السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... بما أني كتبت في المشاركات السابقة عن
موضوع كذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام فلا أكاد أشك بأن يأتي أحدهم فيقول: "يا
أخي ليس في الحديث أية مشكلة, وذلك لأن التوفيق ممكن بين القرآن والحديث, والتوفيق
ممكن بين فكرة عصمة الأنبياء من الكذب
والحديث...الخ" منذ أعوام وأنا أقرأ توجيه العلماء للتوفيق بين الحديث
والقرآن إن كان فيما يبدو في ظاهر الأمر وكأنه خلاف أو تناقض, فيقوّمون بما يسمى
بالتوفيق والبحث عن الاحتمالات للتوفيق بين حديث وآية قرآنية, أو بين حديث و آخر
أو حتى بين حديث أو أصل من أصول الدين. فهذه المشاركة هي محاولة مني لنقد هذه
القاعدة, "إذا أمكن التوفيق بين نص قرآني والحديث فنعم ولا نرد الحديث, أما
إذا لم يكن لدينا حيلة في التوفيق نتوقف!"
أقول هذه القاعدة صحيحة في حالة واحدة, وهي التوفيق بين نص قطعي الثبوت
وآخر قطعي الثبوت, أما إعمال هذه القاعدة بين نص قطعي الثبوت وآخر ظني الثبوت فلا.
مثال ذلك, نجد في القرآن الكريم آية فيها: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ
فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا
مُؤْمِنِينَ)) ونجد في موضع آخر من
كتاب الله العزيز: ((فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ
وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ)) أو مثل قوله سبحانه وتعالى: ((وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ
كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ))
فهذه الآيات قد تبدو للبعض متعارضة ومتشاكسة, فهنا أقول نعم لابد من التوفيق ولا
ينبغي لنا أن نرد الحديث أو حتى نتوقف في صحة الكتاب. فالقرآن الكريم ثابت ثبوت
قطعي وكل آيات الكتاب عزيز ثابتة فلا مناص من التوفيق بينها. أما أن تأتي بحديث
غير قطعي الثبوت ويبدو ظاهرا بأن فيه تعارضا ولو من وراء وراء (كما يقولون) فلا!
المسلم ليس مُضطرا بقبول الحديث بناءً على قاعدة التوفيق المذكورة, لأن القرآن
قطعي الثبوت أما النص غير قطعي الثبوت.
هذا التوفيق الذي قعدوا له القواعد هو أحد أهم أسباب الاختلاف بين
المسلمين. وخاصة أن القرآن كما يُروى عن الإمام علي بن أبي طالب: "حمال ذو
وجوه" فالآية قد تحتمل توفيقا باطلا عن طريق تأويلاتهم. فمثلا إن جئت أنا
وقلت بأن إسرائيل حرم على نفسه أكل لحم كذا وكذا, وإنه تخاصم مع إسحاق وإن إسحاق
لم يكذب إلا يوما عندما كان يرعى غنما لإبراهيم...الخ" ومن ثم نسبت هذا القول
إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, قد لا تجد مخالفة مع القرآن وقد تستطيع التوفيق
بينه وبين القرآن, فهل بمجرد التوفيق يعني أن الحديث صحيح وأنه ثابت عن النبي صلى
الله عليه وسلم ولابد من إلزام الناس الإيمان به!؟" هذا لا يقول به إلا من لا
يعرف ماذا يخرج من رأسه! نعم إن كان قطعي الثبوت فمسألة أخرى.
قد تجد آية قطعية الثبوت ظنية الدلالة لا يفهمونها, فيأتي أحد الكذبة فينسب
حديثا للنبي صلى الله عليه وسلم ليفرض رأيه للناس, وأسهل طريقة لفرض الرأي هو أن
نعطي هذا الرأي غطاءً نبويا. ويأتي الكذاب الآخر فيخترع حديثا ثم ينسبه للنبي صلى
الله عليه وسلم ليفرض فهمه للآية على مخالفيه. وطبعا المُصابون بداء الغلو في
الرواة ومروياتهم تجدهم يُوفقون بين الكذب الأول والثاني بتأويلات وتكلفات قد تكون
سخيفة جدا ولا يضعون احتمالا أن أحد الرواة كان كاذبا أو مخطئا أو مكذوبا عليه
وكأنهم يعلمون الغيب فيعلمون ما يضمرون الرواة في أنفسهم. وأنا هنا لا أزعم بأن كل
الأحاديث من صنع الكذبة, لا, إنما أريد أن أقول بأن الحديث قد يكون ضعيفا من ناحية
السند فكيف تقطع؟ أولا قبل البحث الجدي عن سند الحديث فتقول بأن الحديث أخرجه فلان
في كتابه الصحيح فلابد لنا أن نُوفّق بين الآية والحديث, وبهذه الطريقة تم ليي آيات
القرآن الكريم ونحن لا نشعر. والخلاف موجود بين العلماء قديما وحديثا, هل يُقبل أن
نغير معنى الآية بحديث آحاد, لمن أراد تفاصيل هذه المسألة فليرجع إلى كتب الأصول.
