمراض القلوب وطلب الهداية من الله, أحرى بالوصول إلى الحقيقة. هذا والله أعلم, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

No comments:

Post a Comment