يحسن بي في هذا المقام أن أنقل كلاما جميلا من كتاب "رد الحديث من جهة
المتن" للدكتور معتز الخطيب, قال الدكتور: "قد توقف أئمة كبار
ممن عرفوا بنشر السنن, في صحة أحاديث صحيحة الإسناد لمّا قامت لهم حجج في خلافها.
كما توقف أئمة نقاد من المحدثين عن القول بصحة أحاديث ظاهرها الصحة و رواتها ثقات
لما قامت لهم أدلة رجحت وقوع الخطأ في الحديث. لكن نابتة ممن سمّوا بالأثريين
الجدد, قد ضربوا صفحا عن تلك المناهج المعتبرة, أو لم يفقهوا أصولها ومبناها,
ومشوا على الظواهر, فاتهموا وشنّعوا وألزموا من ترك حديثا صح سنده من الأئمة
السابقين بالعمل به, بحجة أنه قد صح سنده" و استشهد هنا في هذا الموضع أيضا بكلام
الشيخ ابن تيمية رحمه الله: "ممن يدعي اتباع الحديث والعمل به, كلما
وجد لفظا في حديث قد رواه ثقة, أو رأى حديثا بإسناد ظاهره الصحة, يريد أن يجعل ذلك
من جنس ما جزم أهل العلم بصحته, حتى إذا عارض الصحيح المعروف أخذ يتكلف له
التأويلات الباردة, أو يجعله دليلا له في مسائل العلم, مع أن أهل الحلم بالحديث
يعرفون أن مثل هذا غلط".
أحب أن أضيف على كلامهما فأقول, بأنه حتى الإنسان العامي إن قام في نفسه
حجج خلاف هذه المرويات ظنية الثبوت, واقتنع بظاهر آيات الله سبحانه وتعالى فلا ينبغي
له أن يُسلم عقله لهؤلاء الذين تفننوا وتساهلوا في التوفيق بين قطعي الثبوت وظني
الثبوت. وذلك لأن هذا الإنسان لن ينفعه يوم القيامة أنا اتبعت أقوال العلماء,
فيُقال له: "لكن لقد أوتيت عقلا وقد قامت في نفسك حجج بخلاف ما ذهبوا إليه
وأن فيما يذهبون إليه في نقص لله أو لرسله فلماذا قلدتهم في شيء ظني الثبوت وظني
الدلالة؟" لن ينفعك وقتها الأعذار السخيفة بأنهم علماء, لأنك كنت تقرأ في
الدنيا: ((وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا
السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا
كَبِيرًا (68) )) قال ابن كثير رحمه الله: ":أي: اتبعنا السادة وهم
الأمراء والكبراء من المشيخة، وخالفنا الرسل واعتقدنا أن عندهم شيئا، وأنهم على شيء
فإذا هم ليسوا على شيء" وقال الطاهر بن عاشور رحمه الله: "وَمَقْصُودٌ
مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَيْضًا الِاعْتِذَارُ وَالتَّنَصُّلُ مِنْ تَبِعَةِ ضَلَالِهِمْ
بِأَنَّهُمْ مَغْرُورُونَ مَخْدُوعُونَ، وَهَذَا الِاعْتِذَارُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِمْ
بِمَا أَنْطَقَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْحَقِيقَةِ إِذْ قَالُوا: إِنَّا أَطَعْنا
سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَيَتَّجِهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَال لَهُم: لماذَا أَطَعْتُمُوهُمْ
حَتَّى يَغُرُّوكُمْ، وَهَذَا شَأْنُ الدَّهْمَاءِ أَنْ يُسَوِّدُوا عَلَيْهِمْ مَنْ
يُعْجَبُونَ بِأَضْغَاثِ أَحْلَامِهِ، وَيُغَرَّوُنَ بِمَعْسُولِ كَلَامِهِ، وَيَسِيرُونَ
عَلَى وَقْعِ أَقْدَامِهِ، حَتَّى إِذَا اجْتَنَوْا ثِمَارَ أَكْمَامِهِ، وَذَاقُوا
مَرَارَةَ طَعْمِهِ وَحَرَارَةَ أُوَامِهِ، عَادُوا عَلَيْهِ بِالْلَائِمَةِ وَهُمُ
الْأَحِقَّاءُ بِمَلَامِهِ." وقال عبدالكريم الخطيب: " أي أن من مقولاتهم
التي يقولونها، ويعتذرون بها هو قولهم: ((رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا
فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا)) إنهم يلقون باللائمة على سادتهم وكبرائهم، وقد كانوا تبعا
لهم، فأوردوهم هذا المورد الوبيل. وتلك حجة داحضة،
وعذر غير مقبول..! لقد باعوا أنفسهم لسادتهم، وعطلوا العقل الذي وهبه الله إياهم، فلم
يصغوا إلى آيات الله، ولم يستمعوا إلى دعوة الرسول، ولم يلتفتوا بعقولهم وقلوبهم إلى
هذا النور الذي غمر الآفاق من حولهم.. بل تركوا لغيرهم مقودهم، وأسلموه زمامهم ...
فإذا دفع بهم قائدهم إلى الهاوية، فهم الملومون، ولا لوم على أحد." فإن قال
لك أحدهم بأنك خباز لا تُحسن الفهم, فقل لهم لا تتشرطوا عليّ شروطا لم يشترطها
الله سبحانه في كتابه.
ثم أورد عليهم أيها العاقل هداك الله ما قاله إمام الحرمين الجويني رحمه
الله في كتابه الرائع (البرهان في أصول الفقه) : "ذهبت الحشوية من الحنابلة وكتبة
الحديث إلى أن خبر الواحد العدل يوجب العلم وهذا خزي لا يخفى مدركه على ذي لب,
فنقول لهؤلاء: أتجوّزون أن يزلّ العدل الذي وصفتموه ويخطئ؟ فإن قالوا: لا, كان ذلك
بهتا و هتكا خرقا لحجاب الهيبة, ولا حاجة إلى مزيد البيان فيه. والقول القريب فيه:
أنه قد زلّ من الرواة الأثبات جمع لا يعدّون كثرة. ولو لم يكن الغلط متصورا لما
رجع راو عن روايته, والأمر بخلاف ما تخيّلوه. فإذا تبين إمكان الخطأ فالقطع بالصدق
مع ذلك محال. ثم هذا في العدل في علم الله تعالى, ونحن لا نقطع بعدالة واحد, بل
يجوز أن يضمر خلاف ما يظهر. ولا مُتعلّق لهم إلا ظنهم أن خبر الواحد يوجب العمل,
وقد تكلّمنا عليه بما فيه مقنع" رحم الله الإمام, من قرأ مقدمات المنطق
والعقليات لعلم حسن كلام الإمام, ولكن لا تستبعد أن يوردوا عليك قول: "من
تمنطق تزندق" فلسنا ملزمين بقبول كل توفيق لحديث وآية إن كثرت الشبهات على
الرواية والراوي وخاصة إن كان هو الوحيد الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم
ذلك. وبالرغم من قولي هذا, لا يعني بأني أقول لابد من رد الحديث والقطع بأنه ضعيف
فهذا أيضا لا يقول به عاقل لكن هناك طبعا أمور لابد من ردها لشناعة متنها.
وللأسف توسعوا في التوفيق لأنهم يظنون كما ظن ابن العربي رحمه الله
في كتابه المحصول في أصول الفقه: "والصحيح عندي أن الله تبارك وتعالى قد طمس
هذا الباب في أوجه الملاحدة, فلا يقدرون على اختراع كذب لا يقبل تأويلا بحال, حسب
ما بيّناه في كتاب المتوسط والحمدلله" فهذا اعتراف من ابن العربي بأن الكذب
يحتمل التأويل ويمكن أن يُوفّق بينه وبين كتاب الله أو بين الأصول المعلومة من
الدين بالضرورة. وابن العربي نفسه يرى أن الحديث الذي سأذكره يقبل التأويل أيضا
بالرغم من قبحه, والحديث الذي أقصده: "أن الله تبارك وتعالى خلق خيلا,
فأجراها, فعرقت, فخلق نفسه من عرقها" فإن كان هذا الحديث عند القوم في الصحاح
عند البخاري أو مسلم أو كبار المحدثين, لقالوا لا نتوقف في الحديث بل لابد من
التوفيق وبعد التوفيق لابد من الأخذ به وهكذا وهذا كله من آثار الغلو وإن سموها
بتسميات مختلفة.
قال الدكتور معاذ الخطيب بعد ما أورد كلام ابن العربي الذي ذكرته:
"وقد أوردت هذا النص مع ما فيه, لبيان طريقة بعض الفقهاء في تمحّل التأويلات,
مع تقريرهم لأصل المسألة, وقد وقع في هذا محدثون كذلك" وقد اختبرت ذلك في
مناقشتي لأحاديث خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم مع كثير من الإخوة, يأتونك
بتأويلات باردة أو احتمالات سخيفة فقط صونا للمرويات التي عندنا وذلك لأنهم يقطعون
بأن النبي صلى الله عليه وسلم قالها ولا يقبلون احتمال ضعف الحديث أو كذب الرواة
ويسهل عليهم جدا أن يحتملوا الاحتمالات في كتاب الله ويغيروا الكلم عن مواضعه وهم
لا يشعرون فقط بحجة أن القرآن يحتمل تأويلاتهم واللفظ يحتمله, أما إنهم لو درسوا
أصول هذه الأمور لاكتشفوا الخطأ الذي وقعوا فيه. أحيانا تجد أهل الحديث أو حتى
الفقهاء, يقولون بأن الحديث الفلاني نسخت الآية كذا وكذا أقول سبحان الله ما هذا
الجهل! وهل يُنسخ القرآن الكريم الثابت ثبوتا قطعيا متواترا بحديث آحاد لم يرويه
عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا صحابي واحد والحديث نفسه فيه شبهات؟ كيف تجرؤون
على نسخ آيات الله بهذه الطريقة, هل فقط لأن الحديث مذكور في البخاري أو مسلم؟
والله إني لأستغرب من جرأتهم وعدم تحرّجهم من صنيعهم هذا والأدهى والأمر يلزمون
المسلمين بالأخذ بها وقبول أن الآية نُسخت بسبب الحديث, ومن الجهل ما قتل! وهكذا يروون: "لقد نزلت آيةُ الرَّجمِ ، ورضاعةُ الْكبيرِ عشرًا ، ولقد كانَ في صحيفةٍ تحتَ سريري ، فلمَّا ماتَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليْهِ وسلَّمَ وتشاغلنا بموتِهِ ، دخلَ داجنٌ فأَكلَها" والله عن نفسي لا أستطيع قبول هذا الحديث وإن حسّنه الألباني رحمه الله وإن تمحلوا التأويلات أو عملوا بقاعدة التوفيق بين النصوص, بل أكاد أجزم بأن الحديث في سنده مشكلة, أو مشاكل! لا أقول
بأنه لا ينبغي لهم أن يُفكروا, لا بأس في ذلك, ولكن الذي أنكر عليهم أن يلزموا
الناس بقبول هذه المرويات بناء على توفيقهم هم للحديث.
أختم هذه المشاركة بكلام نفيس للدكتور معاذ الخطيب, قال الدكتور: "وينبغي
أن لا يدار الأمر على الاحتمالات والاندفاع إلى صون الرواة فقط, فمدار الأمر عند
أئمة هذا الفن على ما يقوى في الظن بالاستناد إلى القرائن وتتبع الطرق والمخارج
وأحوال النقلة, فقد رأينا كيف أن الولع بصون الرواة عن الخطأ أوقع في تطرّق الخلل
إلى جهات أخرى" وهذا والدكتور بعيد عن مسألة تفعيل الجرح والتعديل على جميع
الطبقات, وإلا إن طبقنا ما اقترحته في مشاركاتي السابقة في المدونة, لا يكاد
يستقيم لهم هذه القاعدة التي قعدوها لأنفسهم ومن ثم ألزموا الناس بها ظلما أو جهلا
والله المستعان. أسأل الله أن يسددنا ويرشدنا ويوفقنا لكل خير, والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته...
No comments:
Post a Comment